(الصفحة 48)
صلباناً ؟ قال : لا(1) .
ومن المعلوم أنّ الفارق بحسب هذه الصحيحة ليس وجود القصد وعدمه ، بل كونه متّخذاً برابط أو صلباناً ، فكيف يجمع بين الروايات بالنحو المشهور ؟!
كما أنّه بهذه الصحيحة يقع الإشكال فيما أفاده سيّدنا الأستاذ أيضاً ، فإنّ إلغاء روايات الجواز نظراً إلى الوجوه التي أفادها لا يلائم مع الجمع بينه وبين النهي في رواية واحدة كما في الصحيحة ، إلاّ أن يلتزم بإلغاء صدرها أيضاً ، ولكنّه لايناسب مع ما هو المستفاد منها من كون الفارق اختلاف المحرّمات ، ووقوع بعضها في مرتبة من الاهتمام دون البعض الآخر . وبعبارة اُخرى الصحيحة ناظرة إلى التفصيل وحاكمة بالفرق بين الصورتين ، ومعه لايبقى مجال للإلغاء كما لا يخفى .
وبالجملة: هذه الصحيحة شاهدة على ما أفاده الشيخ الأعظم ممّاعرفت، واستبعاد التفصيل بين الصليب والخمرمدفوع بما أفاده المستبعد في آخر كلامه من أنّ الصليب وإن كان عبارة عمّا يصنع شبيه ما صلب به المسيح ـ على زعمهم وتخيّلهم ـ إلاّ أنّ صيرورته شعاراً لهم أوجبت الاهتمام به ، وتحريم التسبّب إليه زائداً على غيره(2) .
وما أبعد بين ما أفاده سيّدنا الأُستاذ في مقام الجمع بين الروايات ، وبين ما أفاده بعض الأعلام من أنّه على فرض تماميّة عدم الفصل بين موارد الروايات المجوّزة والمانعة يكون المقام من قبيل تعارض الدليلين ، فيؤخذ بالطائفة المجوّزة ; لموافقتها لعمومات الكتاب ، كقوله تعالى :
{أَوفُوا بِالعُقُودِ}(3) و
{أَحَلَّ اللهُ البَيعَ}(4) و
{تِجَارَةً
- (1) الكافي : 5 / 226 ح2 ، التهذيب : 6 / 373 ح1082 وج7 : 134 ح590 ، وسائل الشيعة : 17 /176 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب41 ح1 .(2) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني : 1 / 148 .(3) سورة المائدة 5 : 1 .(4) سورة البقرة 2 : 275 .
(الصفحة 49)
عَن تَرَاض}(1)(2) وتمام الكلام في باب البيع موكول إلى محلّه .
وأمّا الإجارة التي هي محلّ البحث هنا وردت في خصوصها روايات فالظاهر اختلاف حكمها مع البيع وعدم جواز قياس أحدهما بالآخر ; لأنّ الأعمال ليست كالأعيان بحيث لاتكون قابلة للتقييد والتضييق ، بل هي قابلة لأن تصير حصّة خاصّة كالكتابة المقيّدة بنسخ كتب الضلال ، والحمل المقيّد بكونه حراماً كحمل الخمر والخنزير مثلاً ، وكذا المنافع ، فإنّها أيضاً قابلة للتوسعة والتضييق ، فمع التقييد بالجهة المحرّمة تكون هذه الحصّة كالخمر والخنزير في سقوطها عن المالية شرعاً . نعم ، لابدّ من الجمع بين الروايات الواردة في خصوص الإجارة ، وقد عرفت أنّ الجمع بالكيفية المشهورة ممّا لاشاهد له أصلاً .
والتحقيق أن يقال : أمّا رواية تحف العقول الواردة في الإجارة على الأعمال(3)فلامعارض لها فيه ، فلا محيص عن الالتزام بالحرمة في باب الأعمال ; لأنّها متلقّاة بالقبول عندهم .
