(الصفحة 371)
ثمّ إنّه قد وقع في الروايتين المتقدّمتين الواردتين في الرحى استثناء صورة الغرامة أيضاً ، وليس له في كلام الأصحاب ذكر ، والظاهر أنّ المراد بها ما غرّمه بإزاء عمل في الرحى في مقابل الإحداث الظاهر في عمله فيه بنفسه ، فتدبّر .
ثمّ إنّ إحداث الحدث في العين المستأجرة هل يشمل مثل الكنس والتنظيف ونظائرهما أم لا ؟ وجهان ، والظاهر هو الوجه الثاني .
ثانيهما : ما إذا كانت الاُجرة مغايرة لجنس الاُجرة في الإجارة الاُولى ، وقد حكي عن الإيضاح أنّه قال : وقال الشيخان(1) والمرتضى(2) وسلاّر(3) والصدوق في المقنع(4) وأبو الصلاح وابن البراج في المهذّب(5) بالمنع مع اتّحاد الجنس(6) ، وهو أيضاً ظاهر المتأخّرين(7) بل صريحهم ، ولكن الروايات المتقدّمة ليس في شيء منها الإشعار بهذا الاستثناء ، وغاية ما قيل أو يمكن أن يقال في توجيهه : إنّ المتبادر من لفظ «الأكثر» لزوم التماثل واتّحاد الجنس ; لأنّه لا يقال في المختلفين : إنّ هذا أكثر من الآخر ، ولكنّه اُجيب عنه بالمنع طرداً وعكساً ; إذ يصحّ أن يقال : هذه الحنطة أكثر من هذا الزبيب مع اختلافهما ، ولا يصحّ أن يقال : هذا الحمار أكثر من هذا الحمار .
ويمكن التوجيه بوجه آخر يستفاد من كلام المحقّق الرشتي (قدس سره) ، حيث قال : إنّ الأكثرية من الاُمور الإضافية المبهمة المحتاجة إلى ذكر التميّز في الاستعمالات ، وإلاّ
- (1) النهاية : 439 ، المقنعة : 636 ، لكنّه قائل بالكراهة دون التحريم.(2) الانتصار : 475 .(3) المراسم : 198 ، لكنّه قال بالكراهة.(4) اُنظر المقنع : 391 ـ 392 .(5) المهذّب : 1 / 474 و 486.(6) إيضاح الفوائد : 2 / 250 .(7) كصاحب جامع المقاصد : 7 / 119 ، ومسالك الأفهام : 5 / 180 ، وجواهر الكلام : 27 / 222 .
(الصفحة 372)
كان مجملاً خارجاً عن حدّ الإفادة لا أن تكون حرمة الكثرة بقرينة المقام معلومة ، فيصحّ استعمالها بدون ذكر التميّز ، وحيث لم يذكر الراوي تميّزاً فلابدّ أن يُحمل كلامه على صورة تكون حرمة الكثرة فيها معلومة ، وليست إلاّ بعض أقسام متّحد الجنس(1) ، وحاصله الأخذ بالقدر المتيقّن بعد الإجمال وعدم وضوح المراد منها .
ولكنّه يرد عليه : أنّ الظاهر كون الأكثر في المعاملات ملحوظاً بالنظر إلى القيمة ، فتعمّ الروايات للاُجرتين المختلفتين إذا كانت الثانية أكثر من الاُولى من حيث الماليّة .
وربما يتوهّم في توجيه الاستثناء أنّ الوجه فيه صدق الربا في المتجانسين دون المختلفين .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّه لم يعلم كون المراد بالجنس في هذا المقام في كلام المشهور هو الجنس في باب الربا ، بحيث كانت الحنطة والشعير مثلاً من جنس واحد ، بل الظاهر أنّهما في هذا المقام متغايران ، وإلى أنّ الربا إنّما تجري في خصوص مثل المكيل والموزون ، وظاهرهم هنا المغايرة مطلقاً كما لا يخفى ـ : أنّ تحقّق الربا في المقام ولو على القول بصدقه على مطلق الزيادة ممنوع جدّاً بعد تعدّد المعاملة وعدم الارتباط بينهما ، فالإنصاف أنّه لا يمكن توجيه الاستثناء الواقع في كلام المشهور بوجه خال عن المناقشة .
