(الصفحة 74)
الصبرة بكذا»(1) .
وكيف كان ، فهما (قدس سرهما) مشتركان في أنّ المنفعة لابدّ وأن تكون محدودة بالزمان وبدونه لايمكن تمليكها .
ويرد عليهما : أنّ لزوم التحديد بالزمان إن كان لأجل كونها بدونه عدماً بحتاً كما يقول به الأوّل ، فيرد عليه : أنّ العدم البحت ، كيف يقبل التحديد ، وإن كان لأجل اقتضاء التدرّج في الوجود له ، كما يقول به الثاني فيرد عليه : منع اقتضاء مجرّد التدرّج للمحدودية بالزمان .
وإن كان مرادهما من المحدودية هو التقوّم ; بمعنى أنّ المنفعة متقوّمة بالزمان ، فيدفعه أنّ التقوّم إن كان بالنسبة إلى ماهية المنفعة فمرجعه إلى مدخلية الزمان في حقيقة سكنى الدار مثلاً مفهوماً، ومن المعلوم خلافه، ضرورة أنّ تصوّر سكنى الدار بمفهومه لا يلازم تصوّر الزمان أصلاً ، فيكشف ذلك عن عدم دخالته في الحقيقة والماهية ، وإن كان بالإضافة إلى وجودها وتحقّقها في الخارج ، فهو وإن كان كذلك إلاّ أنّه لايقتضي التقدير حال العقد الذي هو حال ملاحظة المفهوم قبل أن يوجد في الخارج ، خصوصاً لو كان بناء المتعاقدين على التعيين اللفظي بعد العقد الذي هو خارج عن مفروض المقام ; لأنّ محلّ البحث هنا مالو اقتصر على مجرّد إجارة الدار كلّ شهر بكذا من دون تعيين الزمان قبل العقد ، وبناء العقد عليه أو البناء على التعيين بعد العقد ، بل المراد تمليك ما يختاره المستأجر عملاً في الخارج ، كما عرفت .
وبالجملة : فهذا الوجه أيضاً لا مجال للاتّكال عليه في الحكم بالبطلان .
وأمّا الوجه الثالث : ففيه أنّه لا مانع من أن يقال : بأنّه ينتقل إلى ورثة
- (1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 77.
(الصفحة 75)
المستأجر ـ على تقدير عدم كون المراد استيفاءه بنفسه ـ حقّ استيفاء المنفعة من الدار كلّ شهر بكذا ، الذي كان ثابتاً لنفس المستأجر بعد صحّة الإجارة على ماهو المفروض ، فما يكون ثابتاً له فهو يعدّ من متروكاته وينتقل إلى ورثته .
وأمّا وقت استحقاق المؤجر للأُجرة فهو عبارة عن وقت العقد ، ولا يلزم أن يكون مقدار الأُجرة ـ المملوك حينه ـ معلوماً بعد معلومية اُجرة كلّ شهر .
فانقدح من جيمع ماذكرناه عدم تماميّة شيء من الوجوه الثلاثة ، فالظاهر بمقتضى القاعدة حينئذ الصحّة .
المقام الثاني : في أنّه على تقدير القول بالبطلان في المقام الأوّل فهل يمكن التصحيح من طريق آخر ؟ ونقول : إنّ الطرق المتصوّرة بعد الإجارة ثلاثة :
أحدها : المعاطاة ، قال المحقّق الرشتي (قدس سره) بعد الحكم بجريان المعاطاة في الإجارة أيضاً ، وأنّ شروط العقد ليست شرطاً فيها أصلاً ، خلافاً لمن خالف . ويمكن تصحيح المسألة بطريق المعاطاة ولو في ضمن الصيغة الفاسدة ، لكن بناءً عليه لا أثر لها إلاّ بعد حصول المعاطاة من جانب أو جانبين على الاحتمالين أو القولين في المعاطاة ، والله العالم(1) .
