(الصفحة 554)
الواردة في الموارد المختلفة أيضاً على الحكم بكون الرجل أميناً أو مؤتمناً ، الظاهر في مفروغية استتباع الأمانة لنفي الضمان المستفاد من عموم «على اليد ما أخذت . . .»(1). فلا محيص عن الالتزام بهذه القاعدة ، وهل هي قاعدة شرعية أو عقلائية ممضاة للشارع ؟ فيه وجهان ، ولا يبعد ترجيح الوجه الثاني .
وأمّا الصغرى ; وهي ثبوت الأمانة وتشخيص حقيقتها ، ففيها غموض وإشكال ، وقبل الخوض فيها نقول : ذكر المحقّق الإصفهاني (قدس سره) تبعاً لما يستفاد من الفقهاء ـ رضوان الله عليهم ـ أنّ الأمانة مالكية وشرعية ، والتأمين المالكي على قسمين : تأمين عقديّ كالوديعة التي حقيقتها الاستنابة في الحفظ ; وهي الأمانة بالمعنى الأخصّ ، وتأمين بالتسليط على ماله برضاه فتكون أمانة بالمعنى الأعمّ ، وبهذا المعنى اُطلقت الأمانة على العين المستأجرة والمرهونة والمستعارة والمضارب بها ، والأمانة الشرعية فيما كان التسليط على المال بحكم الشارع ، كما في تسليط الولي على مال القاصر ، وكالتسليط على اللقطة ومجهول المالك وغير ذلك .
ثمّ ذكر (قدس سره) أنّ الأمانة المالكية بالمعنى الأعمّ إنّما يستفاد تحقّقها ممّا ورد في الأبواب المتفرقة من العارية والمضاربة ونحوهما بعنوان أنّ صاحب العارية مؤتمن ، وأنّ صاحب البضاعة مؤتمن خصوصاً بعد ضمّه إلى أنّ صاحب الوديعة مؤتمن(2) ، مع أنّه ليس في هذه الموارد مصداق للتأمين المالكي إلاّ تسليطه على ماله عن رضاه ، فيعلم منه أنّ كلّ تسليط عن الرضا ائتمان ، وما يذكر في مقام التقييد من أنّه لابدّ من أن يكون التسليط بعنوان التسليط منه على ماله لا بعنوان مال مالكه ، وعن الرضا
- (1) تقدّم تخريجه في ص338.(2) وسائل الشيعة : 19 / 79 ، كتاب الوديعة ب4 ح1 وص93 ، كتاب العارية ب1 ح6 وص142 ، كتاب الإجارة ب29 ح3 .
(الصفحة 555)
المحض لا عن لابدّية واستحقاق للغير ، وأنّه لا يكون مبنيّاً على أمر غير واقع ، كلّ ذلك من المحقّقات للتسليط عن الرضا لا أمر زائد عليه(1) ، انتهى موضع الحاجة .
وربما يستشكل في ثبوت الأمانة الشرعية بابتنائها على القول بالحقيقة الشرعية وهو غير ثابت ، والتحقيق عدم الابتناء ، ضرورة أنّه ليس المراد بها كون الأمانة في مواردها لها معنى خاصّ عند الشارع ; وهي حقيقة في ذلك المعنى ، بل المراد بعد وضوح كون الأمانة في موارد الأمانة الشرعية يراد بها ما هو معناها بحسب اللغة ، أنّ التأمين تارةً يكون من قبل المالك ، واُخرى من قبل الشارع الذي هو المالك الحقيقي ، فليس الاختلاف راجعاً إلى معنى الأمانة وحقيقتها ، والمصحّح لتقسيمها إنّما هو اختلاف من يقع التأمين من ناحيته ، كما لا يخفى .
