(الصفحة 367)
للكليّة المستفادة من نصوص الجواز ; وذلك لأنّه مناف لإلغاء الخصوصيات الموجب لورود المنع والجواز على العين المستأجرة بما هي عين ، لا بما هي أرض أو بيت أو حانوت ، إلاّ أنّ إلغاء الخصوصيات دونه خرط القتاد(1) .
أقول : يرد على ما أفاده ـ من أنّ الصحيح بناءً على إلغاء الخصوصيّة هو الحكم بالكراهة في الكلّ ـ أنّ الحكم بالكراهة إنّما هو لأجل الجمع بين أخبار المنع وأخبار الجواز كما اعترف (قدس سره) به ، مع أنّ أخبار الجواز بين ما يدلّ على الجواز مطلقاً ، من دون فرق بين ما إذا أحدث وما إذا لم يحدث ، وبين ما يدلّ عليه في خصوص ما إذا أحدثوأصلح، أمّاالطائفة الاُولى فهي الأخبار الواردة في الأرض فقط ، وقد عرفت أنّ هذه الطائفة أجنبيّة عن المقام واردة في باب المزارعة ، وعلى تقدير ورودها في باب الإجارة لا معنى لإلغاء الخصوصية عنها بالنسبة إلى الأرض ، ضرورة أنّ ما يدلّ على نفي المماثلة بين الأرض وبين البيت والحانوت والأجير لا يعقل فيه دعوى التعدّي ; لأنّ مرجعه إلى دلالته على الجواز في الجميع ، والحرمة كذلك .
أمّا الأوّل: فلأنّه مقتضى إلغاءالخصوصية عن الأرض التي حكم فيها بعدم البأس.
وأمّا الثاني: فلأنّه مقتضى التعدّي عن العناوين الثلاثة المحكومة بالحرمة ، فاللاّزم دلالة دليل واحد على الجواز في الجميع ، والحرمة كذلك . ومن الواضح أنّه لايتفوّه به أحد ، فاللاّزم أن يقال : إنّ القائل بالتعدّي وإلغاء الخصوصية إنّما يحكم بذلك في غير الأرض ، وعليه فليس مقتضى الجمع هو الحمل على الكراهة ; لأنّ الروايات حينئذ بين ما يدلّ على المنع مطلقاً ، وبين ما يدلّ على نفي البأس فيما إذا أحدث شيئاً ، ومقتضى قاعدة حمل المطلق على المقيّد هو القول بالحرمة مع عدم الإحداث .
- (1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 63.
(الصفحة 368)
ثمّ إنّه مع قطع النظر عمّا ذكرنا يرد عليه أيضاً أنّه على فرض الإطلاق في كلتا الطائفتين : المانعة والمجوِّزة ، نقول : إنّ الروايات المانعة ليس المنع فيها بطريق النهي فقط حتّى يقال : إنّ حمل النهي على الكراهة لأجل دليل الجواز جمع مقبول لدى العرف والعقلاء ، بل بعضها قد استعمل فيها لفظ الحرمة ، كالروايات الواردة في تلك العناوين الثلاثة ، وهو إن كان أيضاً ظاهراً في الحرمة المصطلحة وليس نصّاً فيها ، إلاّ أنّ العرف يرى التعارض بين ما يدلّ على حرمة شيء ، وبين ما يدلّ على نفي البأس عنه ، والعمدة في باب المتعارضين والمتبع فيه هو نظر العرف ، فلا مجال للحمل على الكراهة ، بل لابدّ من إعمال قواعد التعارض وأحكام المتعارضين .
