(الصفحة 15)
الإسلامية ، حتّى أنّ الوثائق والشواهد التأريخية تشير إلى أنّ الحضارة المصريّة آنذاك قد جاوز تأريخها عشرة قرون ، أي ما يقارب أربعمائة سنة قبل الميلاد . فقد اُسّست المدارس والمراكز العلمية والتحقيقية واُنشئت المكتبات في مختلف المناطق المصريّة منذ زمان حكومة الفراعنة الذين حكموا البلاد ، ومازالت بعض آثارهم قائمة حتّى عصرنا الراهن بما فيها الأهرام الثلاث التي تفيد قدم هذه الحضارة وعراقة المدنية .
ويبدو أنّ السبب الذي يكمن وراء تلك الحركة الثقافية في تلك الحقبة التأريخية إنّما يعود إلى النخبة اليونانية التي حكمت مصر آنذاك . فقد بذل أولئك الحكّام الذين ترعرعوا في ميادين العلم والمعرفة جهوداً مضنية من أجل نشر الثقافة والمدنية ، ولا سيّما العلوم والمعارف وفي مقدّمتها الحكمة والفلسفة والعلوم العقلية . وقد وردت عدّة قصص وروايات بهذا الشأن ، ورغم عدم التأكّد من مدى صحّتها ولعلّ البعض منها لا يبدو أكثر من اُسطورة ، إلاّ أنّها تبيّن بشكل عام أنّ مصر كانت تتمتّع بمنزلة علمية وفلسفية خاصّة .
مدينة الاسكندرية
تفيد الوثائق والشواهد التأريخية أنّ مدينة الاسكندرية كانت تعتبر من المناطق المصرية المهمة من حيث الحركة الثقافية وتأسيس المراكز العلمية ، وقد اُسّست مدينة الاسكندرية التي ما زالت تحتلّ مثل هذه الأهمّية في الوقت الحاضر لأربعة قرون خلت قبل الميلاد من قبل الاسكندر المقدوني .
فكانت من المناطق العالمية المهمّة بفضل كونها عاصمة مصر منذ ذلك الزمان حتّى تمّ فتح مصر من قبل المسلمين قبل عشرة قرون . ويبدو أنّ المكانة العلمية للاسكندرية هي التي منحتها هذه الأهمّية ، لأنّ ملوك البطالسة الذين خلّفوا
(الصفحة 16)
الاسكندر على تلك المدينة سعوا جاهدين لبسط العلم والثقافة ونشرها في ربوع المنطقة ، فقد أنشأوا في الاسكندرية عدداً من المراكز العلمية والتحقيقية كما بنوا عدداً من المدارس والقاعات الدرسية وأسسوا المكتبات .
ويمكن القول أنّهم أرسوا دعائم أكاديمية للعلوم والمعارف هناك ، بحيث أصبحت بُعيد مدة قصيرة بمثابة حوزة علمية عظيمة ذات شهرة عالمية تحظى باستقطاب العلماء والفضلاء وطلبة العلوم من مختلف الأطراف والأكناف .
وتشير الشواهد التأريخية إلى إقبال كافّة الحكماء والفلاسفة والاُدباء والعلماء ، ولا سيّما علماء العلوم العقلية والمدارس الفلسفية عليها آنذاك من كافّة مناطق العالم ، فأسّسوا فيها مختلف المدارس العلمية والمكتبات الضخمة ، وقد بلغ نشر العلم والثقافة وإعداد العلماء الأعلام في هذه الأكاديميّة المهمّة المعروفة درجة جعلت أغلب علماء الاسكندرية ومفكّري الحوزة العلمية المصرية يكونون في مصافّ كبار علماء اليونان ، بل فاقوهم في بعض الميادين فضلاً وعلماً وبراعة ، حتّى باتوا ينافسون علمياً مشاهير العالم ، وقد لفتوا أنظار البشرية إليهم لقرون طويلة .
