(الصفحة 53)
المجتمع وإرشاده إلى ما فيه خيره وفلاحه .
وهنا نريد أن نتعرّف على كيفية تقديم النصرة لله والسبل التي يمكن انتهاجها في مثل هذا المجال وبالالتفات إلى عهده (عليه السلام)إلى مالك الأشتر فإنّ هنالك ثلاثة سبل من شأنها أن تجعلنا نحقّق هذا الهدف .
* الأوّل: النصرة بالقلب
ينبغي للإنسان أن يجدّ ويجتهد بادئ ذي بدء في تزكية نفسه وتهذيبها ، كي يتسنّى له من خلال هذا السبيل بذل نصرته لله بقلبه; لأنّ النصرة بالقلب ليست سوى تهذيب النفس و تطهير الروح والسعي من أجل سموّها وتكاملها وبلوغ الأصالة الإنسانيّة ـ والتي تتمثّل بالعودة إلى الفطرة السليمة والخضوع والانقياد للبارئ سبحانه ـ ، ولذلك فالخطوة الاُولى باتّجاه تهذيب النفس وتربيتها إنّما تكمن في إعداد القلب للعقائد الحقّة والإيمان الراسخ القائم على أساس امتثال التعاليم السماوية والأحكام الشرعية .
وبعبارة اُخرى فإنّ الإنسان الذي نصر الله بقلبه يجب عليه أن يسعى لإحياء قلبه بالإيمان الخالص والاعتقاد التامّ ، ليتمكّن بالتالي من وضع قدمه على الطريق بحيث يزداد حيوية ونشاطاً على مستوى الإيمان كلّ يوم ، ولا يتقدّم عليه الزمان دون تفعيل هذا الإيمان والعمل على استكماله .
* الثاني: النصرة باليد
إنّ اليد الواردة في كلام أميرالمؤمنين (عليه السلام) إنّما هي كناية عن القدرة . فقد جاء في القرآن:
{يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (1) أي أنّ قدرة الله قدرة مطلقة لا متناهية ، وليس
- 1 . سورة الفتح ، الآية 10 .
(الصفحة 54)
هناك من قدرة تضاهيها ، فهي قدرة تفوق جميع القدرات ، وقد تعارف الناس في حواراتهم اليومية على هذا المعنى لليد ، كأن يقال : «ليس في يده شيء» و «يده قصيرة عن الإتيان بهذا العمل» ولا يراد بها سوى القوّة والقدرة .
ومن هنا يتّضح لدينا مراده من قوله (عليه السلام) لمالك : «وإن ينصر الله سبحانه بيده» . فالمقصود هو أنّه ينبغي لمالك ـ ونحن أيضا مشمولون بهذا الخطاب ـ أن يجنّد جميع طاقاته وإمكاناته ويوظّفها في نصرة الله وتطبيق أحكامه وقوانينه بغية تحقيق الأهداف الإسلامية المقدّسة .
* الثالث: النصرة باللسان
إنّ دور التبليغ لم يعد اليوم بخاف على أحد ، فسلاح التبليغ أشدّ قوّة وأعظم فتكاً من سائر الأسلحة ، فأهمّ وسيلة تبليغية ـ أو الأفضل أن نقول : الوسيلة الأعظم تأثيراً ـ هي اللسان . وبالنتيجة فإنّ اللسان وسيلة مؤثّرة فاعلة تتوقّف على الكيفية والاتجاه الذي تتحرك في إطاره . فإن وظّف لسان الإنسان ـ ولا سيّما ذلك الذي يتحلّى بقدرة على البيان والكلام المؤثّر ـ باتّجاه تشويه الأفكار وإضلال الناس وخداعهم والتغرير بهم ، كان لابدّ من القول بأنّه وسيلة تبليغية هدّامة تهدف إلى نشر الانحراف والانحطاط ، وأمّا إن استخدمت من أجل تبليغ الأحكام السماوية وخدمة الخلق فينبغي أن يقال بأنّ هذا الإنسان قد نصر الله بلسانه وسار باتّجاه نصرة الحقّ .
الوعد الإلهي الحقّ
إنّ النصر الإلهي حليف الإنسان الذي ينصر الله بقلبه ولسانه ويده ولا يهدف إلاّ إلى بسط الحقّ وإشاعة الدين وتطبيق الأحكام الشرعية ، والله هو الذي قطع
(الصفحة 55)
هذا الوعد على نفسه فقال عَزَّ من قائل:
{إِنْ تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ . . .} (1) ويتضمّن هذا الوعد الإلهي بعدين جديرين بالتعمّق والتدّبر أكثر من غيرهما وهما:
أوّلاً: أنّ صاحب الوعد هو الله ، وأنّ وعده ليس من قبيل وعود أغلب الناس المعسولة والجوفاء ، بل هو الوعد الحقّ الآتي لا محالة حيث يشاء الله .
ثانياً: أنّ الناصر هو الله وأنّ قدرته مطلقة لا متناهية ، ومن الطبيعي أنّ هذه القدرة المطلقة إذا وقفت إلى جانب قدرة الإنسان المحدودة فإنّه ليس هنالك من قدرة يمكنها أن تقف بوجه هذا الإنسان
{إنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} (2) .