وأمّا الروايتان المتقدّمتان(4) الواردتان في المنافع فيمكن الجمع بينهما بحمل الاُولى على الحكم التكليفي ، والثانية على الحكم الوضعي ; لأنّ الحكم بحرمة الأُجرة في الثانية صريح في البطلان وعدم الانعقاد ، وأمّا نفي البأس الواقع في الرواية الاُولى وإن كان ظاهره أيضاً الصحّة والنفوذ ، إلاّ أنّ الظهور لا يقاوم الأظهر والنص ، فيحمل بقرينة المقابل على خلاف الظاهر ، ويحكم بكون المراد هو نفي
- (1) سورة النساء 4 : 29 .(2) مصباح الفقاهة : 1 / 175 .(3) تقدّمت في ص44.(4) في ص 43 ـ 44 .
(الصفحة 50)
البأس بالنظر إلى التكليف ، ولا ينافي البطلان وعدم النفوذ .
وعلى تقدير دعوى كون هذا الجمع تبرّعياً ولا شاهد عليه ولا يكون مقبولاً عند العقلاء نقول : لابدّ من ترجيح الرواية الثانية ; لكونها موافقة للمشهور(1) بل المجمع عليه(2) ، وقد ثبت في محلّه أنّ الشهرة الفتوائية أوّل المرجّحات ، وعلى كلا التقديرين يثبت المطلوب ; وهو فساد الإجارة مع حرمة المنفعة وعدم حلّيتها .
ثمّ إنّه بناءً على لزوم الأخذ بمقتضى الرواية الدالّة على الفساد لابدّ من الالتزام بفساد الإجارة ، ولو مع عدم تحقّق التضييق والتقييد بالجهة المحرّمة ، فإذا آجر بيته ممّن يبيع فيه الخمر تكون الإجارة فاسدة والأُجرة محرّمة ، ولو مع عدم التقييد ببيع الخمر فيه ، وعدم تحقّق القصد والتوصّل بالإجارة إلى وقوع الأمر المحرّم ، بل هذه الصورة هي مورد الرواية ، فإنّه لايكاد يتّفق من المسلم مثل هذا التقييد ، خصوصاً المسلم الذي يكون متقيّداً بالأحكام الشرعية ، بل لايبعد أن يقال بشمول الرواية لما إذا استفاد المستأجر المنفعة المحرّمة ولو لم يكن المؤجر عالماً به ، بل ولا محتملاً له أصلاً ; لأنّ إجارة البيت ـ الواقعة في الرواية ـ مطلقة ، ومبايعة الخمر فيه أمر متفرّع عليه خارجاً ، وهو يصدق مع عدم العلم ، بل ومع عدم الاحتمال أيضاً ، فتدبّر . هذا تمام الكلام في اعتبار إباحة المنفعة .
الثاني : من الاُمور المعتبرة في المنفعة أن تكون متموّلة يبذل بإزائها المال عند العقلاء ، والوجه فيه أنّ الإجارة من المعاوضات المالية عندهم ، وقد مرّ أنّ الشارع لم يتصرّف في حقيقة الإجارة،بل غاية الأمرأنّه اعتبر بعض الخصوصيّات غير المرعيّة
- (1) راجع رياض المسائل : 6 / 33 ـ 34 ، والحدائق الناضرة : 21 / 552 .(2) راجع الخلاف : 3 / 508 مسألة 37 ، وغنية النزوع : 285 .
(الصفحة 51)
لدى العقلاء(1) ، فلابدّ أن تكون المنفعة متموّلة لئلاّ يكون بذل المال بإزائها سفهاً.
