(الصفحة 54)
بذل المال بإزائه ، فلا معنى لتقسيمها إلى قسمين : جعلية ومنجعلة .
ثمّ أجاب نفسه عن الدليل تارةً بمنع الكبرى ، وأنّ حقيقة الإجارة لغةً وعرفاً وشرعاً تمليك المنفعة من دون تقيّد بكونها مقصودة ولا كونها متموّلة ، والإجارة تغاير البيع من هذه الجهة ، فإنّ الغرض في البيع ينحصر بإقامة مال مقام مال ، وفي الإجارة ربّما يكون المصحّح للبذل تحصيل غرض عقلائيّ بالانتفاع بالعين، كما أنّه لا ملازمة بين صحّة الإجارة لهذا الغرض وضمان المنفعة ، حتّى يستكشف من عدم الضمان عدم المالية ، فيحكم بعدم صحّة الإجارة ، فإنّ الضمان عند حصول موجبه ; من يد واستيفاء وإتلاف وإن كان منوطاً بمالية المضمون إلاّ أنّ دعوى أنّ ما لا ضمان له لعدم كونه مالاً لا تصحّ إجارة مثله دعوى بلا بيّنة من لغة أو عرف أو شرع ، والمراد من الملازمة بين الضمان والمالية وعدمه وعدمها هي الملازمة مع تحقّق موجبات الضمان ; من يد أو استيفاء أو إتلاف ، فالنقض بعمل الحرّ غير وارد ; لأنّ عدم ضمانه ليس من ناحية عدم المالية ، بل من ناحية عدم موجب الضمان .
واُخرى بأنّ المنافع المقصودة حيث إنّها من لوازم وجود العين نوعاً ، فهي مقدّرة الوجود دائماً بتبع وجود العين تحقيقاً ، فهي مصحّحة لمالية العين بقول مطلق ، وأمّا المنافع غير المقصودة فانّها مقدّرة الوجود أحياناً عند مسيس الحاجة إليه ، فهي مال في فرض خاصّ لا بقول مطلق ، والشاهد عليه أنّها مقوّمة عند العرف وبلحاظه يدخل فيها الغبن ، وهذه القيمة ليست بالاقتراح كما في بذل المال بإزاء الخلع ، فإنّه تابع لاقتراح الزوج ، من دون أن يكون له في ا لعرف والعادة ملاك وميزان(1) ، انتهى
- (1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 194 ـ 195 .
(الصفحة 55)
ملخّص موضع الحاجة من كلامه زِيدَ في علوِّ مقامه .
ثمّ إنّ هذا كلّه بناءً على مسلك المشهور في باب الإجارة(1) ، حيث إنّ حقيقتها عندهم عبارة عن تمليك المنفعة في إجارة الأعيان ، وأمّا بناءً على ما اخترناه سابقاً(2) من أنّ حقيقتها ترجع إلى نقل حقّ الانتفاع الثابت للمؤجر إلى المستأجر ، فعدم صحّة الأمرين اللذين استند إليهما المانع واضح لا ارتياب فيه أصلاً ، كما هو أوضح من أن يخفى .
[انتهى الكلام من كتاب الإجارة الثاني].
***
الثالث(3) : أنّه إذا كانت للعين منافع متعدّدة ، فإن كان الغرض متعلّقاً بواحدة منها فلابدّ من تعيينها ، فلو استأجر الدابّة لمنفعة خاصة من الحمل أو الركوب ، أو إدارة الرحى ونحوها لابدّ من التعيين في العقد لاختلاف الأغراض والرغبات والمالية باختلاف المنفعة ; لئلاّ يتحقّق الغرر الناشئ عن الجهل ، وإن كان الغرض متعلّقاً بالجميع فلا يلزم التعيين . نعم ، في صحّة الإجارة في هذا الفرض مع ثبوت التضادّ بين المنافع كلام يأتي تفصيله في حكم الأجير الخاصّ إن شاء الله تعالى .
الرابع : أن تكون المنفعة معلومة ، إمّا بتقديرها بالزمان المعلوم كسكنى الدار شهراً ، أو الخياطة أو التعمير والبناء يوماً ، وإمّا بتقدير العمل كخياطة الثوب المعيّن خياطة كذائية فارسية أو رومية ، من غير تعرّض للزمان إن لم يكن دخيلاً في الرغبات ، وإلاّ فلابدّ من تعيين منتهاه .