وليعلم قبل ملاحظة صدق الأمانة في مثل المقام وعدمه أنّ مقتضى القاعدة في موارد الشكّ في صدقها هل هو الضمان أو عدمه ؟ فنقول : عمدة الدليل في موارد ثبوت الضمان وترتّبه على اليد قوله (صلى الله عليه وآله) : على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي . ولا يخفى أنّ اعتبار سنده محلّ كلام ومناقشة ; لأنّ الراوي له ظاهراً هو سمرة بن جندب ، وهو مطعون ومرميّ بالفسق جدّاً ، وعلى تقدير اعتبار السند نقول : إنّه لا إشكال في انقسام اليد عند العقلاء بالأماني وغيره ، وفي أنّ اليد الأمانيّة لا يترتّب عليها الضمان عندهم ، وقد عرفت أنّه يستفاد مفروغية ذلك عند الشرع من ملاحظة الموارد الكثيرة التي اقتصر فيها على بيان الموضوع وإفادة الصغرى من دون تعرّض للكبرى .
ودعوى أنّ القدر المتيقّن من ثبوت الأمانة هي الوديعة ، وأنّ مثل قوله (عليه السلام) :
- (1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 30 ـ 31 .
(الصفحة 556)
صاحب العارية والوديعة مؤتمن(1) ، لا يدلّ إلاّ على ثبوت الأمانة بنحو الحكومة ، فلا يستفاد منه إلاّ عدم الضمان فقط ، فالقاعدة العامّة الثابتة عند العقلاء وهي عدم ثبوت الضمان في جميع موارد الأمانة ممّا لم يثبت عند الشرع لو لم يقال بأنّ عموم «على اليد» دليل على خلافه ، وأنّ الشارع قد ردع العقلاء في عموم القاعدة .
مدفوعة ـ مضافاً إلى ما عرفت من استفادة مفروغية ذلك في الشرع بعد التتّبع والتأمّل ـ بأنّ الردع عن مثل هذا الأمر يحتاج إلى دليل قويّ ، ولا يكتفى فيه بالعموم كما هو ظاهر .
وبالجملة : بعد ثبوت هذه القاعدة عند العقلاء إذا اُلقي عليهم عموم قوله : «على اليد» يمكن أن يقال : بأنّ ثبوتها عندهم قرينة على اختصاص العموم باليد غير الأمانيّة، وعدم انعقاد ظهور للعام إلاّ فيه ، فيكون كالقرينة المتّصلة التي يشتمل عليها الكلام ، ومن الواضح أنّه حينئذ لا يجوز التمسّك في موارد الشكّ في صدق الأمانة بالعموم ; لانعقاد ظهوره من أوّل الأمر في اليد غير الأمانيّة، وتحقّقه في موارد الشكّ غير معلوم .
وأمّا لو قلنا بعدم كون هذه القاعدة من قبيل المخصّص المتّصل ، بل هو من قبيل المخصّص المنفصل فالظاهر حينئذ أنّه لا مانع من التمسّك بالعامّ ، بناءً على أنّه لو كان المخصّص المنفصل مجملاً مردّداً بين الأقلّ والأكثر كما في المقام فلا مانع من التمسّك بالعموم في مورد الشكّ في انطباق عنوان المخصّص عليه ، كما عليه أكثر الكتب الاُصولية ، و حينئذ يصير مقتضى القاعدة ثبوت الضمان في موارد الشكّ ، كما أنّ مقتضى أصالة البراءة واستصحاب عدم الضمان في الفرض الأوّل هو العدم .
- (1) التهذيب : 7 / 182 ح798 ، الاستبصار : 3 / 124 ح441 ، وسائل الشيعة : 19 / 93 ، كتاب العارية ب1 ح6 .
(الصفحة 557)
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ الأمانة ـ كما صرّح به بعض اللغويّين(1) ـ حقيقة في المعنى المصدري ، واستعمالها في العين الخارجيّة مجاز حتّى في الوديعة ، وعليه فمرجع اتّصاف الشخص بكونه أميناً ليس إلى كون المال أمانة عنده، كما لعلّه المتفاهم عند العرف ، بل إلى كونه متّصفاً بالوثاقة والاطمئنان ولو لم يجعل مال عنده أصلاً ، وحينئذ فالمستفاد من الروايات الكثيرة الواردة في الموارد المختلفة ـ مثل قوله (عليه السلام)في رواية الحلبي : صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان(2) ، وقول أبي جعفر (عليه السلام) في مرسلة أبان في الجواب عن السؤال عن الذي يستبضع المال فيهلك أو يسرق ، أ على صاحبه ضمان ؟ فقال : ليس عليه غرم بعد أن يكون الرجل أميناً(3) ، والروايات الكثيرة الواردة في كراهة ائتمان شارب الخمر ، وأنّه لا يصلح أن يؤتمن(4)خصوصاً ما اشتمل منها على قصّة إسماعيل ابن الصادق (عليه السلام) ـ أنّ الملاك والمناط في عدم الضمان هو كون الرجل أميناً وموثوقاً به(5) .