***
[قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]:استئجار الدرهم والدينار
قد تعرّض في الشرائع(2) بعد اعتبار إباحة المنفعة في صحّة الإجارة لحكم استئجار الحائط المزوّق للتنزّه بالنظر إليه ، وتردّد في الحكم بالجواز والعدم بعدما حكى الأوّل ونسبه إلى قائل غير معلوم ، وهذا يشعر بل يدلّ على كون هذا من فروع اعتبار إباحة المنفعة ، مع أنّه ليس الأمر كذلك ، فإنّ التنزّه الحاصل بمجرّد النظر لا يكون فيه شبهة الحرمة ; لأنّه من قبيل الاستظلال بالحائط بدون إذن مالكه ، بل الشبهة على تقديرها إنّما هي مع عدم الإذن ، والمفروض الاستئجار الملازم لثبوت الإذن ، والحقّ أنّ هذه المسألة نظير استئجار الدينار والدرهم للتزيين وأشباهها ، وكان ينبغي على صاحب الشرائع ذكرها في طيّ نظيرها .
وكيف كان ، فقد ذهب المشهور إلى جواز استئجار الدينار والدرهم(3)، وحكيت المخالفة لهم صريحاً عن ابن إدريس(4) ، وعن جماعة آخرين التردّد في الجواز وعدمه(5) ، وما يستفاد من الكلمات في وجه المنع أمران :
- (1) مرّ في ص11 .(2) شرائع الإسلام : 2 / 186 .(3) الخلاف : 3 / 510 مسألة 41 ، المبسوط : 3 / 250 ، شرائع الإسلام : 2 / 185 ، تذكرة الفقهاء : 2/294 ، إرشاد الأذهان : 1 / 423 ، جامع المقاصد : 7 / 127 ، مجمع الفائدة والبرهان : 10 / 22 .(4) السرائر : 2 / 479 .(5) كالعلاّمة في قواعد الأحكام : 2 / 287 ، ونسب في الحدائق الناضرة : 21 / 609 الترديد إلى الشرائع والمختلف : 6 / 127 مسألة 27 .
(الصفحة 52)
أحدهما : عدم ثبوت أصل المنفعة ، ولأجله لا يصحّ وقفهما .
ثانيهما : عدم كون منفعتهما متموّلة ، ولأجله لا تضمن بغصبهما .
أمّا الأمر الأوّل: فقد أجاب عنه المحقّق الإصفهاني (قدس سره) بما ملخّصه : إنّ المنافع على قسمين : مقصودة وغير مقصودة ، والمراد بالاُولى هي المنافع المترقّبة من الأعيان كلّ عين بحسبها ، وهي المصحّحة لماليّة الأعيان ، بحيث لولاها لم تكن العين ذات مالية ، وبالثانية هي المنافع الجزئية التي لا تناط مالية العين بوجودها ، كالشمّ في التفّاح مع كون منفعته المقصودة هي الأكل ، وحينئذ فمراد المانع من عدم ثبوت المنفعة إن كان عدم المنفعة رأساً فهو خلاف الواقع وخلاف المفروض ، إذ الكلام فيما لو استأجر لمنفعة من المنافع كالتزيين وإن كان عدم المنفعة المقصودة فهو حقّ ، إلاّ أنّه لا دليل على اعتبار المنفعة المقصودة في باب الإجارة ، وإن كانت معتبرة في باب البيع الذي هو مبادلة مال بمال ; لأنّ الإجارة عبارة عن تمليك المنفعة ، وهي مطلقة غير مقيّدة بما تكون مصحّحة لماليّة العين ، فإنّه ربّما تكون المنفعة مع عدم كونها مقصودة للعقلاء يتعلّق بها غرض عقلائي يخرج المعاملة عن السفاهة .
ولذا ورد أنّ الأئمّة ـ سلام الله عليهم ـ كانوا أحياناً يستقرضون إظهاراً للغنى(1)، بل ربما يبعثون به إلى عمّال الصدقات إظهاراً لكونه زكاة أموالهم(2) .
وأمّا عدم صحّة الوقف بلحاظ هذه المنافع غير المقصودة فغير مسلّم ، بل السيرة العملية من صدر الإسلام إلى يومنا هذا على وقف بعض الأعيان لمجرّد التزيين ، فهذا ثوب الكعبة فإنّه لمجرّد التزيين لا أنّه وقاية
- (1 ، 2) راجع وسائل الشيعة : 5 / 9 ، كتاب الصلاة ، أبواب أحكام الملابس ب3 .