(الصفحة 44)
بيته فيباع فيه الخمر ؟ قال : حرام اُجرته (أجره ـ خ ل)(1) .
وقد جمع المشهور بين الروايتين بحمل الاُولى على ظاهرها ; وهي الإجارة للحمل ممّن يفعل ذلك لا الإجارة لحمل الخمر والخنزير ، والثانية على الإجارة لهذا الغرض(2) وإن كان هذا الحمل مخالفاً لظاهرها ، إلاّ أنّ الجمع بينهما يعينه كما صنعوا نظيره في باب البيع ، حيث حملوا الأخبار الدالّة على صحة بيع العنب ممّن يجعله خمراً على ما إذا لم يكن البيع مقيّداً بهذه الغاية ، والأخبار الناهية على ما إذا كان لهذه الغاية(3) .
وأمّا ما ورد في العمل فهي رواية تحف العقول المعروفة ، المشتملة على قوله (عليه السلام) : وكلّ أمر منهيّ عنه من جهة من الجهات فمحرّم على الإنسان إجارة نفسه فيه أو له أو شيء منه أو له . . .
وقد ورد قبل هذه الفقرة قوله (عليه السلام) : فأمّا وجوه الحرام من وجوه الإجارة ; نظير أن يؤاجر نفسه على حمل ما يحرم أكله أو شربه ، أو يؤاجر نفسه في صنعة ذلك الشيء . . .(4) ، ومع صراحة هذه الرواية في حرمة الاستئجار للعمل المحرّم لا يبقى مجال لما عن مفتاح الكرامة من قوله : ولا أجد ذلك ـ يعني الاستئجار للعمل المحرّم ـ في أخبارنا . نعم ، يستفاد ذلك من خبر جابر(5) . ولعلّه لم يعتمد على رواية
- (1) الكافي : 5 / 227 ح8 ، التهذيب : 6 / 371 ح1077 و ج7 / 134 ح593 ، الاستبصار : 3 / 55 ح179 ، وسائل الشيعة : 17 / 174 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب39 ح1 .(2) راجع التهذيب : 6 / 372 ، والاستبصار : 3 / 56 ، ومجمع الفائدة والبرهان : 8 / 46 ـ 47 ، ورياض المسائل : 5/15 .(3) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 1 / 123ـ 125 و129 .(4) تحف العقول : 334 ، وسائل الشيعة : 19 / 101 ، كتاب الإجارة ب1 ح1 .(5) مفتاح الكرامة : 7 / 135 ـ 136 .
(الصفحة 45)
تحف العقول، وإلاّ فمن البعيد أن لا يكون مطّلعاً عليها .
ثمّ إنّه أورد على الجمع المشهور في باب البيع بوجهين :
أحدهما : ما أفاده سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن ـ دام ظله ـ فيما صنّفه في المكاسب المحرّمة : من أنّ الروايات الدالّة على جواز بيع العنب ممّن يجعله خمراً مخالفة للكتاب(1) الدالّ على النهي عن التعاون على الإثم ، وللسنّة المستفيضة الحاكية للعن رسول الله (صلى الله عليه وآله)الخمر وغارسها(2) . . .ولحكم العقل ، ولروايات النهي عن المنكر ، بل مخالفة لاُصول المذهب ، ولقداسة مقام المعصوم (عليه السلام) ، حيث إنّ الظاهر منها أنّ الأئمّة (عليهم السلام)كانوا يبيعون تمرهم ممّن يجعله خمراً وشراباً خبيثاً ، وهو ممّا لايرضى به الشيعة الإمامية ، كيف! ولو صدر هذا العمل من أواسط الناس كان يعاب عليه ، فالمسلم بما هو مسلم والشيعي بما هو كذلك يرى هذا العمل قبيحاً مخالفاً لرضى الشارع ، فكيف يمكن صدوره من المعصوم (عليه السلام)(3) ، وعلى تقدير رفع اليد عمّا ذكر نقول : إنّها معارضة مع ما يدلّ على المنع عن بيع الخشب ممّن يصنعه صليباً أو صنماً(4) .
