(الصفحة 459)
للمستأجر : إنّ المراد بكون جميعها له هل هو أن يكون الأجير مختاراً في تعيين العمل ، وأنّ ما يعمله في مدّة الإجارة لنفسه أو لغيره لابدّ من أداء عوضه إلى المستأجر ، ففي الحقيقة يستأجره المستأجر لا لأن يعمل له بل لأن يعمل لأيّ شخص شاء من نفسه أو غيره ويؤدّي عوضه إليه ، أو أنّ المراد بالأجير الخاصّ بالمعنى الأوّل أن يكون الأجير ممهِّداً لرجوع المستأجر إليه لاستيفاء منافعه ، وأنّ الاختيار في تعيين العمل بيد المستأجر ، ولا يجوز له التخلّف عمّا عيّن المستأجر من العمل ، ولا يجوز له العمل للغير بل لابدّ من أن يكون تحت اختيار المستأجر ، نظير الخادم الذي يستخدمه الإنسان لإرجاع حوائجه إليه ؟
فعلى التقدير الأوّل الذي هو خلاف ما يظهر من كلماتهم في المراد من الأجير الخاصّ بالمعنى الأوّل ، بل يمكن أن يقال بعدم صحّة هذا النحو من الإجارة رأساً لاستلزام الغرر المنهي عنه ، فتدبّر ، لا محيص عن القول بأنّ ما يرجع به المستأجر على الأجير إنّما هو اُجرة مثل العمل الذي أوقعه لنفسه أو لغيره ، ولا يتصوّر هنا الرجوع إلى عوض الفائت من المنفعة كما هو ظاهر .
وعلى التقدير الثاني الذي هو الموافق لظاهر الكلمات ، فتارةً يعيّن له المستأجر عملاً خاصّاً ويتخلّف الأجير عنه ويعمل لنفسه كما هو المفروض ، واُخرى يعمل لنفسه مع عدم تعيين عمل عليه ، ففي الأوّل يكون مقتضى القاعدة جواز رجوعه إلى الأجير باُجرة مثل العمل الذي أوقعه لنفسه ; لأنّه كان مملوكاً للمستأجر ، وبعوض المنفعة المعيّنة الفائتة ; لأنّه فوّتها وأتلفها على المستأجر ، ولا دليل في البين على عدم جواز الرجوع بكلتا الاُجرتين ، وإن كان الظاهر هو الرجوع إلى الأوّل فقط ، وفي الثاني يتعيّن عليه الرجوع باُجرة مثل العمل فقط ; لعدم تحقّق الإتلاف والتفويت أصلاً .
(الصفحة 460)
وأمّا الأجير الخاصّ بالمعنى الثاني ، فإن كان العمل الذي عمله لنفسه من نوع العمل المستأجر عليه ، كما إذا كان العمل المستأجر عليه الخياطة واشتغل بالخياطة لنفسه ، فالرجوع إنّما هو باُجرة المثل للعمل . وإن كان من غير ذلك النوع، كما إذا اشتغل بالكتابة لنفسه في الفرض المزبور فالظاهر الرجوع باُجرة عوض ما فات من المنفعة ، ولا مجال للرجوع إلى اُجرة الكتابة بعد عدم ارتباطها بالمستأجر أصلاً ، كما لا يخفى .
الصورة الثالثة : ما إذا عمل الأجير للغير تبرّعاً في بعض المدّة أو جميعها وحكم هذه الصورة من الحيثيّة الراجعة إلى العقد وثبوت التخيير للمستأجر بين الفسخ والإمضاء وعدمه ـ وكذا من الجهة الراجعة إلى المقدار الذي يرجع به المستأجر من اُجرة مثل العمل ، أو عوض الفائت أو التخيير أو غيرها من الاحتمالات المتقدّمة ـ حكم الصورة الثانية ، من دون فرق بينهما إلاّ في بعض الجهات غير المهمة كما يظهر بالتأمّل ، والذي لابدّ من البحث عنه هنا هو التكلّم فيمن يرجع إليه المستأجر من الأجير أو الغير المتبرّع له ، والذي يظهر منهم أنّه هنا أقوال :
أحدها : ما حكي عن المسالك(1) من التخيير بين مطالبة من شاء منهما معلّلاً بتحقّق العدوان . وردّ عليه(2) بأنّ هذا التعليل ـ مع اختصاصه بصورة علم الغير وعدم شموله لصورة الجهل ـ غير ظاهر ; لأنّ العدوان فرع التصرّف في المنفعة المملوكة للغير ، وهو أي المتبرّع له لا يكون متصرّفاً فيها كالتصرّف في العين التي تكون منفعتها للغير .
- (1) مسالك الأفهام : 5 / 191 .(2) راجع كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 217 ومستمسك العروة : 12 / 100 .
(الصفحة 461)
ثانيها : تعيّن الرجوع إلى الغير المتبرّع له ; لأنّه المستوفي للمنفعة المملوكة للمستأجر ، والاستيفاء من أسباب الضمان .
ويرد عليه منع كون مجرّد الاستيفاء موجباً للضمان بل إذا كان مسبوقاً بالأمر، والتحقيق في محلّه .
ثالثها : التفصيل بين صورتي العلم والجهل وعدم جواز الرجوع إلى الغير مع جهله ; لأنّه لا يزيد على من عمل له العبد بدون إذن مولاه ومن دون إذنه واستدعائه ، وهذا هو الذي يظهر من صاحب الجواهر (قدس سره)(1) .
