(الصفحة 138)
عَنْ إِطْلاقِ مَا عُقِدَ عَلَيْكَ ، وَلاَ يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِهِ فِي الأُمُورِ ، فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ» .
حسن الخدمة والمعرفة الشخصية لا تكفيان
قلنا بأنّ أفضل انتخاب يراه الإمام (عليه السلام) هو ذلك القائم على أساس الخُلق الإلهي ، فما أن يفرغ الإمام (عليه السلام) من بيان ذلك حتّى يتعرّض لقضية اُخرى ، فيكشف النقاب بفطنته الربّانية عن سرّ متجذّر في الإنسان ونابع من تركيبته المعقّدة فكلّنا يعلم بأنّ الأفراد الذين يتولّون الاُمور يكثر ويزداد عدد الأصدقاء لهم ، والعجيب أنّ أغلب هذا النوع من الأصدقاء يتمتّع ظاهرياً بالأخلاق الحسنة .
نعم ، فقد يطالعوننا أحياناً بلباس الزهّاد والعبّاد ، واُخرى يتحدّثون عن الشجاعة والبسالة ليسخروا من بسالة إسفنديار ورستم . يحسبون أنّهم أكرم من حاتم الطائي تارة ، وتارة اُخرى يتصوّرون أنفسهم من جهابذة علماء القرن . والحال أنّ هذه الاُمور ليست إلاّ حركات مصطنعة وألاعيب ساذجة يرومون من خلالها إلفات انتباه مصادر القرار من المتصدِّين بغية الأخذ بزمام الاُمور .
ولذلك يوصي الإمام (عليه السلام)مالكاً بعدم اعتماد المعرفة الشخصية كملاك للانتخاب ، ولابدّ من رعاية الاُمور الآتية:
«ثُمَّ لاَ يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَى فِرَاسَتِكَ وَاسْتِنَامَتِكَ وَحُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ ، فَإِنَّ الرِّجَالَ يَتَعَرَّضُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلاةِ بِتَصَنُّعِهِمْ وَحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ النَّصِيحَةِ وَالأَمَانَةِ شَيْءٌ . وَ لَكِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَكَ ، فَاعْمِدْ لأَحْسَنِهِمْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ أَثَراً ، وَأَعْرَفِهِمْ بِالأَمَانَةِ وَجْهاً ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نَصِيحَتِكَ لِلَّهِ وَلِمَنْ وُلِّيتَ أَمْرَهُ» .
(الصفحة 139)
توزيع الأعمال وتعيين المسؤول
قلنا سابقاً: إنّ تقييم الأعمال وفصل السلطات يعدّ من أهمّ مهامّ الحاكم الإسلامي . إلاّ أنّ الإمام (عليه السلام) وضمن ذكره لتوزيع الأعمال فإنّه يوصي مالكاً بنصب مسؤول لكلّ عمل من الأعمال ، ثمّ يتطرّق لخصائصه ، فيقول (عليه السلام):
«وَاجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْر مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ ، لاَيَقْهَرُهُ كَبِيرُهَا ، وَلاَيَتَشَتَّتُ عَلَيْهِ كَثِيرُهَا ، وَمَهْمَا كَانَ فِي كُتَّابِكَ مِنْ عَيْب فَتَغَابَيْتَ عَنْهُ أُلْزِمْتَهُ» .
التجّار والصنّاع والعمّال
إذا كانت التجارة وسيلة لرقيّ الحياة وتأمين متطلّبات الإنسان وتنظيم أوضاع الناس وإرشادهم إلى الطريق الحقّ والسبيل الاُخروي ، فإنّها ممدوحة مطلوبة في الإسلام ، أمّا إذا كانت هدفاً في الحياة من أجل جمع الثروة وجسراً للتفاخر والعلوّ على الآخرين ، فإنّها مذمومة ممقوتة في الإسلام ، وهي مصدر شقاء الإنسان وبؤسه .
والمراد بالتجّار وذوي الصناعة ـ في كلام الإمام (عليه السلام) الذي سيأتينا قريباً ـ هم أولئك الصنف الذين لا يرون التجارة والصناعة هدفاً في الحياة ، بل هي وسيلة لتأمين المعاش وتنظيم شؤون المجتمع والنهوض بالمسيرة الإنسانية ، فالإسلام يُكبر التجارة على هذا الأساس ، حتّى أنّه بشّر مثل هؤلاء التجّار بأنّهم في مصافّ الشهداء والصدِّيقين في الآخرة . فقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بهذا الخصوص:
(الصفحة 140)
«البركة عشرة أجزاء ، تسعة أعشارها في التجارة»(1) .
«التاجر الصدوق يُحشر يوم القيامة مع الصدِّيقين والشهداء»(2) .
وقال الصادق (عليه السلام): «التجارة تزيد في العقل»(3) «ترك التجارة ينقص العقل»(4) .
«تعرّضوا للتجارة فإنّ لكم فيها غنى في أيدي الناس»(5) وهذا ما خاطب به علي (عليه السلام) مالكاً:
«ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ ، وَأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً: الْمُقِيمِ مِنْهُمْ ، وَالْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ ، وَالْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ ، فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ ، وَجُلاّبُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِ وَالْمَطَارِحِ ، فِي بَرِّكَ وَبَحْرِكَ ، وَسَهْلِكَ وَ جَبَلِكَ ، وَحَيْثُ لاَيَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا ، وَلاَ يَجْتَرِئُونَ عَلَيْهَا ، فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لاَ تُخَافُ بَائِقَتُهُ ، وَصُلْحٌ لاَتُخْشَى غَائِلَتُهُ ، وَتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَفِي حَوَاشِي بِلادِكَ» .