ومع رواية صابر المتقدّمة ، الواردة في الإجارة ، والترجيح لهذه الروايات بالوجوه المذكورة .
وعليه فلا محيص من الالتزام بالحرمة مطلقاً ، ولكنّها لا تقتضي فساد
- (1) سورة المائدة 5 : 2 .(2) الكافي : 6 / 398 ح10 و429 ح4 ، الفقيه : 4 / 4 ح1 ، وسائل الشيعة : 17 / 224 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب55 ح3 و4 و5 .(3) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني : 1 / 146 ـ 147 .(4) وسائل الشيعة : 17 / 176 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب41 .
(الصفحة 46)
المعاملة ، سواء وقعت معاطاة أو بالصيغة ، وإن كان بينهما فرق من بعض الوجوه .
ثانيهما : ما أفاده المحقّق الإصفهاني (قدس سره) في كتاب الإجارة ، وحاصله : أنّ الأعيان على قسمين :
منها : ما تتمحّض جهة الانتفاع به في الحرام كالخمر والخنزير ، فإنّ المنفعة المترقّبة من الاُولى الشرب ومن الثاني الأكل وهما محرّمان .
ومنها : ما لا يكون كذلك ، كالأعيان المباحة التي يمكن الانتفاع بها على جهة الحلال والحرام كالعنب ، فيؤكل تارةً ويعمل خمراً اُخرى ، وكالخشب يجعل سريراً تارةً وصليباً اُخرى ، وقد استفيد من رواية تحف العقول أنّ ما تمحّض في الجهة المحرّمة لا يجوز إيقاع أيّ عقد عليه ، فيفهم منه أنّ تمحّضه في الانتفاع المحرّم يوجب سقوطه عن المالية شرعاً ; لتقوّمها بالمنفعة الخاصّة به ، والمفروض أنّ الشارع أسقط هذه المنفعة عن درجة الاعتبار ، وأنّ ما لم يتمحّض في الجهة المحرّمة باق على ماليّته ، وإن انتفع به المشتري مثلاً في جهة الحرام ، ومن البيّن أنّ قصد الغاية المحرّمة لا يضيّق دائرة العين ، كليّة كانت أو شخصيّة ، كما أنّ المفروض عدم انحصار جهة الانتفاع به في الحرام .
ومجرّد قصد الغاية المحرّمة لا يوجب إلاّ تحقّق عنوان الإعانة على الإثم ، والبيع مع هذا العنوان وإن كان حراماً إلاّ أنّ مثل هذه الحرمة لايوجب فساد البيع ، وليس في أخبار باب بيع العنب رواية تدلّ على حرمة بيع العنب ليعمل خمراً ، بل الموجود حرمة بيع الخشب ممّن يعمل صنماً أو صليباً(1) ، مع دلالة الروايات المستفيضة
- (1) وسائل الشيعة : 17 / 176 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب41 .
(الصفحة 47)
على جواز بيع العنب ممّن يعمل خمراً(1) ، بل على جواز بيع الخشب ممّن يعمله برابط(2) ، فحمل المشهور على التفصيل بين قصد الغاية المحرّمة وعدمه بلا وجه(3) . هذا ما أفاده في مورد البيع .
