(الصفحة 79)
جعل شيئاً لنفسه على من يستوفي منفعة ملكه(1) .
وكيف كان ، فقد أورد على صاحب الجواهر أيضاً بخروج ماذكره عن عنوان الجعل على عمل ; فإنّ مقتضى الجعالة أنّ الجعل للعامل ; وهو هنا الساكن المستأجر ، مع أنّ الأُجرة للمؤجر(2) .
وحكى المحقّق الإصفهاني (قدس سره) عن بعض الأعلام(3) جريان الجعالة ; بأن يجعل المستأجر الاُجرة في قبال إسكان المالك . ودفعه بأنّ الجعاله هي جعل شيء على عمل له ماليّة ، والإسكان لا مالية له بل متعلّق بما له المالية ; وهي سكنى الدار ، ثمّ قال : لابدّ في الجعالة من أن يكون هناك عمل لمن يأخذ الجعل ، بحيث تكون له مالية ، فمع انتفاء أحد الأمرين لا جعالة(4) .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّه لم يقم دليل على اشتراط ما ذكر في حقيقة الجعالة ، ومجرّد ملاحظة مصاديقها الظاهرة لا يقتضي التخصيص بها ، فلنا أن نقول بجريان الجعالة في مثل المقام ـ : أنّه يمكن تصويرها بنحو آخر غير النحو المذكور في الجواهر ، بحيث لايرد عليه الإشكال ، بأن يقول المؤجر : «من دفع إليَّ درهماً من المال فله استيفاء منفعة داري شهراً» مثلاً فإنّه في هذا النحو جعل شيئاً على نفسه بإزاء عمل له مالية ، فتأمّل .
هذا ، ولكنّ الظاهر أنّ للجعالة عند العرف والشرع موارد معيّنة لاتتجاوزها عندهم ، وأنّه لاتكون الجعالة في مثل المقام معهودة لديهم ، فالحكم بجوازها فيه
- (1) الحواشي على العروة الوثقى: 136.(2) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 79 .(3) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 107 .(4) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 79 .
(الصفحة 80)
مشكل جدّاً .
ثالثها : الإباحة بالعوض ، قال في الجواهر بعد نفي البعد عن صحّة الجعالة في كلامه المتقدّم : كما أنّه لم تبعد الصحّة لو جعل من قبيل الإباحات بأعواض معلومة تلزم بالتلف ، كما في نظائره من الأعيان والمنافع(1) . وتبعه بعض المتأخّرين كصاحب العروة(2) وبعض المحشين(3) .
ولكن حكي عن المحقّق الرشتي (قدس سره) أنّه أورد على الجواهر أوّلاً: بأنّ اللفظ لايساعدها . وثانياً: بأنّ الإباحة بالعوض إن صحّت فهي من المعاوضات التي لاتقبل الغرر لعموم دليله . وثالثاً: بأنّ الإباحة مشروطة بشروط المعاوضة ، كما ذكروه في المعاطاة . ورابعاً: بأنّ الإباحة لا تتعلّق بالكلّي بل بالعين الخارجية ، والاُجرة أعم منها . وخامساً: بعدم دليل على صحّتها ; لخروجها من المعاوضات المتعارفة واختصاص «أوفوا بالعقود»(4) بالمتعارف(5) .
أقول : العمدة من هذه الإيرادات هي الإيراد الثاني والخامس ; لأنّ الإيراد الأوّل مدفوع بأنّه ليس الكلام في مساعدة اللفظ ، بل في إمكان تصحيح هذا النحو من المعاوضة والمعاملة بأيّ لفظ أمكن . والإيراد الثالث مرجعه إلى الثاني كما هو غير خفي ، والرابع مدفوع ـ مضافاً إلى أنّ ظاهره كون المباح هي الأُجرة بإزاء المنفعة ،
- (1) جواهر الكلام : 27 / 236 .(2) العروة الوثقى : 5 / 17ـ 18 مسألة 10 ، وكذا المامقاني في مناهج المتّقين : 308 ، والسيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى : 12 / 18 .(3) كالإمام الخميني والسيّد الخوئي ، راجع تعليقات العروة الوثقى : 5 / 18 . وكذا السيّد محمّد الحجة الكوه كمري في حواشيه على العروة الوثقى : 100 .(4) سورة المائدة 5 : 1 .(5) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 107 .
(الصفحة 81)
مع أنّ مراد القائل بالإباحة بعوض في المقام هي إباحة منفعة دار معين ، الذي هي العين الخارجية بإزاء الأُجرة ، وإلى أنّه يمكن فرض الأُجرة شخصية ـ بأنّه لادليل على اختصاص هذا النحو من الإباحة أو مطلقها بالعين الخارجية ، فإنّ الإباحة بالعوض على تقدير صحّتها من العقود ; وهي كما يصحّ تعلّقها بالأعيان الخارجية كذلك يصحّ تعلّقها بالكليّات ، ولم يقم دليل على اختصاص الإباحة بالأعيان .
وأمّا الإيراد الخامس فيمكن دفعه :
أوّلاً : بالمنع عن خروجها عن المعاوضات المتعارفة ، بل هي أيضاً معهودة عند العقلاء ، وربما تتفق كثيراً في هذه الأزمنة .