والتحقيق أنّ المراد بالأكثرية في الروايات هو الأكثرية في المالية ; وهي غير منوطة بالتماثل ، لا فيما كانت الاُجرة متمحّضة في المالية كالنقود ، فإنّ اتّصاف عشرة دنانير بكونها أكثر من عشرة دراهم واضح ، ولا في غير هذه الصورة كغير
- (1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 98 .
(الصفحة 373)
النقود ، فإنّ مقام الثمنية والاُجرة كما أفاده المحقّق الإصفهاني (قدس سره)(1) مقام النقدين في التمحّض في المالية ; لأنّه لم يلاحظ في مقام عوضية شيء إلاّ انحفاظ مالية المعوّض به ، والرغبات النوعية متوجّهة نحو المعوّض من حيث كونه حنطة أو شعيراً ، أو منفعة الدار الكذائية والعمل الكذائي . نعم ، لو كان الغرض في بعض الموارد متعلّقاً بالعوض بعنوانه لا من حيث المالية ـ كما في الأماكن التي تتعارف فيها المعاملة بين الأجناس بعضها ببعض ، لا بينها وبين النقود ـ لا يبعد أن يقال : بأنّ الأكثرية حينئذ تلاحظ في كلّ جنس بحسبه ، ففي الاُمور التي يلاحظ مقدارها تعتبر من حيث المقدار ، وفي المعدودات من حيث العدد وهكذا .
هذا ، ولكنّ الظاهر ندرة هذا الأمر ، والحكم في الروايات إنّما هو بلحاظ النوع الذي يكون العوض عندهم ملحوظاً من حيث المالية فقط ، فإذا زادت قيمة منّ من الحنطة الواقعة اُجرة في الإجارة الثانية على قيمة منّين منها الواقعة اُجرة في الإجارة الاُولى تصدق الأكثرية ، وإن كانت أقلّ من حيث المقدار . هذا كلّه فيما يتعلّق بكلمة «الأكثر» الواقعة في كثير من الروايات .
وأمّا كلمة «الفضل» الواقعة في روايات الأجير والبيت والحانوت فالظاهر أنّ المراد بها هو الفضل في المالية أيضاً ، وأمّا ما أفاده المحقّق الإصفهاني(2) تبعاً للمحقّق الرشتي(3) من الفرق بين عنوان الأكثرية وبين عنوان الفضل ، وأنّه يمكن استفادة لزوم التماثل من الأوّل دون الثاني ففيه : أنّه لم يعلم وجه للفرق بينهما من هذه الجهة أصلاً ; لأنّه كما تكون الأكثرية من الاُمور الإضافية المبهمة المحتاجة إلى التميّز ،
- (1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 64 .(2) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 64 ـ 65 .(3) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 98 .