رابعها : ما اختاره في العروة من عدم جواز الرجوع إلى الغير المتبرّع له بالعوض ، سواء كان جاهلاً أو عالماً بالحال . قال : لأنّ المؤجر هو الذي أتلف المنفعة عليه دون ذلك الغير ، وإن كان ذلك الغير آمراً له بالعمل ، إلاّ إذا فرض على وجه يتحقّق معه صدق الغرور ، وإلاّ فالمفروض أنّ المباشر للإتلاف هو المؤجر(2) .
واعترض عليه تارةً : بأنّه فيما إذا كان ذلك الغير آمراً له بالعمل لا يبعد الحكم بجواز رجوع المستأجر إليه ، لا لأنّه أتلف على المستأجر منافعه حتّى يجاب بأنّ المباشر هو الأجير ، بل لأنّه استوفى عمل الأجير الذي هو ملك المستأجر بدون تبرّع من مالكه ، فله أخذ العوض عنه ، وتبرّع الأجير به لا يفيد بعد كونه ملكاً لغيره .
واُخرى : بأنّ فرض صدق الغرور غير ظاهر ، وإن أُجيب عن هذا الاعتراض بأنّه يمكن فرضه فيما إذا ادّعى الغير الوكالة من قبل المستأجر والاستئذان عنه في
- (1) جواهر الكلام : 27 / 266 .(2) العروة الوثقى : 5 / 83 مسألة 4 .
(الصفحة 462)
استيفاء منفعة الأجير ، وكان الأجير معتقداً بصدقه ثمّ انكشف الخلاف بعد الاستيفاء .
وثالثة : بأنّ صدق الغرور على تقدير تسليمه إنّما يصحّح رجوع الأجير المغرور إلى الغارّ الذي هو الغير ، ولا يصحّح رجوع المستأجر إليه الذي هو المدّعى ، إلاّ أن تحمل العبارة على كون المراد فرض صدق الغرور من قبل الغير بالنسبة إلى المستأجر ، وهو مع كون فرضه غير ظاهر خلاف ظاهر العبارة جدّاً ، كما هو ظاهر .
والحقّ أن يقال : إنّه لا مجال للحكم بضمان الغير هنا إلاّ من ناحية الاستيفاء فقط ; لعدم وجود شيء من أسباب الضمان غيره ، والتحقيق في أنّ مجرّد الاستيفاء بنفسه يوجب الضمان أو يتوقّف على الأمر موكول إلى محلّه .
الصورة الرابعة : ما إذا عمل للغير بعنوان الإجارة أو الجعالة .
فإن كان أجيراً خاصّاً بالمعنى الأوّل ; وهو أن يكون جميع منافعه للمستأجر في مدّة معينة بحيث كان الاختيار في تعيين العمل بيده ، فالمذكور هنا وفي العروة أنّ المستأجر حينئذ يتخيّر بين الاُمور الثلاثة : إجازة ما صدر من الأجير من الإجارة أو الجعالة ; لأنّه المالك للعمل الواقع مورداً لهما ، فالإجازة حقّ ثابت له ، وعليه فتكون الاُجرة المسمّـاة في تلك الإجارة أو الجعالة له ، وفسخ عقد نفسه والرجوع إلى الاُجرة المسمّـاة فيه ، وإبقاؤه ومطالبة عوض المقدار الذي فات(1) .
وذكر سيّدنا العلاّمة الأستاذ (قدس سره) في الحاشية أنّه مخيّر بينها وبين رابع ; وهو إبقاء إجارة نفسه وردّ الإجارة الثانية والرجوع إلى مستأجرها باُجرة العمل ; لأنّه
- (1) العروة الوثقى : 5 / 84 مسألة 4 .
(الصفحة 463)
استوفى عمل الأجير الذي هو ملك المستأجر بدون تبرّع من مالكه(1) .
وإن كان أجيراً خاصّاً بالمعنى الثاني ; وهو كون منفعته الخاصّة للمستأجر في مدّة معيّنة فالمذكور في العروة أنّه فيما إذا لم يكن العمل للغير من نوع العمل المستأجر عليه; كأن تكون الإجارة واقعة على منفعة الخياطة فآجر نفسه للغير للكتابة مثلاً ليس للمستأجر إجازة ذلك ; لأنّ المفروض أنّه مالك لمنفعة خاصّة ، فليس له إجازة العقد الواقع على منفعة اُخرى ، فيكون مخيّراً بين الأمرين الآخرين من تلك الاُمور الثلاثة(2) .
وإن كان أجيراً خاصّاً على الوجه الثالث ; بأن استأجره لعمل مباشرة في مدّة معيّنة لا تتّسع لغيره، فالمذكور في العروة أنّ حكمه حكم الوجه الثاني ، مع الفرق في أنّه لا يتفاوت هنا في عدم صحّة الإجازة بين ما إذا كانت الإجارة أو الجعالة واقعة على نوع العمل المستأجر عليه أو على غيره ، إذ ليست منفعة الخياطة مثلاً مملوكة للمستأجر حتّى يمكنه إجازة العقد الواقع عليها ، بل يملك عمل الخياطة في ذمة المؤجر .
هذا ما أُفيد في هذه الصورة ، ويظهر ماهو المختار ممّا قدّمناه من مباحث الأجير الخاصّ وأحكام الصور المتقدّمة ولا نطيل بالإعادة ، فتدبّر .
- (1) العروة الوثقى : 5 / 84 ، التعليقة 2 وص83 ، التعليقة 1 .(2، 3) العروة الوثقى : 5 / 84 ـ 85 ، مسألة 4.