(الصفحة 647)
ينهض دليل على وجوب السقي والعلف على من ملك منفعة الدابّة أو كان له حقّ الانتفاع بها. نعم، لو كانت الإجارة عبارة عن تمليك نفس العين في مدّة خاصّة وجهة معيّنة بحيث كان مرجعها إلى صيرورة المستأجر مالكاً لنفس العين بهذه الكيفية، يمكن أن يقال بوجوب الإنفاق عليه من جهة كونه مالكاً لو لم نقل بانصراف دليل وجوب الإنفاق على المالك عن مثل هذا المالك، الذي تكون ملكيّته من أوّل الأمر موقّتة محدودة وفي جهة خاصّة، كما لا يخفى.
وبالجملة: لم يقم دليل على ثبوت وجوب السقي والعلف بالإضافة إلى المستأجر. نعم، فيما إذا كانت الدابّة بيد المستأجر ولم يكن المالك مصاحباً لها ـ كما إذا استأجر الدابّة لأن يسافر بها بنفسه من دون مصاحبة المالك أو من هو بمنزلته ـ لا يبعد أن يقال باقتضاء الشرط الضمني في عقد الإجارة للسقي والعلف، كاقتضاء الشرط الضمني من ناحية المستأجر كون الدابّة صحيحة غير معيوبة.
بقي في هذا المقام جهتان :
الجهة الاُولى : أنّه على تقدير القول بوجوب السقي والعلف على المستأجر إمّا مطلقاً، أو في خصوص الصورة المذكورة هل يستحقّ الاُجرة على نفس هذين العملين مع عدم قصد التبرّع والمجّانية أم لا؟ الظاهر هو الأوّل; لأنّ مجرّد الوجوب لا ينفي استحقاق الاُجرة مع احترام العمل وعدم قصد التبرّع كما هو المفروض. نعم، تختصّ الوديعة التي حقيقتها الاستنابة في الحفظ بعدم ثبوت الاُجرة على الحفظ فيها لكون طبعها آبياً عن ذلك، بل ربّما احتمل ثبوت الاُجرة فيها أيضاً لقاعدة الاحترام لو لم يكن مخالفاً للإجماع.
الجهة الثانية : أنّه هل يستحقّ المستأجر عوض ما بذله في مقام حفظه
(الصفحة 648)
من العلف والماء لو بذل في مقابله مالاً أم لا؟ الظاهر هو الاستحقاق; لأنّه مضافاً إلى أنّه لم ينهض دليل على المجّانية يدلّ عليه الصحيحة المتقدّمة(1) المشتملة على قوله : فقلت: جعلت فداك فقد علفته بدراهم فلي عليه علفه؟ فقال (عليه السلام) : لا، لأنّك غاصب، فإنّ المستفاد من هذا التعليل أنّ غير الغاصب يجوز له الرجوع بما أنفق على الدابّة، وأنّ التعدّي والعدوان يمنع عن ثبوت حقّ الرجوع.
المقام الثاني : في ثبوت الضمان على المستأجر لو أهمل وترك السقي والعلف مع وجوبهما عليه وعدمه، والظاهر عدم ثبوت الضمان من الجهة التي قد عرفت أنّها محلّ البحث; وهو الوجوب على المستأجر بما هو مستأجر، فإنّ مجرّد مخالفة حكم تكليفي ثابت عليه لا يوجب ثبوت حكم وضعي عليه، كما أنّ وجوب حفظ النفس المحترمة أو مال المسلم المحترم لا يقتضي ثبوت الضمان مع المخالفة وعصيان التكليف، من دون فرق في المستأجر بين أن يكون الوجوب مستفاداً من ناحية نفس عقد الإجارة أو الشرط الضمني الواقع فيه، فإنّ مخالفة الحكم التكليفي المدلول عليه بنفس العقد أو بالشرط الضمني فيه لا تلازم ثبوت حكم وضعي.
نعم، لو كان الوجوب في المقام من جهة وجوب حفظ الأمانة الثابت في جميع الأمانات لكانت مخالفته موجبة للضمان; لأنّه بها يثبت عنوان الخيانة ويرتفع موضوع الأمانة الرافعة للضمان، فتدبّر جيّداً.
الثالثة: قال في الشرائع : من استأجر أجيراً لينفذه في حوائجه كانت
(الصفحة 649)
نفقته على المستأجر إلاّ أن يشترط على الأجير(1).
والكلام في هذه المسألة أيضاً تارةً من جهة ما تقتضيه القاعدة، واُخرى من جهة النصّ الذي استدلّ به عليها.
أمّا من الجهة الاُولى: فالظاهر أنّه لا يكون في البين قاعدة مقتضية لثبوت النفقة على المستأجر في مفروض المسألة، فإنّ عقد الإجارة من حيث هو لا اقتضاء له من جهة الاستحقاق، فإنّ مقتضاه ثبوت مال الإجارة على المستأجر إذا كان كلّياً، وأمّا نفقة مدّة الاستئجار فهي خارجة عمّا هو مفاده. نعم، لو كان هناك عادة مستمرّة مستقرّة على كون نفقة الأجير المفروض على عهدة المستأجر، فإنّه مع ثبوت هذه العادة تصير بمنزلة الالتزام الضمني بالنفقة، وعليه ففي أيّ زمان أو مكان ثبتت هذه العادة يكون مقتضى الالتزام الضمني الناشئ من ثبوتها ما ذكر، وبدونها لا وجه لثبوتها على المستأجر.