وهنا نرى من المناسب وكشاهد على ما ذكرناه أن نورد ما ذكره المحقّق والمؤرّخ المعروف «جورج سارتون» فالمؤرّخ المذكور دفعه إنصافه العلمي ووجدانه اليقظ ـ رغم كونه على دين النصرانية وانتماءه إلى العالم الغربي ـ للاعتراف بالفضل الذي تدين به الحضارة العالمية ، ولا سيّما الغرب بكافّة علومه ومعارفه للمدنية الإسلاميّة ، كما لا يتوانى هذا المحقّق في استعراض المصادر والأدلّة الواردة بهذا الشأن ، بما جعله يتقدّم حتّى على المسلمين في هذا المجال ، فقد كتب يقول :
«هناك شيئان زاغ عنهما البصر في فهم علم الآثار وأوجدا الاختلاف :
الأمر الأوّل : ويرتبط بالتصوّر المغلوط عن العلوم الشرقيّة السائدة ، وهذا التفكير في منتهى السذاجة عندما يتصوّر الإنسان أنّ العلم قد انطلق من اليونان ،
(الصفحة 17)
فإنّ معجزة علوم اليونان قد تقدّمت عليها بآلاف السنين أعمال وجهود المصريّين وربّما بلاد ما بين النهرين ، ويحتمل أيضاً بقيّة البلدان . وإنّ أكثر ما امتازت به العلوم اليونانيّة هي الجنبة التجديدية دون الجنبة الابتكاريّة والإبداعيّة .
الأمر الثاني : وجود الأرضيّة المناسبة للمعتقدات الخيالية والخرافات في علوم الشرق ، بل وفي علوم اليونان . إنّ محاولة إخفاء تطوّر العلوم اليونانيّة وتأثّرها بالشرق تعتبر بحدّ ذاتها مستهجنة وقبيحة . وكثير من المؤرّخين ساهم في مضاعفة هذاالخطأ من خلال حفظ روح التوجّه لتلك المعتقدات الخيالية التي كانت سدّاً منيعاً يحول بين المجتمع وتطوّره ، ومن الممكن أن لا يكون ذلك لأوّل مرّة»(1) .
ويقول أيضاً عن قِدَم الحضارة المصريّة :
«لا ريب في أنّه لا يمكننا القيام بذكر الأوضاع والأحوال التي كانت موجودة في مصر قبل التاريخ ، لكن يمكن الإشارة إلى نكتة تفي بالغرض ، وهي أنّ ثقافة مصر ما قبل التاريخ ترتبط بأواخر العصر الحجري ، وأنّ المصريّين القدامى كانوا متقدّمين في مختلف فنون وأساليب الزراعة ، فقد كانوا يعرفون زراعة الشعير والحنطة والبذور والكتّان ، وكان لهم تقويم سنوي للشهور والأيّام .
وفي هذه الأثناء التي يُرفع فيها الستار عن التاريخ ، تطالعنا أوّل سلسلة من فراعنة مصر ، لتقدّم لنا الشواهد على وجود الثقافة المصرية ، بحيث لا يمكننا أن نطلق عليها ـ بلحاظ العلم والمدنية ـ بأنّها باكورة الأعمال ، بل تشهد أنّه في ذلك الوقت قد بلغت الثقافة المصريّة أوجهاً ، الأمر الذي يكشف عن مسيرة بضعة آلاف من السنين لهذه الحضارة ، وأنّ هذه الحقبة الطويلة كانت مليئة بالسعي والمثابرة على طريق التكامل الثقافي والحضاري ، كما يبدو»(2) .
- 1 . تاريخ علم ، المقدّمة : 11 .
- 2 . تاريخ علم : 21 .
(الصفحة 18)الازدهار والانحطاط
لقد شهدت مسيرة التقدّم والازدهار في التأريخ المصري بعض المطبّات التي جعلتها تعيش التألّق والاُفول إلى الحدّ الذي جعلها تشرف أحياناً على الاضمحلال والانهيار التامّ ، حيث ذكر المؤرّخون أنّ مصر كانت خاضعة لعصور طويلة نسبياً ـ عصر الاسكندر وخلفائه ـ للسيطرة السياسية اليونانية ، وتبعاً لذلك فقد كان هناك تفاعل وتداخل بين هاتين الثقافتين والحضارتين ، غير أنّ الحضارة اليونانية ـ بعد ملوك البطالسة ـ آلت نحو السقوط والزوال ، وما إن نشبت الحرب بين الروم واليونان وانتهت تلك الحرب لصالح الروم حتّى خضعت كافّة المناطق اليونانية بما فيها مصر والاسكندرية لنفوذ الروم .