حدود التجارة
في الوقت الذي يؤمن فيه الإسلام بحرّية التجارة ويثني على التجّار ، لكنّه يعتقد بالنفع المتوازن لها ، وقد أطّرها بآداب خاصة ، ثمّ طالب التجّار بضرورة التفقّه قائلاً: «الفقه ثمّ المتجر» حتّى لا تقود تجارتهم إلى فساد المجتمع وعدم تورّطهم في الحرام .
- 1 . الخصال: 445 ح44 ، البحار: 103 / 4 ح13 .
- 2 . إحياء علوم الدين: 2 / 102 .
- 3 ، 4. الكافي: 5 / 148 ح2 و 1 .
- 5 . الكافي: 5 / 149 ح9 .
(الصفحة 141)
ومن هنا انبرى الفقهاء العظام رضوان الله عليهم ـ واستناداً لما ورد عن الأئمّة (عليهم السلام)ـ عدّة وصايا ـ في باب المتاجر ـ إلى الأفراد الذين يتعاطون البيع والشراء ، ومنها:
* ألاّ يتشدّد البائع في المعاملة ولا يسيء الخلق .
* التسوية في الأسعار بالنسبة للمشترين .
* اجتناب القسم ولو صادقاً .
* إعلام المشتري بنقص السلعة إن كانت ناقصة .
* الإقالة عند الاستقالة .
* ألاّ يمدح البائع سلعته أكثر من اللازم .
* عدم التطفيف في الموازين .
* الابتعاد عن الاحتكار .
* عدم الحيف . وإلى غير ذلك .
فقال (عليه السلام):
«وَ اعْلَمْ ـ مَعَ ذَلِكَ ـ أَنَّ فِي كَثِير مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً ، وَشُحّاً قَبِيحاً ، وَاحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ ، وَتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ ، وَذَلِكَ بَابُ مَضَرَّة لِلْعَامَّةِ ، وَعَيْبٌ عَلَى الْوُلاةِ . فَامْنَعْ مِنَ الاحْتِكَارِ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مَنَعَ مِنْهُ ، وَ لْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً ، بِمَوَازِينِ عَدْل ، وَأَسْعَار لاَتُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ ، فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ ، وَعَاقِبْهُ فِي غَيْرِ إِسْرَاف» .
ونفهم من كلامه (عليه السلام) أنّ الاحتكار والإجحاف حرام في التجارة الإسلاميّة . وكلّنا يعلم بأنّ الرأسماليين إنّما يعتمدون اليوم على سبيلين لممارسة الضغوط على الناس: فتارةً يسعون لتخزين السلع التي يحتاجها الناس لتشحّ في الأسواق فترتفع
(الصفحة 142)
أسعارها ، فيبيعونها آنذاك في السوق السوداء ، وهذا ما يصطلح عليه بالاحتكار الذي حرّمه الإسلام ، ووضع عقوبة للمحتكر الذي يمارسه ويحتكر السلعة ، وتارة اُخرى يتواطأ عدد من الأثرياء ليشتروا سلعاً ويحتكرونها لأنفسهم ، بحيث لا يسع المشتري الحصول عليها إلاّ من عندهم ، وهذا هو الإجحاف بالمشتري والذي لاينسجم ومبادىء الإسلام .
وقد اختصر الإمام (عليه السلام) هذين العملين القبيحين بقوله: «واحتكاراً للمنافع» و«تَحَكّماً في البياعات» .
ولذلك يأمر مالكاً بتسعير السلع والبضائع وألاّ يطلق العنان للتجّار يصولون ويجولون ثمّ يطارد المحتكر والمجحف .
منزلة العمّال والمستضعفين في المجتمع الإسلامي
من المسلّم به أنّ كلّ مجتمع يضمّ بعض الأفراد الذين لا يقدرون على العمل لعدّة أسباب ، أو أنّهم لا يحصلون على الكفاف من أعمالهم في تأمين معيشتهم; ولذلك فهم يعيشون الحاجة والمسكنة .
وإذا لم يكن هناك من يعالج وضعهم فإنّ فتيانهم سيندفعون نحو الفساد والانحراف ، بينما سيساق كهولهم إلى الموت جوعاً . ولا يصحّ بروز مثل هذه الظاهرة المقيتة في المجتمع ، ولا سيّما في المجتمع الإسلامي ، فلابدّ من الالتفات إلى مصيبة هذه الطبقة الكادحة والأخذ بيدها إلى الحياة الحرّة الكريمة .
ويزعم اليوم عالمنا المتحضّر أنّه يتبنى هذه الرسالة ، وأنّه قد سَنَّ القوانين التي جعلته يبلغ بالطبقة العاملة حقوقها المنشودة وأنقذها من وضعها المسحوق ، إلاّ أنّنا نرى أنّ هذه الرسالة لم تتجاوز حدود الشعار; وذلك لأنّنا نشاهد بأُمّ أعيننا الطبقة