(الصفحة 39)
بعدم كونها جامعة ومانعة أصلاً وعكساً ; لتصريح الشيخ (رحمه الله) في الخلاف(1) والمبسوط(2) بعدم صحّة إجارة حائط مزوّق للنظر إليه والتفرّج والتعلّم منه ; لأنّ المنع قبيح فأُجرته قبيحة ، مع أنّ هذه العلّة لا تجري في العارية كما هو واضح ، وقد صرّح الحلّي بصحّة إعارة الدراهم والدنانير ، وقوّى في آخر كلامه عدم صحّة إجارتهما(3) ، وقد حكى المحقّق الأردبيلي عن التذكرة وغيرها الإجماع على عدم صحّة إجارة المنحة للحلب(4) ، وإن ناقش فيه في مفتاح الكرامة وقال : قد تتبّعنا التذكرة فرأيناه قد ذكر في عدّة مواضع أنّه لا يجوز استئجار الشاة للحلب(5) ، من دون حكاية إجماع صريح ولا ظاهر ، وكذلك غير التذكرة(6)(7) ، انتهى . وقد صرّحوا بجواز استئجار المرأة للإرضاع والحرّ للعمل ، مع أنّه لا تجوز إعارتهما .
ولأجل ذلك صرّح في جامع المقاصد(8) بأنّ هذه القاعدة أكثرية ، وقيّد في التنقيح عبارة النافع بقوله : مع بقاء عينه(9) ، وفي المسالك عبارة الشرائع بقوله : بحسب الأصل أي القاعدة(10) ، وكذا في غيرهما(11) ;
- (1) الخلاف : 3 / 501 مسألة 24 .(2) المبسوط : 3 / 240 .(3) السرائر : 2 / 475 .(4) مجمع الفائدة والبرهان : 10 / 68 .(5) تذكرة الفقهاء : 2 / 210 و296 .(6) كقواعد الأحكام : 2 / 287 .(7) مفتاح الكرامة : 7 / 82 .(8) جامع المقاصد : 7 / 87 .(9) التنقيح الرائع : 2 / 255 .(10) مسالك الأفهام : 5 / 175 .(11) كاللمعة الدمشقية : 94 ، ومجمع الفائدة والبرهان : 10 / 67 .
(الصفحة 40)
ولأجل ذلك أيضاً صرّح المحقّق الرشتي (رحمه الله)(1) بأنّه لا يراد بذلك إعطاء الميزان وبيان الضابط ، بل المراد هو بيان اشتراط صحّة إجارة الأعيان المملوكة بمايشترط به العارية ، وهوكونها ذات منفعة مقصودة وأنّ المراد بالموصول كلّ عين مملوكة، وهذا لا ينافي أوسعية دائرة الإجارة من حيث ثبوتها في غير الأعيان المملوكة أيضاً ولا اشتراطها في الأعيان بشروط زائدة.
هذا، والتحقيق أنّ هذه القاعدة على فرض ثبوتها لا مانع من الأخذ بمقتضى ظاهرها، نظراً إلى أنّه لا دليل على المنع من الإجارة في الموارد المنقوضة، فإنّه لم يقم دليل على المنع من إجارة المنحة للحلب، وأيّ فرق بينه وبين إجارة الفحل للضراب ونحوها، ودعوى عدم بقاء العين فيها وهو شرط في صحّة الإجارة مدفوعة بأنّ العين المستأجرة هي المنحة، وهي باقية، واللّبن إنّما يعدّ من منافعها، ومجرّد كون المنفعة هنا عيناً لا يمنع عن ذلك; لأنّ العين التي تعتبر بقاؤها هي ما اشتملت على المنفعة لا نفسها، وقد عرفت أنّ ما حكاه المقدس الأردبيلي عن التذكرة من الإجماع على عدم الجواز غير ثابت; لعدم حكاية إجماع فيها صريحاً ولا ظاهراً، كما ذكره صاحب المفتاح.
وكذا لا دليل على المنع من العارية في الموارد المنقوضة، فإنّ عدم تعارف استعارة المرأة للإرضاع والحرّ للأعمال لا يوجب المنع، إذ لم يقم دليل عليه بعد اجتماع الشروط المعتبرة في العارية فيها، فالإنصاف عدم تمامية شيء من تلك النقوض، لكن قد عرفت أنّه لا فائدة في البحث عن هذه القاعدة بعد عدم كونها قاعدة شرعية; لعدم الدليل عليها مضافاً إلى
- (1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 44 .
(الصفحة 41)
ما مرّ من اختلافهم في بيانها إطلاقاً وتقييداً، ضرورة أنّه لو كانت قاعدة شرعيّة لم يكن مجال لتقييدها من دون دليل عليه كما هو واضح، ولعلّ هذا هو السرّ في عدم تعرّض المحقّق الإصفهاني لهذه القاعدة أصلاً.
[انتهى كلامه دام ظلّه من كتاب الإجارة الثاني].
***
المقام الثاني : فيما يعتبر في المنفعة، وهي اُمور متعدّدة أيضاً :
الأوّل : كونها مباحة ، فلا تصحّ إجارة الدكّان لإحراز المسكرات أو بيعها ولاالدابّة والسفينة لحملها ، ولا الجارية المغنّية للتغنّي ونحو ذلك .