(الصفحة 374)
كذلك عنوان الفضل يحتاج إلى مميّز ، وأنّ الزيادة والفضيلة هل هي في المالية ، أو في الوزن ، أو في العدد ، أو في غيرها ممّا يصلح أن يكون تميّزاً لها ، فأيّ فرق بينهما من هذه الجهة ؟
نعم ، يمكن الفرق بينهما من جهة اُخرى ; وهي أنّ ظاهر الروايات المشتملة على عنوان الأكثرية كون المفضل عليه هي الاُجرة في الإجارة الاُولى ، والمفضل الاُجرة في الإجارة الثانية ، وأنّه لا تجوز أكثرية الثاني من الاُولى ، وأمّا الروايات المشتملة على عنوان الفضل قد اُضيف فيها هذا العنوان لا إلى الاُجرة ، بل إلى البيت والحانوت والأجير ، والظاهر تحقّق هذا العنوان فيما لو لم تكن الاُجرة الثانية زائدة على الاُجرة الاُولى ، بل كانت الزيادة والفضيلة لأجل إضافة شرط في الإجارة الثانية مفقود في الاُولى ، وهذا بخلاف عنوان الأكثرية بلحاظ الخصوصية المذكورة ، فتأمّل جيّداً .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّه لم ينهض حجّة على التفصيل الذي ذهب إليه المشهور ; وهو الفرق بين اتّحاد الجنس وتغايره ، إلاّ أن يناقش فيما استظهرنا من عنوان الأكثر فيرجع إلى القواعد في صورة تغاير الجنسين ، ولكنّه يرد على المشهور أنّهم ماذا يلتزمون في المثال المذكور ; وهو مالو زادت قيمة مَنّ من الحنطة على قيمة منّين منها ، فإن قالوا فيها بعدم تحقّق عنوان الأكثرية فهو خلاف الظاهر جدّاً ، وإن قالوا بالتحقّق فلازمه الالتزام بكون المعيار هي الأكثرية في المالية ، كما لا يخفى .
الأمر الثالث : في إجارة بعض العين المستأجرة ، وكذا في إجارتها في بعض المدّة مع السكونة في البعض من العين أو المدّة ، فنقول : فيه صور ثلاث :
الاُولى : ما إذا آجر البعض غير المسكون بأزيد من الاُجرة في الإجارة الاُولى ،
(الصفحة 375)
أو آجر العين في بعض المدّة كذلك ، ربما يقال : بأنّه لا ينبغي الإشكال في حرمته أو كراهته ; لفحوى ما دلّ على حرمة إيجار الكلّ بالأكثر أو كراهته .
ويرد عليه : أنّه إن كان المراد بالفحوى هي الأولوية القطعية ففيه : منعها في مثل هذه الأحكام التعبّدية ، وإن كان المراد الأولوية العرفية فلا دليل على حجّية مثلها ، اللّهمَّ إلاّ أن يكون المراد أنّ المتفاهم عند العرف من الأخبار الدالّة على حرمة إيجار الكلّ بالأكثر أوكراهته جريان الحكم في البعض، وأنّه ليس للكلّ بماهوكلّ خصوصيّة في ذلك ، خصوصاً لو كان الوجه هو التشابه بباب الربا المحرم ، كما لايخفى .
ويمكن الاستدلال عليه ـ مضافاً إلى ماذكر ـ بقوله (عليه السلام) في رواية الحلبي المتقدّمة : لو أنّ رجلاً استأجر داراً بعشرة دراهم فسكن ثلثيها ، وآجر ثلثها بعشرة دراهم لم يكن به بأس ، ولا يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به إلاّ أن يحدث فيها شيئاً(1) بناءً على أن يكون الضمير في قوله (عليه السلام) : «لايؤاجرها» راجعاً إلى الدار باعتبار الثلث لا إلى الدار نفسها ، ولو نوقش في ذلك باعتبار ظهور كون الضمير راجعاً إلى الدار بلحاظ التأنيث ، ولا يقاوم هذا الظهور الوضعي الظهور الناشئ من السياق ، خصوصاً مع كون الضميرين قبل هذا الضمير راجعين إلى الدار باعتبار كلّها كما هو واضح ، فيمكن التمسّك بمفهوم الصدر نظراً إلى أنّ الحكم بنفي البأس قد رتّب على ما إذا آجر البعض بالمساوي ، فيدلّ بالمفهوم على ثبوته في الزيادة .
هذا ، مضافاً إلى أنّ أدلّة حرمة الفضل الواردة في البيت والحانوت والأجير تشمل هذه الصورة .
الثانية : ما إذا آجره بأكثر ممّا وقع من الاُجرة بإزائه ، ولا ينبغي الإشكال هنا في