ويرد عليه: منافاة ماذكره هنالما أفاده آنفاً ; من أنّ المنفعة بدون التحديد بالزمان أوّلاً وآخراً لاتكون قابلة للتمليك ، فإنّها إذا لم تكن قابلة له بسبب العقد والصيغة فكيف تتّصف بالقابليّة في المعاطاة ، ومجرّد عدم اشتراط شروط العقد في المعاطاة لايوجب صيرورة المستحيل جائزاً ; لأنّ هذه شبهة ثبوتية كما عرفت ، ولافرق فيها بين كون السبب قولاً أو فعلاً . نعم ، قد عرفت اندفاعها وعدم تماميتها بوجه .
- (1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 107 ـ 108 .
(الصفحة 76)
وحينئذ ، يقع الكلام في جريان المعاطاة في مفروض المسألة ، ولأجل كونها بهذا النحو متداولاً في هذه الأزمنة في مثل الفنادق والخانات ، بل ربما يتّفق كثيراً في مثل إجارة الدار وأشباهها ، ويتداول أيضاً في الإجارة على الأعمال في الخادم والخادمة وأمثالهما ، فلابدّ من البحث عن حكمها ليتّضح الحال .
فنقول وعلى الله الاتّكال : تارةً يقال باشتراط شروط العقد في المعاطاة كما هو الظاهر(1) ، ولعلّه المشهور ، واُخرى بعدمه ، كما اختاره المحقّق الرشتي (قدس سره)على ما عرفت آنفاً ، وعلى التقديرين قد يقال بكفاية الإعطاء من جانب واحد . وقد يقال بلزوم التعاطي من الطرفين .
فإن قلنا بكفاية الإعطاء من جانب واحد ، وعدم اشتراط شروط العقد في المعاطاة ، ففي إجارة الأعيان كالدار والفندق ونحوهما تتحقّق المعاطاة بإعطاء الأُجرة أوّلاً ، ويقع بإزائها ما يقابلها من المنفعة على طبق ما تقاولا عليه ، كما أنّها تتحقّق بتسليم العين إلى المستأجر وتسليطه عليها ، والجهل لايقدح على ماهو المفروض ، وفي الإجارة على الأعمال كالخادم والخادمة أيضاً تتحقّق بإعطاء الأُجرة ، كما أنّها تتحقّق بتسليم العمل إلى المستأجر ، فأيّ مقدار من العمل سلّمه الأجير إلى المستأجر يصير مستحقّاً لما يقع بإزائه من الأُجرة .
وإن قلنا في هذا الفرض باشتراط شروطه فيها ، فلا إشكال في تحقّقها بإعطاء الأجرة أوّلاً في إجارة الأعيان والإجارة على الأعمال ، كما أنّه لا إشكال في تحقّقها بتسليم العمل إلى المستأجر في الثاني ; لأنّ العمل بعد التسليم لايكون مجهولاً بوجه ، فيستحقّ العامل بعده ما يقع بإزائه من الأُجرة ، وأمّا تحقّقها بتسليم العين
- (1) راجع كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 3 / 68 ـ 71 .
(الصفحة 77)
والتسليط عليها في الأوّل ، فإن كان المراد حصولها بنفس التسليم فالظاهر عدم الجواز بعد فرض الجهل بالزمان ومدخلية العلم في صحّة المعاطاة أيضاً .
وإن كان المراد حصولها تدريجاً ، نظراً إلى أنّه كما أنّ المنفعة تدريجيّة الوجود كذلك اعطاؤها ـ المتحقّق بإعطاء العين ـ أيضاً تدريجيّ ، وعليه فتمامية المعاطاة تتوقّف على تماميّة استيفاء المستأجر المنفعة ، فإن كانت مدّته شهراً فالمعاطاة تتمّ رأس الشهر وتتحقّق بالنسبة إليه ، وهذا كما في الإجارة على الأعمال ، فإنّه كما أنّ المعاطاة فيها تتحقّق بتسليم العمل ولا يكفي مجرّد التلبس به على ماهو الظاهر ، كذلك المعاطاة في المقام تحصل باستيفاء المنفعة .
