(الصفحة 110)
وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ ، فِيمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ وَ يُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ ، وَ يَكْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ بِأَيْدِيهِمْ ما لاَ يَبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرِهِمْ . ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَ الْمَسْكَنَةِ الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَ مَعُونَتُهُمْ» .
تقسيم السلطات وتوزيع الأعمال حسب الاستحقاق
قلنا: إنّ التحام الطبقات الاجتماعية وقوام كلّ منها يتوقّف على ما سواها ، وهذا بدوره يؤدّي إلى ضرورة توزيع الأعمال وتقسيم السلطات التي تُعدّ من صميم وظائف الحاكم الإسلامي .
ومن البديهي أنّ الأنشطة والفعّاليات سوف تصاب بالتعثّر والعرقلة ما لم تسير على ضوء منهاج ونظام ، وعليه فلابدّ للحاكم الإسلامي من تعيين آليّة السلطات ، ومن ثمّ يسند الأعمال إلى أصحابها وفقاً لأهليّتهم وجدارتهم ، ويحول دون تأثير العلاقات الشخصية بدلاً من المقرّرات والضوابط .
وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه المسؤولية تعدّ من أهمّ وأصعب وأخطر مهامّ الحاكم الإسلامي ، والتي لا يتسنّى له القيام بها إلاّ من خلال سعيه الدؤوب واستعانته بالحقّ تبارك وتعالى من أجل أداء هذه المهمّة الخطيرة:
«وَفِي اللَّهِ لِكُلّ سَعَةٌ ، وَلِكُلّ عَلَى الْوَالِي حَقٌّ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ ، وَلَيْسَ يَخْرُجُ الْوَالِي مِنْ حَقِيقَةِ مَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ إِلاّ بِالاهْتِمَامِ وَ الاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ ، وَتَوْطِينِ نَفْسِهِ عَلَى لُزُومِ الْحَقِّ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ فِيمَا خَفَّ عَلَيْهِ أَوْ ثَقُلَ» .
(الصفحة 111)
مميّزات قوّاد الجيش الإسلامي
ينبغي أن تتحلّى القوّات الإسلاميّة ـ التي تحمل أرواحها على أكفّها ذوداً عن الدين والقرآن والحكومة الإسلاميّة ـ بالأخلاق والآداب الإسلاميّة الرفيعة .
وبعبارة اُخرى فإنّ الفرد إنّما يستحقّ لقب جندي الإسلام إذا ما تمتّع بعدد من الصفات ، من قبيل الإيمان والعفّة والتقوى والأثرة والاستماتة من أجل إعلاء كلمة الله ، بينما هناك صفات إضافية ينبغي أن يتّصف بها قادة الجيش ، ممّن ينهضون بمهمّة قيادة الجيش الإسلامي والذين لهم اتّخاذ القرار بشنّ الحرب والقتال ، بحيث لايتسنّى هذا المنصب لكائن من كان من الأفراد .
فلابدّ أن تتوفّر في هذا الفرد ـ إلى جانب الإيمان والتقوى والشجاعة والأثرة والفطنة والقدرة على الزعامة ـ سائر الصفات من قبيل سموّ الروح والهيبة والجلد على تحمّل المواقف الصعبة ، ومكارم الأخلاق والشدّة والصرامة واللين والمدارة ، كلّ في وقتها حتّى لا يجرّ طيشه وتهوّره مَن كان تحت إمرته إلى المهلكة من جهة ، وحتّى لا تدعوه شدّته وصرامته وقدرته لاستغلال الآخرين ، فيؤدّي بحياتهم إرضاءً لنزواته من جهة اُخرى .
فالذي نستشفّه من وصايا أميرالمؤمنين (عليه السلام) أنّ القائد ينبغي أن يتحلّى بالصفات التالية:
1 ـ الحرص على إجراء أحكام الله وأوامر رسوله (صلى الله عليه وآله) ووليّ الأمر الإمام الزعيم للاُمّة ، إضافة إلى امتثاله للقيادة والنصح لها .
2 ـ سعة الصدر والاطمئنان الروحي .
3 ـ الورع والتقوى والعفاف .
(الصفحة 112)
4 ـ السابقة الحسنة .
5 ـ الصمود والجلد على النوائب والمصائب .
6 ـ الحلم وضبط النفس وتمالكها عند الغضب وعدم التسرّع فيه .
7 ـ روح العفو والصفح وقبول عذر الخاطئين .
8 ـ الشجاعة والإقدام في سوح الوغى ومجالات الحياة .
9 ـ الكرم .
10 ـ سعة الاُفق واستصغار ما سوى الله تعالى .
11 ـ الكفاءة العقلية والقدرة الفكرية .
12 ـ الشفقة والعطف تجاه ضعفاء الأُمّة والشدّة وعدم الهوادة إزاء الأقوياء .
فقد قال (عليه السلام):
«فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلإِمَامِكَ ، وَأَنْقَاهُمْ جَيْباً ، وَأَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ ، وَ يَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ ، وَيَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ ، وَ يَنْبُو عَلَى الأَقْوِيَاءِ ، وَ مِمَّنْ لاَ يُثِيرُهُ الْعُنْفُ ، وَلاَ يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ . ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَ الأَحْسَابِ وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ (1) وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ ، ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ وَالسَّمَاحَةِ ، فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ» .