ثمّ إنّه ربما يورد عليه أيضاً بأنّ ما أفاده من أنّه على تقدير إلغاء الخصوصية لا وجه لإبقاء الحرمة في بعض العناوين لمنافاته لإلغائها غير تامّ ; لأنّه يمكن الجمع بين الأمرين; نظراً إلى أنّ كثرة نصوص الجواز تمنع عن الحكم باختصاصه بالعناوين المأخوذة فيها ، خصوصاً مع كونه مقتضى القاعدة على ما عرفت في أوّل البحث ، وحينئذ فلا مانع من استفادة عموم الجواز من أدلّته ، وأمّا دليل الحرمة فيمكن أن يقال باختصاصه بخصوص العناوين المأخوذة فيه ; لاشتراكها في قدر جامع لايتجاوزها ، وهذا لايكون منافياً لإلغاء الخصوصية كما لا يخفى . والذي يسهل الخطب أنّ ذلك كلّه مبنيّ على دعوى إلغاء الخصوصية ، وهي كما اعترف به (قدس سره)دونها خرط القتاد .
وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّه بناءً على اختصاص الحكم بالعناوين المأخوذة في الروايات يكون الحكم في غير تلك العناوين كالثوب والدابّة وغيرهما على وفق القاعدة المقتضية للجواز ، كما هو ظاهر .
الأمر الثاني : قد استثني في العبارات من التحريم أو الكراهة أمران :
(الصفحة 369)
أحدهما : ما إذا أحدث شيئاً ، وقد وقع التصريح باستثنائه وبعدم البأس معه في النصوص الواردة في الدار والسفينة والرحى ، وأمّا الروايات الواردة في الأرض فقد عرفت أنّ جُلّها أجنبيّ عن المقام ، وبعض ماورد منها في باب الإجارة قد صرّح فيها بعدم البأس فيما إذا أصلح فيها شيئاً كما تقدّم ، فلم يبق إلاّ الروايات الواردة في البيت والحانوت ، وهذه الروايات الدالّة على حرمة فضل هذين العنوانين كالأجير خالية عن استثناء صورة الإحداث ، مع أنّ الظاهر من العبارات استثناء هذه الصورة في جميع العناوين .
وربما يقال في وجهه : تارةً بأنّ هذه الروايات وإن لم يقع فيها التعرّض للاستثناء ، إلاّ أنّه لا إطلاق لها حتّى يكون مقتضاها الحرمة مطلقاً ; لأنّها مسوقة لبيان جواز إجارة الأرض وأنّها ليست مماثلة لهذه العناوين في الحرمة ، فلا إطلاق لها بالنسبة إلى الحرمة وشمولها لصورة الإحداث .
واُخرى بأنّ هذه العناوين الثلاثة عبارة عن الأجير الذي لا موقع للاستثناء فيه، والبيت الذي هو متّحد مع الدار الذي نصّ على الاستثناء فيه في دليله ، والحانوت الذي لم يرد فيه نصّ ، والمظنون قويّاً كونه كرديفه : الدار في رفع الحرمة بإحداث الحدث .
وثالثة بأنّ مقتضى التعدّي عن العناوين المأخوذة في الروايات وإلغاء الخصوصية عنها إسراء حكم المستثنى أيضاً إلى جميع الموارد ، وإن أبيت عن ذلك فيمكن أن يقال بإلغاء الخصوصية من الاستثناء فيه ، والحكم بعدم اختصاصه بخصوص ما وقع فيه التصريح به ، بل يعم مثل البيت والحانوت أيضاً .
وأنت خبير بعدم تماميّة شيء من هذه الوجوه :
أمّا الوجه الأوّل : فلأن الظاهر من تلك الروايات إفادة كون الموضوع للحرمة
(الصفحة 370)
هو مجرّد الفضل في العناوين الثلاثة ، وليس الغرض مجرّد إفادة نفي المماثلة بين الأرض وبينها ، وإلاّ لكان اللاّزم الاقتصار على الحكم بنفي البأس في الأرض وأنّها ليست مثلها ، فيصير قوله (عليه السلام) : «إنّ فضل البيت حرام»(1) ، بعد ذلك بمنزلة التكرار الذي هو خلاف الظاهر ، فالظاهر كونه مسوقاً لبيان الحكم وأنّ تمام الموضوع هو مجرّد الفضل ، فلا مجال لإنكار الإطلاق .
