(الصفحة 310)
وأمّا الشبهة على تقدير كون الفسخ مؤثّراً من حين العقد ، فهي أنّ الأمر المتأخّر كيف يعقل أن يؤثِّر في الأمر المتقدّم ، ضرورة أنّ المنافع التي استوفاها بعنوان الملكيّة قد انقضت ، وكيف يمكن أن تصير ملكاً للمؤجر موجباً لثبوت اُجرة المثل .
وتندفع أيضاً بأنّ الاُمور الاعتبارية خارجة عن حريم التأثير والتأثّر الحقيقي الموجود في الاُمور الحقيقية ، وعليه فلا مانع من اعتبار العقد بعد تحقّق الفسخ في الأثناء كأن لم يتحقّق أصلاً ، فالمسألة خالية عن الشبهة العقليّة .
ثمّ إنّه لابدّ من ملاحظة أنّ ترتّب الانفساخ من حين الفسخ أو من حين العقد على الفسخ هل هو أمر قهري شرعي ; بمعنى أنّه ليس للفاسخ إلاّ حقّ الفسخ ، وأمّا كون الانفساخ من الحين أو من الأصل فهو أمر خارج عن حدود اختياره وإرادته ، أو أنّه أيضاً بيد الفاسخ فيمكن له الفسخ من الحين ويمكن له الفسخ من الأصل ، أو أنّه لابدّ من التفصيل بين أنحاء الخيارات ؟ وجوه واحتمالات ، والذي يظهر منهم هو الاحتمال الأوّل ، ولكن مقتضى التحقيق هو الأخير كما أفاده المحقّق الإصفهاني (قدس سره)(1) :
فإن كان سبب الفسخ هو اشتراط الخيار في متن العقد فالظاهر أنّه تابع لكيفيّة الاشتراط ، فإن كان الشرط هو الفسخ المؤثّر من حينه فليس له إلاّ ذلك ، كما أنّه لو كان الشرط هو الفسخ من الأصل يؤثّر فسخه في ذلك من غير إشكال ، ولا يبعد أن تكون الإقالة من هذه الحيثيّة بيد الطرفين أيضاً ، بناءً على جريانها في الإجارة
- (1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 174 .
(الصفحة 311)
كما عرفت الكلام فيها في أوّل الكتاب(1) .
وإن كان سبب الفسخ هو الخيار الذي كان المدرك له قاعدة نفي الضرر ـ بناءً على دلالتها على الخيار المصطلح على خلاف ما قلناه مراراً ـ فاللاّزم ملاحظة أنّ الضرر هل يندفع بانحلال المعاملة من حين الفسخ أولا يندفع إلاّ بانحلاله من رأس؟
وإن كان السبب هو الخيار الذي دلّ على ثبوته الأدلّة الخاصّة كخيار العيب مثلاً ، فاللاّزم ملاحظة تلك الأدلّة الخاصّة ، وأنّ مفادها هل هو الفسخ في المجموع كما اختاره المشهور(2) ، حيث قالوا بعدم استحقاق إعمال الخيار في ردّ بعض المعيب ، أو المعيب الذي اشتراه مع الصحيح ، أو أنّ مفادها ثبوت حقّ الفسخ ولو في الابعاض ؟ والبحث في ذلك موكول إلى محلّه .
وقد انقدح ممّا ذكرنا أنّ ما نسب إلى المشهور(3) في المقام من أنّ الفسخ مطلقاً بأيّ سبب كان لا يؤثِّر إلاّ من الحين ، ولازمه تقسيط الاُجرة المسمّـاة ليس إطلاقه في محلّه ، وقد ذكر بعض المتتبعين : أنّ هذه النسبة غير ثابتة(4) ، والأمر سهل بعدما عرفت .
ثمّ إنّه بملاحظة ما ذكرنا من حكم صورة تجدّد الفسخ في الأثناء بعد القبض يعلم حكم سائر صور الفسخ بضميمة ما ذكرنا في التلف من حكم جميع الأقسام والصور ، فلا نطيل بالتعرّض لها تفصيلاً .