وقد صرّح المحقّق (قدس سره) في الشرائع(1) بأنّه مع عدم وجود هذا الشرط لاتنعقد الإجارة ، وعليه فهو من الشرائط المعتبرة في أصل الصحّة والانعقاد ، فما في شرح المحقّق الرشتي (قدس سره) عليه من تعليل عدم الانعقاد : بأنّ المحرّم غير مملوك للمؤجر ، ومن شرائط الإجارة ملكيّة المنفعة ووجودها ، وأنّه كان على المصنّف ذكرهما أوّلاً(2) ، يمكن الإيراد عليه بأنّ اعتبار كون المؤجر مالكاً للمنفعة إنّما هو في لزوم العقد لا في أصل الصحّة والانعقاد ; لعدم كون المعاملات الفضولية باطلة عنده من رأس ، بل موقوفة على الإجازة ، وعليه فاعتبار الإباحة يغاير اعتبار ملكيّة المؤجر ، إلاّ أن يقال إنّ مراده من ذلك عدم كون المنفعة المحرّمة مملوكة أصلاً ، لا للمؤجر ولا لغيره ، وذكر المؤجر ليس لأجل تخصيص عدم المملوكية به ، ضرورة أنّه إذا لم تكن المنفعة المحرمة مملوكة لمالك العين فكيف يمكن أن تكون مملوكة لغيره ، ومن المعلوم أنّ اعتبار أصل ملكيّة المنفعة إنّما هو في الانعقاد
- (1) شرائع الإسلام : 2 / 186 .(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 290 .
(الصفحة 42)
والصحّة دون اللزوم .
وكيف كان ، فالظاهر اتّفاق أصحابنا الإماميّة ـ رضوان الله عليهم(1) ـ على اعتبار هذا الشرط في صحّة الإجارة ، وأنّه لا تنعقد مع حرمة المنفعة . نعم ، عن الشهيد (رحمه الله)(2) : أنّه نسب إلى ابن المتوج القول بالتحريم وانعقاد الإجارة ، كما عن أبي حنيفة والشافعي من العامّة(3) .
والكلام في هذا البحث قد يقع فيما هو مقتضى القواعد ، وقد يقع فيما يستفاد من الروايات الواردة في الباب :
أمّا الأوّل : فقد استدلّ على اعتبار هذا الشرط بلحاظه بوجوه :
منها : أنّ المنفعة المحرّمة لا تكون مملوكة بوجه ، ولا يتعلّق بها ملك المؤجر حتّى يملكها غيره .
ويرد عليه : أنّه لم يقم دليل على تقابل الحرمة والملكيّة وتنافيهما وعدم إمكان اجتماعهما ، وما ذكره المستدل مجرّد ادّعاء من دون بيّنة وبرهان ، مع أنّه في مثل الدار والدكّان تكون المنفعة من شؤون العين القائمة بها ، والمعروض للحرمة هو عمل المكلّف القائم به ، فلا تكون المنفعة معروضة للحرمة حتّى تنافي مع الاتّصاف بالملكية ، وفي مثل الأجير والعمل المستأجر عليه يمكن أن يقال : بأنّ الحرمة تلائم الملكيّة وتؤيّدها ، لا أنّها تنافيها وتضادّها ، نظراً إلى أنّ مرجع ملكيّة العمل إلى كونه عملاً له ، وله إضافة إليه يمكنه إيجاده ويعدّ من شؤونه ومن الاُمور القائمة به ، وهذه الجهات لها دخل في الاتصاف بالحرمة ، فإنّه لو لم يكن عملاً له ومضافاً إليه
- (1) راجع الخلاف : 3 / 508 مسألة 37 ، وغنية النزوع : 285 ، ونهج الحقّ وكشف الصدق : 508 .(2) حكى عنه في مفتاح الكرامة : 7 / 135 .(3) الخلاف : 3 / 508 مسألة 37 ، المبسوط للسرخسي 16 / 38 .
(الصفحة 43)
لما كان وجه لتوجّه التحريم إليه واتّصافه بكونه فاعلاً للحرام ، فالملكية لاتنافي الحرمة بوجه ، بل هي دخيلة في ترتّبها وثبوتها .
ومنها : أنّ المنفعة المحرّمة لا ماليّة لها أصلاً ، فلا تكون قابلة للمعاوضة عليها .
ويرد عليه : ما عرفت من عدم قيام الدليل على تقابل الحرمة والمالية ، والنهي عن إيجادها في مثل العمل المستأجر عليه لا يرجع إلى سلب المالية ونفي كونها متّصفة بها ، بل مرجعه إلى النهي عن إيجاد ماهو مال لأجل الملاك المقتضي للنهي ، كما هو ظاهر .
ومنها : أنّ حرمة المنفعة تسلب القدرة شرعاً ، والممنوع شرعاً كالممتنع عقلاً ، وقد مرّ أنّ القدرة على التسليم من شرائط صحّة المعاوضة ونفوذها .
وفيه : ما عرفت في مبحث اعتبار القدرة على التسليم من أنّه لا منافاة بين ماهو المعتبر من القدرة بلحاظ دليل الغرر ، وبين اتصاف المنفعه بكونها محرّمة .
ومنها : قوله تعالى :
{وَلاَ تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ . . .}(1) حيث إنّه يدلّ على النهي عن أكل المال بالباطل ، وظاهره الحكم الوضعي بمعنى كونه إرشاداً إلى الفساد والبطلان . وضعف الاستدلال به على المقام ظاهر .
وأمّا الثاني : فقد ورد في المنفعة المحرّمة روايتان :
إحداهما : رواية ابن اُذينة قال : كتبت إلى أبي عبدالله (عليه السلام) : أسأله عن الرجل يؤاجر سفينته ودابّته ممّن يحمل فيها أو عليها الخمر والخنازير ؟ فقال : لا بأس(2) .
ثانيتهما : ما عن صابر أو جابر ، قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يؤاجر
- (1) سورة البقرة 2 : 188 .(2) الكافي : 5 / 227 ح6 ، التهذيب : 6 / 372 ح1078 ، الاستبصار : 3 / 55 ح180 ، وسائل الشيعة : 17/174 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب39 ح2 .