(الصفحة 372)
كان مجملاً خارجاً عن حدّ الإفادة لا أن تكون حرمة الكثرة بقرينة المقام معلومة ، فيصحّ استعمالها بدون ذكر التميّز ، وحيث لم يذكر الراوي تميّزاً فلابدّ أن يُحمل كلامه على صورة تكون حرمة الكثرة فيها معلومة ، وليست إلاّ بعض أقسام متّحد الجنس(1) ، وحاصله الأخذ بالقدر المتيقّن بعد الإجمال وعدم وضوح المراد منها .
ولكنّه يرد عليه : أنّ الظاهر كون الأكثر في المعاملات ملحوظاً بالنظر إلى القيمة ، فتعمّ الروايات للاُجرتين المختلفتين إذا كانت الثانية أكثر من الاُولى من حيث الماليّة .
وربما يتوهّم في توجيه الاستثناء أنّ الوجه فيه صدق الربا في المتجانسين دون المختلفين .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّه لم يعلم كون المراد بالجنس في هذا المقام في كلام المشهور هو الجنس في باب الربا ، بحيث كانت الحنطة والشعير مثلاً من جنس واحد ، بل الظاهر أنّهما في هذا المقام متغايران ، وإلى أنّ الربا إنّما تجري في خصوص مثل المكيل والموزون ، وظاهرهم هنا المغايرة مطلقاً كما لا يخفى ـ : أنّ تحقّق الربا في المقام ولو على القول بصدقه على مطلق الزيادة ممنوع جدّاً بعد تعدّد المعاملة وعدم الارتباط بينهما ، فالإنصاف أنّه لا يمكن توجيه الاستثناء الواقع في كلام المشهور بوجه خال عن المناقشة .
والتحقيق أنّ المراد بالأكثرية في الروايات هو الأكثرية في المالية ; وهي غير منوطة بالتماثل ، لا فيما كانت الاُجرة متمحّضة في المالية كالنقود ، فإنّ اتّصاف عشرة دنانير بكونها أكثر من عشرة دراهم واضح ، ولا في غير هذه الصورة كغير
- (1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 98 .
(الصفحة 373)
النقود ، فإنّ مقام الثمنية والاُجرة كما أفاده المحقّق الإصفهاني (قدس سره)(1) مقام النقدين في التمحّض في المالية ; لأنّه لم يلاحظ في مقام عوضية شيء إلاّ انحفاظ مالية المعوّض به ، والرغبات النوعية متوجّهة نحو المعوّض من حيث كونه حنطة أو شعيراً ، أو منفعة الدار الكذائية والعمل الكذائي . نعم ، لو كان الغرض في بعض الموارد متعلّقاً بالعوض بعنوانه لا من حيث المالية ـ كما في الأماكن التي تتعارف فيها المعاملة بين الأجناس بعضها ببعض ، لا بينها وبين النقود ـ لا يبعد أن يقال : بأنّ الأكثرية حينئذ تلاحظ في كلّ جنس بحسبه ، ففي الاُمور التي يلاحظ مقدارها تعتبر من حيث المقدار ، وفي المعدودات من حيث العدد وهكذا .
هذا ، ولكنّ الظاهر ندرة هذا الأمر ، والحكم في الروايات إنّما هو بلحاظ النوع الذي يكون العوض عندهم ملحوظاً من حيث المالية فقط ، فإذا زادت قيمة منّ من الحنطة الواقعة اُجرة في الإجارة الثانية على قيمة منّين منها الواقعة اُجرة في الإجارة الاُولى تصدق الأكثرية ، وإن كانت أقلّ من حيث المقدار . هذا كلّه فيما يتعلّق بكلمة «الأكثر» الواقعة في كثير من الروايات .
وأمّا كلمة «الفضل» الواقعة في روايات الأجير والبيت والحانوت فالظاهر أنّ المراد بها هو الفضل في المالية أيضاً ، وأمّا ما أفاده المحقّق الإصفهاني(2) تبعاً للمحقّق الرشتي(3) من الفرق بين عنوان الأكثرية وبين عنوان الفضل ، وأنّه يمكن استفادة لزوم التماثل من الأوّل دون الثاني ففيه : أنّه لم يعلم وجه للفرق بينهما من هذه الجهة أصلاً ; لأنّه كما تكون الأكثرية من الاُمور الإضافية المبهمة المحتاجة إلى التميّز ،
- (1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 64 .(2) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 64 ـ 65 .(3) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 98 .
(الصفحة 374)
كذلك عنوان الفضل يحتاج إلى مميّز ، وأنّ الزيادة والفضيلة هل هي في المالية ، أو في الوزن ، أو في العدد ، أو في غيرها ممّا يصلح أن يكون تميّزاً لها ، فأيّ فرق بينهما من هذه الجهة ؟
نعم ، يمكن الفرق بينهما من جهة اُخرى ; وهي أنّ ظاهر الروايات المشتملة على عنوان الأكثرية كون المفضل عليه هي الاُجرة في الإجارة الاُولى ، والمفضل الاُجرة في الإجارة الثانية ، وأنّه لا تجوز أكثرية الثاني من الاُولى ، وأمّا الروايات المشتملة على عنوان الفضل قد اُضيف فيها هذا العنوان لا إلى الاُجرة ، بل إلى البيت والحانوت والأجير ، والظاهر تحقّق هذا العنوان فيما لو لم تكن الاُجرة الثانية زائدة على الاُجرة الاُولى ، بل كانت الزيادة والفضيلة لأجل إضافة شرط في الإجارة الثانية مفقود في الاُولى ، وهذا بخلاف عنوان الأكثرية بلحاظ الخصوصية المذكورة ، فتأمّل جيّداً .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّه لم ينهض حجّة على التفصيل الذي ذهب إليه المشهور ; وهو الفرق بين اتّحاد الجنس وتغايره ، إلاّ أن يناقش فيما استظهرنا من عنوان الأكثر فيرجع إلى القواعد في صورة تغاير الجنسين ، ولكنّه يرد على المشهور أنّهم ماذا يلتزمون في المثال المذكور ; وهو مالو زادت قيمة مَنّ من الحنطة على قيمة منّين منها ، فإن قالوا فيها بعدم تحقّق عنوان الأكثرية فهو خلاف الظاهر جدّاً ، وإن قالوا بالتحقّق فلازمه الالتزام بكون المعيار هي الأكثرية في المالية ، كما لا يخفى .