وأمّا ما أفاده المحقّق الإصفهاني (قدس سره) من أنّ ما ورد من الحكم بعدم التغريم إذا كان مأموناً فهو كالحكم بعدم التغريم إذا كان عدلاً مسلماً في رواية اُخرى(6) ، فإنّ الملحوظ عدم التغريم من حيث التفريط ، يعني إذا كان عدلاً مسلماً مأموناً فهو لا يفرط ، وإلاّ فالضمان من حيث التلف لا يتفاوت فيه البرّ والفاجر(7) .
- (1) أقرب الموارد : 1 / 20 .(2) التهذيب : 7 / 183 ح805 ، وسائل الشيعة : 19 / 93 ، كتاب العارية ب1 ح6 .(3) الكافي : 5 / 238 ح4 ، وسائل الشيعة : 19 / 93 ، كتاب العارية ب1 ح8 .(4) وسائل الشيعة: 19 / 82 ـ 84، كتاب الوديعة ب6.(5) الكافي : 5 / 299 ح1 ، وسائل الشيعة : 19 / 82 ، كتاب الوديعة ب6 ح1 .(6) الكافي : 5 / 238 ذيل ح1 ، وسائل الشيعة : 19 / 79 ، كتاب الوديعة ب4 ح3 .(7) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 31 .
(الصفحة 558)
ففيه : أنّه لا وجه لرفع اليد عن ظاهر الرواية من التفصيل بين ما إذا كان مأموناً وما إذا لم يكن ، والحكم بعدم التغريم فيما إذا كان مسلماً عدلاً قد لوحظ فيه هذا المعنى ، ضرورة أنّ المسلم العادل ينبغي أن يوثق ويطمئنّ به كما هو ظاهر .
فانقدح أنّ المناط هو كون الرجل موثوقاً به ، وفي المقام نقول : إنّ المستأجر إذا كان موثوقاً به فهو غير ضامن من جهة كونه أميناً لا من جهة كونه مستأجراً ، وإذا لم يكن كذلك فلا يستفاد من تلك الروايات عدم ضمانه ، هذا كلّه فيما تقتضيه القاعدة .
وأمّا الكلام من الجهة الثانية، فنقول : قد ادّعي عدم الخلاف بل الإجماع على عدم ضمان العين المستأجرة إلاّ مع التعدّي أو التفريط في محكي(1) التذكرة(2)والتنقيح(3) والإيضاح النافع(4) والغنية(5) والرياض(6) ، ولكنّ الظاهر أنّه لامجال للاتّكال على الإجماع في مثل المقام ممّا يمكن أن يكون مستند المجمعين فيه هي القاعدة أو النصوص الخاصّة ، ضرورة أنّه مع هذا الاحتمال يكون اللاّزم النظر في المستند ، وأنّه هل يكون قابلاً للاستناد أم لا ؟ فالإجماع فيما نحن فيه لا يكون دليلاً مستقلاًّ .
وأمّا النصوص الخاصّة فكثيرة ، ومقتضاها أنّه لا ضمان إلاّ مع التعدّي
- (1) الحاكي هو صاحب مفتاح الكرامة : 7 / 251 .(2) تذكرة الفقهاء: 2 / 317 ـ 318.(3) التنقيح الرائع 2 : 259 .(4) إيضاح النافع في شرح المختصر النافع للفاضل القطيفي لم نعثر عليه.(5) غنية النزوع : 288 .(6) رياض المسائل : 6 / 18 .