وكيف كان ، فيرد على ذلك أنّه إذا كانت المعاطاة متحقّقة تدريجاً وبمضيّ الزمان ، فاللاّزم حينئذ عدم جواز الاستيفاء قبل تماميّة المعاطاة ، إذ بها تحصل الملكيّة ويتبعها جواز الانتفاع والاستيفاء ، ولامجال لقياس ذلك بالأعمال ، فإنّ العمل هناك باختيارالعامل، ولا معنى لعدم جوازه بالنسبة إليه، ولو كان مستلزماً للتصرّف في مال المستأجر كخياطة ثوبه ، فإنّه يكفي فيه مجرّد الإذن المستفاد من التسليط عليه ، وهذا بخلاف الأعيان ، فإنّ التسليط فيها إنّما هو في قبال الاُجرة ، والمفروض أنّ تماميّة المعاطاة تتوقّف على مضيّ زمان الاستيفاء ، فلا وجه للحكم بالجواز .
وممّا ذكرنا يظهر حكم مالو قلنا بلزوم التعاطي من الطرفين في المعاطاة على التقديرين ، فتأمّل جيّداً .
تنبيه :
قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ العمدة في وجه القول بالبطلان في فرض الإجارة هو جهالة المنفعة المستلزمة لجهالة الأُجرة ، فما هو المجهول أوّلاً وبالذات إنّما هي المنفعة ،
(الصفحة 78)
وعليه فينبغي تعليل البطلان بها لابتجهل الأُجرة كما في عبارة الشرائع(1) ، ولكنّه ذكر المحقّق الإصفهاني (قدس سره) في مقام الاعتذار عنه بأنّ ذكر الفرع في أحكام الاُجرة يناسب التعليل بلزوم الخلل في الاُجرة ، وأورد على المحقّق الرشتي (قدس سره) ، حيث ذكر في توجيه ذلك : إنّ المنفعة لا مالية لها إلاّ بلحاظ بذل الأُجرة بإزائها ، وإلاّ فمع قطع النظر عن الأُجرة وعن مالية المنفعة بلحاظها لا أثر للعلم والجهل بما لا مالية له ، وحيث إنّ مالية المنفعة متقوّمة بالاُجرة ، فلابدّ من تعليل عدم قبول المنفعة للملكية بلزوم الخلل في ماليتها ، من جهة الخلل في الأُجرة(2) بما حاصله منع ذلك ، نظراً إلى أنّ مالية المنفعة على حدّ مالية الأعيان ليست بلحاظ بذل المال فعلاً بإزائها في المعاملة ، بل بملاحظة قابليتها للمقابلة بالمال ، وإلاّ يلزم محذور الدور فيما كانت الاُجرة أيضاً عملاً من الأعمال(3) .
ثانيها : الجعالة ، قال في الجواهر : أمّا لو فرض بوجه يكون كالجعالة ; بأن يقول الساكن مثلاً : «جعلت لك على كلّ شهر أسكنه درهماً» لم يبعد الصحّة ; لعدم اعتبار العلم فيها أزيد من ذلك(4) .
ويظهر من العروة(5) جواز الجعالة بنحو يكون الجاعل هو مالك العين ، ولذا اعترض عليه سيّدنا المحقّق الأُستاذ البروجردي (قدس سره) في الحاشية ; بأنّه لامعنى للجعالة هنا ، فإنّ الجعالة هي جعل شيء على نفسه لمن يعمل عملاً له ، وها هنا
- (1) شرائع الإسلام : 2 / 181 .(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 108 .(3) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 79 .(4) جواهر الكلام : 27 / 235 ـ 236 .(5) العروة الوثقى : 5 / 17 مسألة 10 .