وربّما يدّعى ثبوت الالتزام الضمني من طريق آخر غير العادة لا في جميع صور المسألة، بل في خصوص ما إذا لم تكن الاُجرة وافية بمؤنة الأجير واستغراق أوقاته للعمل المنفذ فيه وعدم التمكّن من النفقة ولو من طريق الاستدانة، فإنّ اجتماع هذه الخصوصيات يصير قرينة محقّقة للالتزام الضمني.
هذا، ولكن الدّعوى ممنوعة والقرينية غير محقّقة، فإنّه يمكن أن يكون رضاه بمثل هذا العقد لأجل أنّه يصير سبباً لتحصيل بعض النفقة في مقابل العدم المحض، فيرضى به لأجل هذه الجهة، والمستأجر ربّما لا يكون راضياً بغير هذا النحو.
- (1) شرائع الإسلام: 2 / 188.
(الصفحة 650)
نعم، ربّما يقال كما قاله المحقّق الإصفهاني (قدس سره) : بأنّ اللاّزم في مثل الفرض أن لا يؤجر نفسه مطلقة بل مشروطة بالنفقة، بحيث يشكل صحّة الإجارة المطلقة منه لا من حيث وجوب التكسّب لوجوب تحصيل النفقة فتحرم الإجارة المطلقة; لابتنائه أوّلاً على مسألة الضدّ ولا نقول بها، وثانياً على اقتضاء حرمة الإجارة لبطلانها، ولا نقول باقتضاء مجرّد الحرمة المولوية المتعلّقة بنفس الإجارة لبطلانها مع استجماعها لشرائط النفوذ حتّى ملك التصرّف، إذ لا تزول بالحرمة إلاّ السلطنة التكليفية; وهي إباحة الإجارة دون السلطنة الوضعية التي لا تزول إلاّ بفقد شرط من شروط الصحّة، بل من حيث إنّه لا يتمكّن في خصوص المقام من تسليم العمل في تمام المدّة خارجاً حيث لا قوّة على العمل، بل لا حياة للعامل إلاّ بما يتقوّت به، والمفروض عدم ما يتقوّت به من جميع الوجوه(1)، انتهى ملخّصاً.
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّه لم يكن المفروض عدم وفاء الاُجرة بالنفقة التي يتوقّف عليها حياته، وكذا لم يكن المفروض ما إذا لم يتمكّن من النفقة ولو بالسّرقة والغصب وأمثالهما من الوجوه والطرق غير الشرعيّة، بل المفروض عدم وفاء الاُجرة بالنفقة العادية وعدم التمكّن من النفقة بوجه شرعي كالاستدانة ونحوها، وفي هذه الصورة لا يتحقّق خلل في شرائط صحّة الإجارة بوجه ـ أنّ عدم القدرة على تسليم تمام العمل خارجاً لم يثبت كونه قادحاً في صحّة الإجارة، بل يحتمل التبعيض باختيار الصحّة في المقدور. غاية الأمر ثبوت الخيار للمستأجر مع الجهل.
مع أنّه يمكن فرض تحقّق القدرة على تسليم تمام العمل من ناحية
- (1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 288.
(الصفحة 651)
وجوب حفظ النفس المحترمة من الهلاك، وعليه فيجب على المستأجر عيناً الاُجرة بمقتضى عقد الإجارة وكفاية تكميل النفقة من جهة وجوب حفظ النفس المحترمة، والكلام إنّما هو في وجوب النفقة زائدة على الاُجرة من جهة نفس الاستئجار لا عنوان آخر غيره، فلم يقم دليل على بطلان الإجارة المطلقة في مفروض المسألة، ولا على وجوب النفقة على المستأجر من جهة كونه مستأجراً.
وأمّا من الجهة الثانية: فالنصّ الوارد في المقام هي رواية سليمان بن سالم قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل استأجر رجلاً بنفقة ودراهم مسمّـاة على أن يبعثه إلى أرض، فلمّا أن قدم أقبل رجل من أصحابه يدعوه إلى منزله الشهر والشهرين فيصيب عنده ما يغنيه عن نفقة المستأجر، فنظر الأجير إلى ما كان ينفق عليه في الشهر إذا هو لم يدعه فكافأه به الذي يدعوه، فمن مال مَنْ تلك المكافأة؟ أ من مال الأجير أو من مال المستأجر؟ قال : إن كان في مصلحة المستأجر فهو من ماله وإلاّ فهو على الأجير. وعن رجل استأجر رجلاً بنفقة مسمّـاة ولم يفسّر (يعيّن ـ يب) شيئاً على أن يبعثه إلى أرض اُخرى، فما كان من مؤنة الأجير من غسل الثياب والحمّام فعلى مَنْ؟ قال : على المستأجر(1).
والبحث في الرواية تارةً من حيث السند، واُخرى من جهة الدلالة.
أمّا من حيث السند، فهي غير قابلة للاعتماد عليها; لجهالة الراوي وهو سليمان بن سالم وعدم كونه مذكوراً في كتب الرجال، وليس في البين ما يكون جابراً.
وأمّا من جهة الدلالة، فربما يقال بدلالة صدرها وذيلها على وجوب
- (1) الكافي: 5 / 287 ح2، وسائل الشيعة: 19 / 112، كتاب الإجارة ب10 ح1.