وأمّا الوجه الثاني : فعدم كون الأجير موقعاً للاستثناء ممنوع ; لأنّه يمكن فيه أيضاً تصوّر الإحداث ، بأن يجهزه للعمل مثلاً زائداً على تجهيزاته ونحو ذلك ، والبيت لم يعلم اتّحاده مع الدار كما عرفت .
وأمّا الوجه الثالث : فدعوى إلغاء الخصوصية مطلقاً من المستثنى منه والمستثنى معاً قد عرفت أنّ دون إثباتها خرط القتاد ، ودعوى إلغاء الخصوصية من خصوص المستثنى وإن كان يمكن توجيهها ; بأنّ الظاهر أنّ استثناء صورة الإحداث إنّما هو للخروج بذلك عن الربا التي هي الحكمة في أصل الحكم ، إلاّ أنّ رفع اليد عن الإطلاقات بمجرّدهذه الدعوى مع عدم ثبوتها بالبيّنة أو البرهان في غاية الإشكال .
فظهر من جميع ما ذكرنا أنّه لا وجه للاستثناء في العناوين الثلاثة المحكومة بالحرمة لعدم الدليل عليه ، اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ الموضوع للحرمة في هذه الروايات هو عنوان الفضل ، وتحقّق هذا العنوان في صورة الإحداث غير معلوم ، وهذا بخلاف سائر الروايات الدالّة على النهي عن الإيجار بأكثر ممّا استأجر العين به ، فإنّ عنوان الأكثرية متحقّق في كلتا الصورتين كما هو ظاهر ، وعليه فلا موقع في المقام للاستثناء ، بل يصير على تقديره كالاستثناء المنقطع .
(الصفحة 371)
ثمّ إنّه قد وقع في الروايتين المتقدّمتين الواردتين في الرحى استثناء صورة الغرامة أيضاً ، وليس له في كلام الأصحاب ذكر ، والظاهر أنّ المراد بها ما غرّمه بإزاء عمل في الرحى في مقابل الإحداث الظاهر في عمله فيه بنفسه ، فتدبّر .
ثمّ إنّ إحداث الحدث في العين المستأجرة هل يشمل مثل الكنس والتنظيف ونظائرهما أم لا ؟ وجهان ، والظاهر هو الوجه الثاني .
ثانيهما : ما إذا كانت الاُجرة مغايرة لجنس الاُجرة في الإجارة الاُولى ، وقد حكي عن الإيضاح أنّه قال : وقال الشيخان(1) والمرتضى(2) وسلاّر(3) والصدوق في المقنع(4) وأبو الصلاح وابن البراج في المهذّب(5) بالمنع مع اتّحاد الجنس(6) ، وهو أيضاً ظاهر المتأخّرين(7) بل صريحهم ، ولكن الروايات المتقدّمة ليس في شيء منها الإشعار بهذا الاستثناء ، وغاية ما قيل أو يمكن أن يقال في توجيهه : إنّ المتبادر من لفظ «الأكثر» لزوم التماثل واتّحاد الجنس ; لأنّه لا يقال في المختلفين : إنّ هذا أكثر من الآخر ، ولكنّه اُجيب عنه بالمنع طرداً وعكساً ; إذ يصحّ أن يقال : هذه الحنطة أكثر من هذا الزبيب مع اختلافهما ، ولا يصحّ أن يقال : هذا الحمار أكثر من هذا الحمار .
ويمكن التوجيه بوجه آخر يستفاد من كلام المحقّق الرشتي (قدس سره) ، حيث قال : إنّ الأكثرية من الاُمور الإضافية المبهمة المحتاجة إلى ذكر التميّز في الاستعمالات ، وإلاّ
- (1) النهاية : 439 ، المقنعة : 636 ، لكنّه قائل بالكراهة دون التحريم.(2) الانتصار : 475 .(3) المراسم : 198 ، لكنّه قال بالكراهة.(4) اُنظر المقنع : 391 ـ 392 .(5) المهذّب : 1 / 474 و 486.(6) إيضاح الفوائد : 2 / 250 .(7) كصاحب جامع المقاصد : 7 / 119 ، ومسالك الأفهام : 5 / 180 ، وجواهر الكلام : 27 / 222 .