والدليل على اعتبار المعلومية التي يكون المراد بها هو العلم المقابل للجهل نفي
- (1 ، 2) تقدّم في ص 8 ـ 10 .(3) أي من الاُمور المعتبرة في المنفعة.
(الصفحة 56)
الخلاف ، بل الإجماع بقسميه كما في الجواهر(1) ، وحديث الغرر(2) ، وبعض الروايات الخاصّة ، مثل رواية أبي الربيع الشامي الواردة في الجواب عن سؤال الأرض ، يريد الرجل أن يتقبّلها فأيّ وجوه القبالة أحلّ ؟ حيث قال (عليه السلام) : يتقبل الأرض من أربابها بشيء معلوم إلى سنين مسمّـاة ، فيعمر ويؤدّي الخراج ، فإن كان فيها علوج فلا يدخل العلوج في قبالته فإنّ ذلك لايحلّ(3). مضافاً إلى بناء العقلاء الذين هم الأساس في باب المعاملات ، فإنّهم لايقدمون على بذل الأُجرة بإزاء منفعة مجهولة غير معلومة . وقد مرّ الكلام في هذه الوجوه عدا الرواية في بحث اعتبار معلومية العين المستأجرة .
وأمّا الرواية ، فدلالتها على اعتبار المعلومية التي هي مراد المشهور(4) ممنوعة ; لأنّ غاية مفادها اعتبار العلم مقابل الجهل المطلق ، مع أنّ التعبير في السؤال بقوله : «أحلّ» ظاهر في عدم كون سائر الوجوه محرّمة إلاّ أن يكون بصيغة الماضي المبني للمفعول ، أو يقال بعدم كون المراد جهة الفضيلة ، كما في غير واحد من الموارد التي استعملت فيها صيغة أفعل التفضيل .
وبالجملة : رفع اليد عمّا هو الشائع بينهم فتوىً وعملاً مشكل جدّاً ، بل قيل : إنّ العامّة الذين اكتفوا بالمشاهدة في البيع وافقوا هنا على وجوب العلم بقدر المنفعة(5) ، وان كانت هذه المقايسة في غير محلّها ، ضرورة أنّ الغرض في باب البيع تعلّق بنفس
- (1) جواهر الكلام : 27 / 260 .(2) تقدّم في ص22 .(3) التهذيب : 7 / 201 ح887 ، وسائل الشيعة : 19 / 60 ، كتاب المزارعة والمساقاة ب18 ح5 .(4) غنية النزوع : 285 ، شرائع الإسلام : 2 / 182 ، قواعد الأحكام : 2 / 291 ، رياض المسائل : 6/27 .(5) مفتاح الكرامة : 7 / 171 ، راجع المجموع للنووي : 15 / 333 ـ 334 ، والمغني لابن قدامة : 6 / 5 و8 ، والبحر الرائق لابن نجيم : 7 / 507 ـ 508 ، وأسهل المدارك للكشناوي : 2 / 117 .
(الصفحة 57)
العين ، فيمكن أن يكتفى فيها بالمشاهدة ، وهذا بخلاف المقام فإنّ متعلّق الغرض إنّما هي المنفعة التي ليست بموجودة في الخارج بتمامها ، بل توجد جزء فجزء ، فلا معنى للاكتفاء بالمشاهدة فيها . هذا بالنظر إلى الكبرى .
وأمّا بلحاظ الصغرى ، فلابدّ من التنبيه فيه على أمر ; وهو أنّ البحث في الموضوعات غير المستنبطة ليس من وظيفة الفقيه ، بل اللاّزم فيها الإرجاع إلى نظر العرف بنحو الإجمال ، بل ربما يكون نظر الفقيه مخالفاً لنظر العرف ، ويكون إظهاره موجباً للإغراء بالجهل ، وعليه فاللاّزم في المقام أن يقال : بأنّه تعتبر معلومية المنفعة من كلّ جهة له مدخلية في اختلاف القيمة والرغبة ، ومن المعلوم أنّ معلومية كلّ شيء بحسبه ، فربما تكون بتقدير المدّة ، واُخرى بتقدير العمل ، وثالثة بهما ، ورابعة بالمرّة والمرّات ، وخامسة بغيرها من الطرق الاُخر ، فإنّه لا ينحصر فيما ذكره الأصحاب ، كما أنّ ما يكون العلم فيه بتقدير المدّة مثلاً ، كسكنى الدار يكون هذا التقدير فيه رافعاً للجهالة من جهة .