- (1) في ص132 ـ 136.(2) مسالك الأفهام: 3 / 286 ، رياض المسائل : 5 / 179 ـ 180 ، مفتاح الكرامة : 4 / 629ـ 630 ، جواهر الكلام: 23/ 247 ـ 248 ، كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 5 / 310 ، بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 174 .(3) العروة الوثقى : 5 / 41 مسألة 5 .(4) العروة الوثقى : 5 / 41 ، التعليقة 4 .
(الصفحة 312)مسألة : لو آجر داراً فانهدمت بطلت الإجارة إن خرجت عن الانتفاع الذي هو مورد الإجارة بالمرّة ، فإن كان قبل القبض أو بعده بلا فصل قبل أن يسكن فيها رجعت الاُجرة بتمامها ، وإلاّ فبالنسبة كما مرّ . وإن أمكن الانتفاع بها من سنخ مورد الإجارة بوجه يعتدّ به عرفاً، كان للمستأجر الخيار بين الإبقاء والفسخ ، ولو فسخ كان حكم الاُجرة على حذو ما سبق . وإن انهدم بعض بيوتها ، فإن بادر المؤجر إلى تعميرها بحيث لم يفت الانتفاع أصلاً ليس فسخ ولا انفساخ على الأقوى ، وإلاّ بطلت الإجارة بالنسبة إلى ما انهدمت وبقيت بالنسبة إلى البقيّة بما يقابلها من الاُجرة ، وكان للمستأجر خيار تبعّض الصفقة1 .
1 ـ هذه المسألة من المسائل التي وقع التعرّض لها من زمن القدماء إلى زماننا هذا ، وفي مفتاح الكرامة : قد نطقت عبارات الأصحاب من المقنعة(1) إلى الكتاب ـ يعني القواعد(2)ـ بأمرين :
الأوّل : أنّه إذا انهدم المسكن ثبت له الخيار إلاّ أن يعيده المالك ، أو نحو ذلك ،
الثاني : إذا انهدم المسكن سقطت الاُجرة إلاّ أن يعيده ، وقد علمت أنّ الظاهر أنّ معنى سقوط الاُجرة ثبوت الخيار ، فالجميع بمعنى واحد ، وقد ذكر قبل ذلك أنّ الأمر الثاني واقع في عبارات المقنعة والنهاية(3)والمراسم(4) والوسيلة(5) .
وقد زيد عليها ـ أي على إحدى العبارتين ـ بعض القيود من بعض الفقهاء ،
- (1) المقنعة : 640 .(2) قواعد الأحكام : 2 / 289 .(3) النهاية : 444 .(4) المراسم العلويّة: 199.(5) الوسيلة : 267 ـ 268 .
(الصفحة 313)
كالتقييد بما إذا أمكن إزالة المانع(1) ، أو بما إذا بقي أصل الانتفاع(2) ، أو بما إذا لم يكن الإنهدام من ناحية المستأجر(3) ، ولكنّ الظاهر استفادة كلّ ذلك من العبارة بحيث لا يحتاج إلى التنبيه عليه(4) ، فتدبّر .
وكيف كان ، فاعلم أنّه إذا انهدم المسكن وخرج عن الانتفاع بالمرّة ، أو عن الانتفاع الذي استأجره له بنحو التقييد ووحدة المطلوب ، ولم يمكن الإعادة في المدّة المأخوذة في الإجارة، فالظاهر كما صرّح به جماعة(5) هو بطلان الإجارة فيما إذا كان قبل القبض ، أو بعده قبل مجيء زمان السكنى .