ويرد عليه : أنّ عدم تمحض جهة الانتفاع بالعين في المنفعة المحرّمة وإن كان يوجب عدم سقوطه عن المالية شرعاً ، وكذا قصد الغاية المحرّمة وإن كان لا يؤثّر في تضيق دائرة العين ، كليّة كانت أو شخصية ، إلاّ أنّ ذلك لايمنع من تعلّق النهي ببيعه مطلقاً ، أو مع الاقتران بقصد الغاية المحرّمة ، فإنّ ملاك النهي وتعلّق التحريم لايدور مدار المالية وجوداً وعدماً ، كما أنّه لا ينحصر بعنوان الإعانة على الإثم وحينئذ فيبقى عليه هذا السؤال ; وهو أنّ ما يدلّ على النهي عن بيع الخشب ممّن يعمل صنماً أو صليباً على ماذا يحمل ؟ وكيف يجمع بينه وبين ما يدلّ على جواز بيع العنب ممّن يعمل خمراً ؟ فهل يجمع بينهما باختلاف المورد، كما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره)(4) ، وجعله قولاً فصلاً لو لم يكن قولاً بالفصل ؟ أو بوجه آخر غير مذكور في كلامه . نعم، إيراده على المشهور بأنّ الجمع بنحو التفصيل بلا وجه حقّ; لعدم الشاهد عليه .
مع أنّه في صحيحة عمر بن اُذينة جمع بين الحكم بالجواز في البرابط والنهي في الصلبان ، حيث قال : كتبت إلى أبي عبدالله (عليه السلام) : أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذ برابط ؟ فقال : لابأس به ، وعن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذ
- (1) وسائل الشيعة : 17 / 229 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب59 .(2) وسائل الشيعة : 17 / 176 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب41 ح1 .(3) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 248 ـ 249 .(4) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 1 / 131 ـ 132 .
(الصفحة 48)
صلباناً ؟ قال : لا(1) .
ومن المعلوم أنّ الفارق بحسب هذه الصحيحة ليس وجود القصد وعدمه ، بل كونه متّخذاً برابط أو صلباناً ، فكيف يجمع بين الروايات بالنحو المشهور ؟!
كما أنّه بهذه الصحيحة يقع الإشكال فيما أفاده سيّدنا الأستاذ أيضاً ، فإنّ إلغاء روايات الجواز نظراً إلى الوجوه التي أفادها لا يلائم مع الجمع بينه وبين النهي في رواية واحدة كما في الصحيحة ، إلاّ أن يلتزم بإلغاء صدرها أيضاً ، ولكنّه لايناسب مع ما هو المستفاد منها من كون الفارق اختلاف المحرّمات ، ووقوع بعضها في مرتبة من الاهتمام دون البعض الآخر . وبعبارة اُخرى الصحيحة ناظرة إلى التفصيل وحاكمة بالفرق بين الصورتين ، ومعه لايبقى مجال للإلغاء كما لا يخفى .
وبالجملة: هذه الصحيحة شاهدة على ما أفاده الشيخ الأعظم ممّاعرفت، واستبعاد التفصيل بين الصليب والخمرمدفوع بما أفاده المستبعد في آخر كلامه من أنّ الصليب وإن كان عبارة عمّا يصنع شبيه ما صلب به المسيح ـ على زعمهم وتخيّلهم ـ إلاّ أنّ صيرورته شعاراً لهم أوجبت الاهتمام به ، وتحريم التسبّب إليه زائداً على غيره(2) .
وما أبعد بين ما أفاده سيّدنا الأُستاذ في مقام الجمع بين الروايات ، وبين ما أفاده بعض الأعلام من أنّه على فرض تماميّة عدم الفصل بين موارد الروايات المجوّزة والمانعة يكون المقام من قبيل تعارض الدليلين ، فيؤخذ بالطائفة المجوّزة ; لموافقتها لعمومات الكتاب ، كقوله تعالى :
{أَوفُوا بِالعُقُودِ}(3) و
{أَحَلَّ اللهُ البَيعَ}(4) و
{تِجَارَةً
- (1) الكافي : 5 / 226 ح2 ، التهذيب : 6 / 373 ح1082 وج7 : 134 ح590 ، وسائل الشيعة : 17 /176 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب41 ح1 .(2) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني : 1 / 148 .(3) سورة المائدة 5 : 1 .(4) سورة البقرة 2 : 275 .