(الصفحة 412)
شيء . وقد استدلّ بها في مفتاح الكرامة(1) على بطلان الإجارة الثانية ، ولكن المحقّق الرشتي (رحمه الله) بعد نقل هذا من المفتاح ذكر أنّ هذا غريب بعدما عرفت هناك من عدم المنافاة بين صحّة الإجارة الثانية وضمان المستأجر الأوّل العين إذا سلّمها إلى الثاني من غير إذن(2) .
والحقّ أن يقال : إنّك عرفت سابقاً عند الكلام في مفاد الرواية أنّ موردها صورة تحقّق التسليم من المستأجر بسبب الإعطاء ، فهو أي التسليم مفروض في كلتا الشرطيّتين الواردتين في الجواب ، وعليه فالوجه في الحكم بالضمان في الشرطيّة الاُولى ليس التسليم المتحقّق بغير إذن المالك ; لأنّه مفروض في كلتيهما ، فلابدّ أن يكون الضمان مسبّباً عن أمر آخر ، وليس ذلك إلاّ اشتراط عدم ركوب الدابّة غيره ، وحينئذ نقول : إنّ مرجع هذا الاشتراط إن كان إلى سلب حقّ من المستأجر ـ وهو حقّ الدفع والإعطاء من الغير إجارة كان أو غيرها ، فالحكم بالضمان ينشأ عن فساد تصرّف المستأجر المساوق لصيرورته متعدّياً ، وذلك لعدم ثبوت حقّ هذا النحو من التصرّف له ـ فلا وجه لوقوعه متّصفاً بالصحّة . وإن كان إلى إثبات حقّ للمؤجر على المستأجر فاللاّزم أن يكون الحكم بالضمان في الرواية تعبّداً محضاً; لما عرفت من أنّ التصرّف المنافي لحقّ المؤجر لم يقم دليل على بطلانه ، بل لا يعقل ذلك كما عرفت في كلام المحقّق الإصفهاني (رحمه الله) ، والظاهر من الرواية أنّ ثبوت الضمان في صورة الاشتراط ليس أمراً مخالفاً للقاعدة ثابتاً تعبّداً ، بل أمر موافق للقاعدة ، فالإنصاف أنّ الاستدلال بالرواية لفساد التصرّف الصادر من المستأجر
- (1) مفتاح الكرامة: 7 / 84.(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 128 .
(الصفحة 413)
المشروط عدمه صحيح لا مرية فيه ، فتدبّر جيّداً .
وممّا يستأنس به على البطلان رواية سليمان بن خالد ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سألته عن رجل كان له أب مملوك وكانت لأبيه امرأة مكاتبة قد أدّت بعض ما عليها ؟ فقال لها ابن العبد : هل لك أن اُعينك في مكاتبتك حتّى تؤدّي ما عليك بشرط أن لا يكون لك الخيار على أبي إذا أنت ملكت نفسك ؟ قالت : نعم ، فأعطاها في مكاتبتها على أن لا يكون لها الخيار عليه بعد ذلك ، قال : لا يكون لها الخيار ، المسلمون عند شروطهم(1) . فإنّ تمسّكه (عليه السلام) لعدم ثبوت الخيار بدليل الشرط دليل على نهوضه بالوضع ثبوتاً وسلباً .
وأجاب عن هذا الاستئناس المحقّق الرشتي (رحمه الله) بأمرين :
أحدهما : كون ظاهر الرواية مخالفاً لطريقة الأصحاب لاقتضائه وجوب الوفاء بالشرط الابتدائي غير المذكور في العقد اللاّزم ، والحمل على الشرط المذكور فيه ليس بأولى من الحمل على الاستحباب .
ثانيهما : أنّ شرط عدم الخيار في مورد الرواية مخالف للكتاب والسنّة فكيف يكون صحيحاً ، فلابدّ من التأويل إلى ضرب من الاستحباب(2) .
أقول : يمكن أن يقال بالفرق بين المقام الذي هو شرط الفعل وبين مورد الرواية الذي هو شرط النتيجة ; لأنّ وجوب الوفاء المتعلّق بالشرط لا يكاد يتصوّر له معنى في الثاني إلاّ تحقّق تلك النتيجة ، سواء كانت أمراً وجوديّاً أو عدميّاً ، فوجوب الوفاء فيه ملازم لتحقّق الوضع . وهذا بخلاف
- (1) الكافي : 6 / 188 ح13 ، وسائل الشيعة : 23 / 155 ، كتاب التدبير والمكاتبة والاستيلاد، أبواب المكاتبة ب11 ح1 .(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 128 .
(الصفحة 414)
شرط الفعل الأعمّ من الإيجاد أو الترك المقابل للنتيجة ، فإنّ وجوب الوفاء به المستفاد من قوله (صلى الله عليه وآله) : «المؤمنون عند شروطهم»(1) لا يلازم الوضع ، بل غايته مجرّد التكليف ولزوم الإطاعة له بحكم العقل ، فالرواية حينئذ أجنبية عن المقام ، إلاّ أن يرجع شرط عدم الإجارة إلى عدم ثبوت حقّها ، ومعه لا حاجة في إثبات فساد التصرّف المنافي للشرط إلى مثل هذه الرواية، كما هو غير خفيّ .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الوجوه الخمسة التي استدلّ بها لبطلان الإجارة الثانية لا يكاد ينهض شيء منها ما عدا الأخير لإثبات ذلك ، وأمّا الوجه الأخير فقد عرفت(2) أنّ مقتضى التأمّل في صحيحة عليّ بن جعفر (عليه السلام) أنّ منشأ الحكم بالضمان إنّما هو فساد التصرّف المخالف الموجب لصيرورة المتصرّف متعدّياً ، وعليه فلا محيص عن الحكم بفساد الإجارة الثانية في المقام .