وقد تجسّد النموذج العيني للنصرة الإلهية في زعيم الثورة الإسلامية الإيرانية الإمام الخميني العظيم ، فقد وظّف هذا الزعيم الربّاني كلّ ما بوسعه ـ من رجل وامرأة وولد ووطن ودرس وغير ذلك ـ في سبيل الله وإقامة الأحكام الإسلامية فأمدّه الله بنصرته فبلغ به ما بلغ .
أمّا النتيجة الاُخرى التي نستشفّها من كلمات الإمام (عليه السلام) فإنّما تتجسّد في القضية التي تشهدها اليوم الاُمّة الإسلامية الإيرانية ، والتي سيشمل مصيرها كافّة الشعوب الإسلامية والتأريخ الإسلامي ، ألا وهي الحرب التي فرضتها القوى الاستكبارية ضدّ ثورتنا الإسلامية .
نعم ، لقد هبّ الشعب الإيراني المسلم بكافّة طبقاته ووظّف كافّة إمكاناته وقواه من أجل نصرة الحقّ ، وليس هنالك من شكّ بأنّ الله سينصره ويكتب له الغلبة . والحقّ لقد تحقّقت هذه النصرة فخرجت إيران من هذه الحرب عزيزة مرفوعة الرأس ، ولم يكتب لعدوّها الجبان سوى الهزيمة والخذلان .
- 1 . سورة محمّد ، الآية 7 .
- 2 . سورة آل عمران ، الآية 160 .
(الصفحة 56)
نسيان الذات
يتحلّى البعض بالإيمان والالتزام والشفقة والنهوض بالمسؤولية ، حتّى أنّ إيمانه والتزامه يدفعه لتوجيه بعض الانتقادات ـ ماعدا أولئك الذين ينتقدون من موقع الترف الفكري واستعراضاً للذات وتمتّعهم بالثقافة بينما ليسوا مستعدّين للنهوض بأيّة مسؤولية ـ إلى مسؤولي البلاد ومراقبة أعمالهم وما يصدر منهم ، إلاّ أنّهم وبمجرّد وصولهم للسلطة والأخذ بزمام الاُمور ينسون أعمالهم وتصرّفاتهم ، بل ينسون أنفسهم وكأنّ تسلّمهم المسؤولية قد أزال كلّ نقص وجعل الأوضاع تنتظم وتعود إلى مجاريها الطبيعية .
ولذلك يذكِّر الإمام علي (عليه السلام) مالكاً بالماضي القريب ـ والذي كان يوجّه فيه انتقاداته ـ بهدف الحيلولة دون نسيان الذات والتي تقود بالتالي إلى العجب والاغترار بالنفس ، فيخاطبه (عليه السلام)قائلاً:
«ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالِكُ أَنِّي قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَى بِلاد قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ ، مِنْ عَدْل (1) وَجَوْر ، وَأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِي مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلاةِ قَبْلَكَ ، وَيَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِيهِمْ» .
وهنا نتساءل لو أخذ المسؤولون هذه الوصية بنظر الاعتبار وحاسبوا أنفسهم بينهم و بين الله ـ دون تحكيم أهوائهم وإراداتهم وقبل أن تنظر الاُمّة في أعمالهم وتصرّفاتهم ـ فهل ستبقى هنالك من مصاعب ومطبّات في هذه المسيرة؟
- 1 . هناك رأيان في مراده (عليه السلام) بدول العدل قبل مالك: أحدهما أن نقول: المراد عصر حكومة سعد بن قيس ومحمّد بن أبي بكر ، والثاني أن يكون المراد حكومة نبيّ الله يوسف (عليه السلام); وذلك لأنّ لفظة الدولة لا تصدق على ولاية سعد بن قيس ومحمّد بن أبي بكر .
(الصفحة 57)
ثواب الصالحين في الدنيا
ليس هنالك من عمل دون أجر وثواب في الشريعة الإسلامية السمحاء ، وإضافة إلى الأجر الذي ينتظر الصالحين في الآخرة ، فهناك الثواب الذي ينالوه في هذه الدنيا . ثواب الصالحين في الدنيا هو هذا الذكر الطيّب والسمعة الحسنة والصلاة والتسليم عليهم ، وهو الثواب الذي يتجاوز حدود الزمان الذي عاشوا فيه ونهضوا بمسؤولية الحكومة ليبقى خالداً على مرّ العصور والدهور ، ولذلك ما زال التأريخ يحتفظ بذاكرته بصورتين إحداهما بشعة قاتمة للظلمة والطواغيت ، واُخرى حسنة جميلة لحكّام العدل من أولياء الله . فإذا ما ذكر الصالحون على مدى التأريخ تعالت الأصوات بالمديح والتسليم والصلوات ، وليس للظلمة سوى اللعنات و . . .
يصف (عليه السلام) هذا الثواب فيقول:
«وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِينَ بِمَا يُجْرِي اللَّهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ ، فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ» .
لقد استوحى الإمام (عليه السلام) هذه العبارة من القرآن الكريم الذي قال بهذا الشأن:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدّاً} (1) فالآية تفيد تسلّل المؤمنين الصالحين إلى قلوب الاُمّة التي تكنّ لهم الحبّ والمودّة .
ومن الواضح أنّ مثل هذه المودّة القلبية والمحبّة الباطنية لن تختنق في هذه القلوب ، فلا مناص من تفعيل هذه المودّة في الخارج على مستوى الحركات التي
- 1 . سورة مريم ، الآية 96 .