وأمّا من الجهات الاُخر فلابدّ أيضاً من أن تكون معلومة من تلك الجهات بالوصف أو غيره ، فإنّه في مثل الدار التي تستأجر للسكنى ، كما أنّه لابدّ من أن تكون نفس الدار معلومة بالمشاهدة أو الوصف ، وأن تكون المدّة مقدّرة بالشهر والشهرين أو أزيد مثلاً ، كذلك لابدّ من معلومية عدد أفراد الساكنين قلّة وكثرة ، ومن معلومية كون الغرض هو سكنى نفسه ومن يتعلّق به ، أو كون الغرض إسكان الغير وجعل الدار فندقاً أو مدرسة مثلاً ، فإنّه يختلف الأغراض بذلك جدّاً ، وبسببها يتحقّق الاختلاف في القيمة اختلافاً فاحشاً .
ولأجل ذلك لامحيص عمّا ذكرنا من الإرجاع إلى العرف وعدم التعرّض لبيان الطرق الرافعة للجهالة وتعيين الموارد لها ، فإنّه كما عرفت ربما يكون موجباً للإغراء
(الصفحة 58)
بالجهل ألا ترى أنّهم اكتفوا في مقام بيان معلومية المنفعة في مثل الدار المستأجرة للسكنى بتقدير المدّة فقط ، مع أنّك عرفت في المثال أنّه لايرتفع به إلاّ الجهالة من جهة واحدة فقط ، وحينئذ فربما يتخيّل أنّ تقدير المدّة فيه كاف في رفع الجهالة وانتفاء الغرر ، نظراً إلى عدم تعرّض الأصحاب لغيره ، مع أنّه من الواضح أنّه لايكون هذا المعنى مراداً لهم أصلاً ، فالأولى التجنّب عن ذلك والإحالة إلى أهله .
ثمّ إنّه ممّا ذكرنا ظهر أنّ الأسوء من التعرّض لبيان الصغريات جعل الضابط لها في بعض المقامات كما في المقام ، حيث حكي عن بعضهم(1) أنّه ذكر في مقام بيان الضابط أنّ المنفعة إذا كانت غير العمل ، كالسكنى ونحوه يكون تقديره بتقدير الزمان خاصة ، وإذا كانت عملاً صحّ تقديره بالمحل أو بالزمان أو بهما معاً ، مضافاً إلى ما أورد عليه من النقض بالإرضاع نظراً إلى أنّه عمل ، ولا يمكن تقديره إلاّ بالزمان والنقض بضراب الفحل أيضاً ، فإنّه لايجوز تقديره بالزمان إلاّ في ضراب الماشية ، بل لابدّ من تقديره بالعدد(2) .
كما أنّ ما أفاده في «العروة»من لزوم تعيين الزمان أيضاً في مثل خياطة الثوب من الإجارة على الأعمال ، كأن يقول : إلى يوم الجمعة(3) ، لايكاد يساعد عليه الدليل بنحو الإطلاق ; لعدم مدخليّة الزمان غالباً فيما هو الغرض من الإجارة في مثل الخياطة ، مضافاً إلى أنّه لو كان التقدير بالزمان أيضاً شرطاً في صحّة هذا القسم من الإجارة كيف يمكن الحكم بالصحّة مع الإطلاق ، كما ذكره بعد ذلك بقوله : وإن أطلق اقتضى التعجيل على الوجه العرفي(4) ، فإنّ لازم ما أفاده أوّلاً
- (1) راجع السرائر : 2/457، وتحرير الأحكام: 3/85، وجامع المقاصد: 7/157، والحدائق الناضرة : 21/550 .(2) الحاكي هو المحقّق الرشتي في كتاب الإجارة: 210.(3) العروة الوثقى : 5 / 14 ـ 15 مسألة 5 .(4) العروة الوثقى : 5 / 15 مسألة 5 .