وثانياً : بمنع كون الخروج عنها مانعاً عن شمول العموم في «أوفوا بالعقود» بناء على إفادته للصحّة واللزوم معاً ، وعدم الاختصاص بالعقد الذي كانت صحّته مع قطع النظر عن هذا العموم مفروغاً عنها ، وذلك لما نرى من استدلالهم بهذا العموم في المعاملات المستحدثة في هذه الأزمنة ، التي لم يكن منها في السابق عين ولا أثر ، فكيف لا يجوز التمسّك به لإثبات مشروعية الإباحة بالعوض مع عدم كونها مستحدثة.
نعم ، لاينبغي الإشكال في أنّ المتعارف في إجارة مثل الدار والفندق ، وكذا الإجارة على الأعمال كالخادم والخادمة ليس هذا العنوان ، ولكن الكلام ليس إلاّ في إمكان التصحيح ولو من الطريق غير المتعارف .
وأمّا الإيراد الثاني ـ فمضافاً إلى اندفاعه بأنّه ليس المفروض في كلام الجواهر إباحة واحدة بعوض واحد ، بل إباحات متعدّدة بأعواض معلومة حسب تعدّد الشهور في المثال المفروض ، ومن المعلوم أنّ كلّ واحدة من الإباحات خالية عن الغرر ، والجهل بتعدادها لايوجب الغرر في الإباحة المتحقّقة كما هو ظاهر ـ يندفع
(الصفحة 82)
بأنّه لم يقم دليل على قدح الغرر في جميع المعاوضات ; لأنّ الدليل قد ورد في البيع ـ على اشكال فيه أيضاً كما عرفت سابقاً(1) ـ وإلحاق مثل الإجارة لايوجب لحوق الإباحة بالعوض به أيضاً .
فانقدح من ذلك أنّ الظاهر بمقتضى ماذكر إمكان التصحيح من طريق الإباحة بالعوض .
بقي الكلام في هذا الفرع فيما لو قال : «آجرتك شهراً بدرهم مثلاً وإن زدت فبحسابه» وفيه وجوه بل أقوال ثلاثة : الصحّة في الشهر، والبطلان في الزيادة المستلزم لثبوت اُجرة المثل، كما هو ظاهر العلاّمة في القواعد(2) ، والبطلان في الأمرين معاً كما هو المحكي عن الإيضاح(3) وجامع المقاصد(4) ، والصحّة فيهما معاً بالتفصيل الآتي .
وليعلم أنّ المفروض في هذه الصورة صحّة الإجارة من جهة ذكر الشهر بنحو النكرة ، إمّا للانصراف إلى الشهر الأوّل كما هو الظاهر ، وإمّا لدعوى أنّ ذكر الشهر بالنحو الكلّي لايضرّ بصحّة الإجارة ، وإن لم يكن منصرفاً إلى خصوص الشهر الثاني ; لأنّه حينئذ يكون كالمبيع الكلّي .
وكيف كان ، فمحلّ الكلام مع فرض صحّة الإجارة بهذا النحو ، والقائل ببطلان الأمرين معاً إنّما يستند إلى فساد الشرط ، واستلزام فساده لفساد المشروط ، ولذا اعترض على العلاّمة في القواعد بأنّه مع كون الشرط الفاسد مفسداً عنده لِمَ اختار
- (1) في ص 23 .(2) قواعد الأحكام : 2 / 285 . وكذا ابن إدريس في السرائر : 2 / 461 .(3) إيضاح الفوائد : 2 / 249 .(4) جامع المقاصد : 7 / 109 .
(الصفحة 83)
الصحّة في الشهر ، وإن أجاب عنه المحقّق الرشتي (قدس سره)(1) ; بأنّ نظر العلاّمة ليس إلى الشرط بل إلى المقاولة الباطلة المتخلّلة بين الإيجاب والقبول ، ولكنّه يرد عليه أنّ دعوى بطلان الأمرين معاً نظراً إلى أنّ تخلل المقاولة الباطلة يوجب فساد الإيجاب والقبول ، مضافاً إلى ضعفها في نفسها ، ولذا لم يذكره أحد في مسألة الشرط المفسد في العقود خارجة عن محلّ الكلام ; لأنّ مورد البحث ما إذا كان الفساد المحتمل ناشئاً من جهة قوله : «فإن زدت فبحسابه» لا من حيث التلفظ به ، بل من جهة الجهل وعدم المعلومية كما لايخفى .
إذا عرفت ماذكرناه ، فاعلم أنّ المحقّق الإصفهاني (قدس سره) ذكر في هذا المقام : أنّه يتصوّر بالإضافة إلى ما زاد على وجوه :
أحدها : إجارة مازاد كلّ شهر بدرهم ، فبالنسبة إلى مازاد حالها حال المسألة المتقدّمة من عدم الصحّة لعدم المعقولية ، لكن فساد الإجارة في مازاد لايوجب فساد الإجارة في الشهر الأوّل ; لتعدد الإجارة على الفرض ، وإن كانتا بإنشاء واحد .
ثانيها : اختصاص عنوان الإجارة بالشهر الأوّل واستحقاق مازاد بالشرط ، وحيث إنّ الشرط متعلّق بالمبهم فحاله في عدم المعقولية في تأثيره في الاستحقاق حال الاستحقاق بالإجارة ، لا أنّه في الحقيقة شرط مجهول ليلزم منه سراية الجهالة في الشرط إلى العقد ، حتّى يفسد عقد الإجارة في الشهر المعيّن أيضاً، فتدبّر .
ثالثها : أن يكون قوله : «وما زاد بحسابه» مواعدة ومراضاة ، فليس هناك ملكيّة ولا استحقاق بعقد أو إيقاع حتّى لا يعقل تعلّقه بالمردّد ، أو يقال بلزوم
- (1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 107 .