وأمّا الانهدام مع إمكان الإعادة فمع عدم الإعادة من المالك يكون ظاهر العبارات ثبوت خيار الفسخ للمستأجر ، ومع الإعادة بحيث لا يفوت شيء من المنافع محلّ خلاف بين الأعلام ، وقبل الخوض في ذلك لابدّ من التعرّض لدفع شبهة عقلية يمكن إيرادها في المقام ; وهي أنّه بالانهدام تنعدم العين الشخصية التي هي مورد الإجارة ، والإعادة لا توجب بقاء الإجارة ; لأنّها تستلزم ثبوت عين اُخرى مغايرة لما هو مورد الإجارة ، فلا مجال للبحث عن ثبوت الخيار وعدمه ، بل اللاّزم الحكم بالبطلان بمجرّد الانهدام ، سواء كانت الإعادة ممكنة أم لا ، وسواء أعادها أم لم يعدها .
والجواب عنها : أنّ الغرض غالباً فيما لو كان مورد الإجارة هي العين الشخصية
- (1 ، 2) جامع المقاصد : 7 / 141 ، مسالك الأفهام : 5 / 219 ، الروضة البهية : 4 / 353 .(3) نسبه إلى الشهيد في مفتاح الكرامة : 7 / 154 ، واختاره في الحدائق الناضرة : 21/558 .(4) مفتاح الكرامة : 7 / 153 ـ 154 .(5) كالشيخ في المبسوط : 3 / 222 و224، وابن إدريس في السرائر : 2 / 258، والشهيد الثاني في مسالك الأفهام: 5 / 219، والطباطبائي في رياض المسائل : 6/32.
(الصفحة 314)
الخارجية إنّما تعلّق بها لأجل منافعها التي لا يتوقّف الوصول إليها على بقاء هذه الشخصية ، ألا ترى أنّ من استأجر داراً مخصوصة للسكنى يكون غرضه السكونة في مثل هذه الدار الواجدة للجهات المنظورة له ، ولا غرض له إلى نفس هذه الشخصية حتّى تكون إعادتها بالكيفيّة الأوّلية مخالفة لغرضه . نعم ، قد يتحقّق التخلّف مع الإعادة ولكنّه من الفروض النادرة ، فهذه الشبهة مخالفة لما عليه يبتني أساس باب المعاملات من ملاحظة الأغراض العرفية والأنظار العقلائية ، فدعوى البطلان مع إمكان الإعادة ساقطة بالمرّة .
ثمّ إنّه لايتوهّم أنّ مقتضى ما ذكرنا جواز الإبدال فيما لو آجره دابّة معيّنة لأجل الحمل أو الركوب مثلاً ثمّ هلكت الدابّة قبل ذلك ، نظراً إلى أنّ الغرض يتعلّق نوعاً بالركوب أو الحمل ، من دون نظر إلى خصوص الدابّة المعينة المستأجرة التي عرض لها التلف ، وعليه فيجوز لصاحب الدابّة إبدالها بدابّة اُخرى واجدة للجهات الملحوظة فيها ـ أي في الدابّة الاُولى ـ مع أنّ الظاهر بطلان الإجارة بسبب موت الدابّة المستأجرة المعيّنة .
وجه فساد التوهّم المزبور ثبوت الفرق بين المقام وبين الدابّة المفروضة ، فإنّ مغايرة الدابّة الثانية مع الاُولى لدى العرف أيضاً متحقّقة ، ومورد الإجارة إنّما هي الاُولى دون الثانية ، فلا وجه لبقاء الإجارة ، وأمّا المقام فالعين المعادة لا تتّصف بالمغايرة معها قبل الإعادة ، فالمقايسة فاسدة .
ثمّ إنّه يرجع إلى ما ذكرنا ـ من أنّ الحكم بالصحّة وعدمها يدور مدار أخذ الخصوصيّة بنحو يبقى مورد الإجارة بعد الانهدام والإعادة وعدمه ـ ما حكاه المحقّق الرشتي (قدس سره) عن شيخه العلاّمة بعد توصيفه بأنّه تحقيق رشيق وحاصله : أنّ الخصوصية إمّا أن تكون داخلة في متعلّق الإجارة دخول الجزء المقوّم في الكلّ ،