- 1 . إنّنا نعلم أنّه لم يستفد المجتمع العربي في عصر الإمام (عليه السلام) من وجود جامعة أو كلّية لتربية العناصر المطلوبة في التصدّي للقيادة العسكرية، ولكنّه في نفس ذلك العصر فإنّ أصحاب البيوتات الصالحة قد وجّهوا أبناءهم وربّوهم على عادات وسنن خاصّة، وفي ظلّ هذه التعليمات والتوجيهات تعلّم أبناء تلك البيوتات الصالحة الفنون والآداب في المجال العسكري، وقاتلوا في ميادين الحروب بشجاعة وبسالة وحصلوا على منزلة خاصّة في قلوب مختلف طبقات المجتمع، الأمر الذي أدّى ـ وبشكل طبيعي ـ إلى تهيئة مستلزمات القيادة ووجود القائد والناس المطيعين له. وهذا الأمر هو الذي نبّه عليه الإمام عليّ (عليه السلام) مالكاً في أن يقوم باستقطاب العناصر الكفوءة من تلك البيوتات الصالحة وأهل السوابق الحسنة.
(الصفحة 113)
وظائف القائد تجاه قادة العسكر
لا ينظر علي (عليه السلام) لقضية من جانب دون آخر ، بل عادة ما ينظرها من كافّة جوانبها وأبعادها ، ففي الوقت الذي يتطرّق فيه إلى وظائف قادة الجيش والصفات التي ينبغي أن يتحلّون بها ، يذكر إلى جانب ذلك وظائف ولي الأمر زعيم الدولة الإسلاميّة حيال الاُمراء والجيش . ويلخّص وظائف الحاكم في ما يلي:
1 ـ العطف التامّ والشفقة بالاُمراء كشفقة الوالدين على أولادهم .
2 ـ إمدادهم بكافّة أسباب القوّة وعدم التواني عن كلّ ما من شأنه مضاعفة قدرتهم وتنامي شوكتهم .
3 ـ الاهتمام المتواصل بهم ، بمعنى التعرّف على أُمور حياتهم واللطف بهم واحاطتهم بالرعاية والمودّة وعدم تحقير هذا الأمر والاستخفاف به; فإنّ القادة والجنود يحسنون الظنّ بالوالي عند رعايتهم وتفقّد أُمورهم ، الأمر الذي يؤدّي بالتالي إلى معاضدته والتضحية من أجله .
4 ـ لا ينبغي أن يكتفي الوالي بمتابعة المهمّ من شؤون حياتهم ويتحفّظ عن صغائرها ، فلعلّ بعض الأعمال الصغيرة واليسيرة تلعب دوراً مهمّاً في تأليف قلوبهم والاستحواذ عليها . فقد قال (عليه السلام) بهذا الشأن:
«ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا ، وَلاَ يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ ، وَلاَ تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَإِنْ قَلَّ ، فَإِنَّهُ دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَى بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِكَ ، وَلاَ تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِيفِ أُمُورِهِمُ اتِّكَالاً عَلَى جَسِيمِهَا ، فَإِنَّ لِلْيَسِيرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِهِ ، وَلِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لاَ يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ» .
(الصفحة 114)
فهناك لطائف جمّة تضمّنها كلامه (عليه السلام) ، ومنها أنّ اختيار الاُمراء الأكفّاء على أساس الضوابط المشار إليها أمر صعب ، وأنّ الظفَرَ بمثل هؤلاء الأفراد وتنصيبهم يعدّ نجاحاً للقائد ، غير أنّ الحفاظ على هذه المسيرة وتشجيع هؤلاء الأُمراء وإمدادهم بأسباب القوّة يبدو أمراً أبلغ صعوبة وأعظم نجاحاً .
والقضية تكمن في أنّ مثل هؤلاء الأفراد إنّما هم من الشخصيات البارزة في المجتمع يندر العثور على أمثالهم ، ومن جانب آخر فإنّ هؤلاء الأُمراء قد لبّوا نداء المسؤولية العظمى وحملوا أرواحهم على أكفّهم بما جعل حياتهم تتعايش والميدان والقتال ، ويتربّص بهم الموت والشهادة في كلّ حركة من حركاتهم وسكنة من سكناتهم .
إذن فمثل هذه الخصائص الكبيرة والمهامّ الخطيرة تجلعهم حقّاً يحلمون بما لايحلم به غيرهم من زعيمهم ، حيث يقلّدوه من جرّاء ذلك مسؤولية حسّاسة تثقل كاهله ، وتجعله يتأمّل مَليّاً في كيفيّة القيام بهذه الوظيفة; فإنّ القضايا المطروحة أمامه لا تقتصر على الحاجيات المادّية ، بل المسألة أعمق من ذلك لتتعامل مع عواطف شفّافة وأحاسيس مرهفة ومتطلّبات روحية ومعنوية ، قد تؤدّي الغفلة عنها إلى تثبيط العزائم وفسخ الهمم والتي قد تقود إلى فاجعة مأساوية ، ولذلك يشبّه الإمام (عليه السلام) عظم دور القائد بدور الوالدين تجاه ولدهما .