بقي في المقام أمران :
الأوّل : ربّما يقال بالفرق بين شرط عدم الإجارة من الغير وبين شرط الاستيفاء بنفسه من حيث الدليل على بطلان الإجارة الثانية ، نظراً إلى أنّه يمكن الاستناد في البطلان في الصورة الثانية إلى وجه آخر غير ما مرّ من الوجوه الخمسة ، وقد تعرّض لهذا القول المحقّق الإصفهاني (رحمه الله) ، حيث قال ما ملخّصه : إنّ شرط الاستيفاء بنفسه إن رجع إلى شرط ترك تسليم المنفعة إلى الغير ، أو ترك إسكان الغير كما في الرواية المتقدّمة(3) ، حيث قال (عليه السلام) : «إن كان شرط أن لا يركبها غيره»، فإنّ المرادمنه شرط ترك
- (1) تقدّم في ص406.(2، 3) في ص397.
(الصفحة 415)
ما هو فعل نفسه وهو إركاب الغير ، فربّما يتخيّل بطلان الإجارة من وجه آخر .
أمّا شرط ترك التسليم فوجه البطلان فيه عدم القدرة على التسليم المعتبرة في كلّ معاوضة ، والمفروض حرمة التسليم للالتزام بتركه الواجب عليه ، والممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً ، وأمّا شرط ترك الإسكان فالوجه فيه تخيّل صيرورة المنفعة محرّمة بذلك ، وإباحة المنفعة من شرائط صحّة الإجارة .
وقال في تقريب صيرورة المنفعة محرّمة ـ مع أنّ المنفعة إمّا عبارة عن سكنى الغير الدار وهو لم يقع مورد الالتزام بتركه ، بل المحرّم هو الإسكان وهو ليس من المنافع ، وإمّا عبارة عن شؤون الدار وحيثيّاتها ; وهي المسكنيّة والمسكونية المضايفة للساكنية ، وهي إن لوحظت في طرف الدار عدّ من منافعها ، وإن لوحظت في طرف الساكن عدّ من أعراضه القائمة به ، فلا وجه لدعوى التحريم ـ ما ملخّصه : أنّه على التقدير الأوّل لابدّ من الإدراج تحت عنوان الإعانة على الإثم ; لأنّ عنوان الإسكان من المؤجر لا يتحقّق إلاّ بسكنى الغير ، وعلى التقدير الثاني إنّ تلك الحيثية الموجودة في الدار وإن كان اتّصافها بالإباحة والتحريم لا من حيث نفسها ، بل باعتبار الإخراج من القوّة إلى الفعل ـ وهو الذي يعبّر عنه بالاستيفاء ، ويتحقّق بالدخول في الدار والكون فيها ، والمفروض عدم التزام الساكن المستوفي بشيء ـ إلاّ أنّ تلك الحيثية بلحاظ مرتبة الفعلية لها قيامان : قيام بالدار قيام حلول ، وقيام بالموجد بقيام صدوري ، ولا فرق في اتّصاف تلك الحيثية بالحرمة بين أن يكون بلحاظ قيامها بالساكن ، وبين أن يكون بلحاظ قيامها بقيام صدوري بالمتّصف بالإسكان لأجل توسّط إرادته وكونه مختاراً .
(الصفحة 416)
ثمّ إنّه (قدس سره) دفع إشكال عدم القدرة على التسليم ; بأنّ المدار في اعتبار القدرة على رفع الغرر ، ومع الوثوق بحصول الحال في يده لا غرر ، سواء كان المؤجر قادراً على التسليم واقعاً أم لا ، فضلاً عمّا إذا لم يكن قادراً شرعاً ، والمفروض هنا إمكان حصول المنفعة في يد المستأجر ، فلا غرر ولا خطر ، مع أنّ القدرة اللاّزمة هنا هي قدرة المستأجر على التسلّم لا قدرة المؤجر على التسليم ، وعلى فرض تعميم القدرة إلى الواقعية والشرعية فلا حرمة بالإضافة إلى المستأجر ، فإنّ الملتزم بترك التسليم هو المؤجر دون المستأجر ، وحرمة أحد المتضايفين لا تستلزم حرمة المضائف الآخر ; لأنّها ليست من لوازم التضايف .
ودفع إشكال حرمة المنفعة ; بأنّ الوجه في شرطية إباحة المنفعة أنّ المنفعة المحرّمة لا مالية لها ولا هي مملوكة لمالك العين ، ومقتضى هذا الوجه عدم شرطية الإباحة هنا ، إذ المفروض كون المنفعة مملوكة ، وإنّما التزم بترك التصرّف فيها بإسكان الغير(1) .
أقول : فيما أفاده (قدس سره) مواقع للنظر ، ولا بأس بذكر بعضها :
منها : أنّ إرجاع الشرط في الرواية إلى شرط ترك إركاب الغير غير واضح ، للفرق بين ما إذا كان الملتزم بتركه إركاب الغير ، وبين ما إذا كان المشروط عدم ركوب الغير ، فإنّه وإن كان اللاّزم في الالتزام بترك شيء أن يعدّ الشيء فعلاً من أفعاله ومنسوباً إلى الملتزم ، إلاّ أنّه مع ذلك لا مجال لإنكار الفرق بين ما إذا كان الالتزام متعلّقاً بترك الإركاب ، وبين ما إذا تعلّق بترك ركوب الغير ، فإنّ مقتضى الأوّل أن يكون الملتزم هو المقتضي لحدوث الركوب ، ومرجع الثاني إلى لزوم الممانعة، وإن كان
- (1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 119 ـ 121 .