الأمر الثالث : في إجارة بعض العين المستأجرة ، وكذا في إجارتها في بعض المدّة مع السكونة في البعض من العين أو المدّة ، فنقول : فيه صور ثلاث :
الاُولى : ما إذا آجر البعض غير المسكون بأزيد من الاُجرة في الإجارة الاُولى ،
(الصفحة 375)
أو آجر العين في بعض المدّة كذلك ، ربما يقال : بأنّه لا ينبغي الإشكال في حرمته أو كراهته ; لفحوى ما دلّ على حرمة إيجار الكلّ بالأكثر أو كراهته .
ويرد عليه : أنّه إن كان المراد بالفحوى هي الأولوية القطعية ففيه : منعها في مثل هذه الأحكام التعبّدية ، وإن كان المراد الأولوية العرفية فلا دليل على حجّية مثلها ، اللّهمَّ إلاّ أن يكون المراد أنّ المتفاهم عند العرف من الأخبار الدالّة على حرمة إيجار الكلّ بالأكثر أوكراهته جريان الحكم في البعض، وأنّه ليس للكلّ بماهوكلّ خصوصيّة في ذلك ، خصوصاً لو كان الوجه هو التشابه بباب الربا المحرم ، كما لايخفى .
ويمكن الاستدلال عليه ـ مضافاً إلى ماذكر ـ بقوله (عليه السلام) في رواية الحلبي المتقدّمة : لو أنّ رجلاً استأجر داراً بعشرة دراهم فسكن ثلثيها ، وآجر ثلثها بعشرة دراهم لم يكن به بأس ، ولا يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به إلاّ أن يحدث فيها شيئاً(1) بناءً على أن يكون الضمير في قوله (عليه السلام) : «لايؤاجرها» راجعاً إلى الدار باعتبار الثلث لا إلى الدار نفسها ، ولو نوقش في ذلك باعتبار ظهور كون الضمير راجعاً إلى الدار بلحاظ التأنيث ، ولا يقاوم هذا الظهور الوضعي الظهور الناشئ من السياق ، خصوصاً مع كون الضميرين قبل هذا الضمير راجعين إلى الدار باعتبار كلّها كما هو واضح ، فيمكن التمسّك بمفهوم الصدر نظراً إلى أنّ الحكم بنفي البأس قد رتّب على ما إذا آجر البعض بالمساوي ، فيدلّ بالمفهوم على ثبوته في الزيادة .
هذا ، مضافاً إلى أنّ أدلّة حرمة الفضل الواردة في البيت والحانوت والأجير تشمل هذه الصورة .
الثانية : ما إذا آجره بأكثر ممّا وقع من الاُجرة بإزائه ، ولا ينبغي الإشكال هنا في
(الصفحة 376)
الجواز ; لأنّه مضافاً إلى عدم شمول الأدلّة المانعة لهذه الصورة يدلّ على الجواز بعض الروايات صريحاً ، كرواية محمّد بن مسلم ، عن أحدهما (عليهما السلام) المتقدّمة ، قال : سألته عن الرجل يستكري الأرض بمائة دينار، فيكري نصفها بخمسة وتسعين ديناراً ويعمّر هو بقيّتها ؟ قال : لا بأس(1) . وهكذا ذيل رواية علي بن جعفر (عليه السلام)المتقدّمة أيضاً ، حيث قال : وسألته عن رجل استأجر أرضاً أو سفينة بدرهمين فآجر بعضها بدرهم ونصف ، وسكن هو فيما بقي أيصلح ذلك ؟ قال : لا بأس(2) . إلاّ أنّ دلالة هذه بالإطلاق وترك الاستفصال .
وبالجملة : فالإشكال في هذه الصورة ممّا ليس له مجال .
ودعوى أنّ قوله (عليه السلام) في رواية الحلبي المتقدّمة في الصورة الاُولى : «ولا يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به» يدلّ على المنع باعتبار كون الضميرين راجعين إلى الدار باعتبارالثلث، مدفوعة بلزوم كون الضميرالثاني راجعاًإلى مجموع الدار، وإلاّ تتحقّق المنافاة بينه وبين الصدر الدالّ على جواز إجارة الثلث بعشرة دراهم ، كما لايخفى .
الثالثة : ما إذا آجره بالمساوي ، وقد وقع فيه الاختلاف بين الأصحاب ، ولابدّ من ملاحظة الدليل ، فنقول : أمّا دليل الجواز فهي رواية الحلبي المتقدّمة في الصورة الاُولى الدالّة بالصراحة على نفي البأس فيما إذا آجر ثلث الدار المستأجرة بعشرة دراهم ، التي هي تمام الاُجرة في الإجارة الاُولى ، وكذا ذيل رواية أبي الربيع الشامي المتقدّمة ، بناءً على نقل الصدوق الواردة في مورد رواية الحلبي .
هذا، مضافاًإلى اقتضاءالقاعدة له بعد عدم شمول الأدلّة المانعة ، لعدم تحقّق عنوان
- (1) تقدّمت في ص358.(2) تقدّمت في ص356 و 365.