ومنذ ذلك الوقت أصابت الحضارة المصريّة وأكاديمية علوم الاسكندرية حالة من الوهن والاُفول لعصور ، ثمّ تعود لتنهض من سباتها أحياناً وتلتقط أنفاسها من جديد ، حتّى حَلَّ القرن الخامس عشر الميلادي لتنشطر دولة الروم إلى شطرين هما: روماالشرقية وعاصمتها استانبول الحالية في تركية ، وروما الغربية ومركزها روما الفعلية في إيطاليا ، وتعتنق روما الشرقية الديانة النصرانية .
وممّا لاشكّ فيه أنّ النصرانية تركت بصماتها السلبية وآثارها الهدّامة على المدنية الرومانية واليونانية بما فيها الحضارة المصرية ، بل إنّ ذلك هو الزمان الحقيقي الذي اتّجه فيه الغرب إلى الانهيار والزوال ، الزمان الذي عرف باسم القرون الوسطى .
ومن جانب آخر فإنّ روما الشرقية ـ التي كانت تحكم بقوة الحديد والنار ـ لم تأل جهداً في مناهضة العلم ومظاهر الثقافة الإنسانية من خلال انقيادها لتعاليم الكنيسة التي حرّفت الثقافة المسيحيّة ووجّهت لها أعتى الضربات; وذلك لأن الكنيسة ترى أنّ العلم والفلسفة وتعليمهما وتعلّمهما إنّما يتنافى ومبادئ الدين
(الصفحة 19)
المسيحي ، وعليه فقد كان يوصف بالانحراف والكفر ومعاداة الله والكنيسة كلُّ من سار باتّجاه العلم والمعرفة .
وبالطبع فالأوضاع لم تكن رتيبة على وتيرة واحدة طيلة السلطة الرومانية ، بل كانت الاسكندرية تعيش حالة من النهوض وتتّجه نحو التقدّم والازدهار بين الفينة والاُخرى; لتستعيد مكانتها العلمية والثقافية ، إلاّ أنّها سرعان ما تخفت وتتعثّر خطاها نحو السموّ والكمال كلّما أثيرت النعرات الدينية وما تفرزه من جدل وشجار .
ورغم كلّ ذلك فإن مصر كانت تتمتّع بتجربة علمية مشرقة وحضارة سامية، وقد جعلتها هذه المكانة العلمية الممتازة تتألّق من بين سائر المناطق الإسلامية .
ومن الطبيعي أن يكون الإمام علي (عليه السلام) عالماً بكلّ هذه الاُمور حين كتابته لذلك العهد التأريخي ، كما كان يعلم إلى أيّ أرض عريقة واُمّة متطلّعة قد بعث عضيده المقرّب مالك الأشتر ، وما ينبغي أن يكون عليه حاكمها والبرامج والخطط التي لا بدّ أن يأخذها بنظر الاعتبار ، ولذلك كان يوصي أهل مصر بمالك ، كما كان يوصي مالكاً بأهل مصر . فقد خاطبهم (عليه السلام)قائلاً: «إنّي بعثت إليكم سيفاً من سيوف الله لا نابي الضربة ، ولا كليلَ الحدّ ، فإن استنفركم فانفروا ، وإن أمركم بالمقام فأقيموا ; فإنّه لا يُقدم ولا يحجم إلاّ بأمري ، وقد آثرتكم به على نفسي»(1) .
الأوضاع السياسية لمصر
لقد أشرنا خلال البحث عن الحضارة المصرية إلى الأوضاع السياسية والعلاقات القائمة بين مصر و سائر المناطق العالمية ، فقد سيطر الاسكندر على هذه
- 1 . تأريخ اليعقوبي: 2 / 194 .