(الصفحة 63)
الأعمال الصالحة وأهمّها; وهي الأهمّية التي كشف رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن حقيقتها حين قال:«لولا تكثير في كلامكم وتمريج في قلوبكم لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمع»(1) .
وبالمقابل فإنّ هناك من لا يرى السيطرة على النفس جزءاً من الأعمال الصالحة ، بل يعتبرها مقدّمة له ، أي أنّ الإنسان إذا أراد أن يقوم بعمل صالح وجب عليه قبل ذلك أن يكبح جماح نفسه ويمسك بهواها .
تهذيب الغرائز
لا تتّفق المدرسة الإسلاميّة ونظرية «فرويد» في إطلاق العنان للغرائز الجنسية بصفته العامل المهمّ في صنع التأريخ ، كما تختلف والرهبنة المزيّفة التي ترى في الوصول إلى الحقائق يكمن في قمع هذه الغرائز ، وتعتقد بأنّ هذه الغرائز قد أودعت لدى الإنسان من جانب الحكيم الخبير ، فهي ليست مصدراً للشرّ والفساد والحيلولة دون نيل الحقائق ، وللإنسان أن يشبعها على ضوء الطرق المشروعة ووفقاً للضوابط الإسلاميّة .
ومن الطبيعي أن يؤدّي الالتزام بالمبادئ الإسلاميّة والضوابط الشرعية إلى تهذيب هذه الغرائز وصدّها عن الانحراف الذي يتنافى والاُسس الإسلاميّة .
والذي يمكن أن نخلص إليه هو أنّ الإسلام يتبنّى منهاج التوازن في الغرائز لا قمعها أو إطلاق العنان لها ، الأمر الذي جعل الإسلام يهبّ لمجابهة التحلّل الجنسي
- 1 . تفسير الميزان: 5 / 270 ، وروى نحوه محمّد بن جرير الطبري في كتابه صريح السنّة: 29، والهيثمي في مجمع الزوائد: 1 / 208، والمنذري في الترغيب والترهيب: 3 / 497 .
(الصفحة 64)
من جانب ويرفض الرهبنة من جانب آخر . وهذا ما نلمسه في خطابه (عليه السلام)لمالك:
«وَ شُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لاَ يَحِلُّ لَكَ ، فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ» .
الإسلام وأدعياء حقوق الإنسان
إنّ أدعياء حقوق الإنسان ـ الذين يرفعون لواء مساواة كافّة أفراد النوع الإنساني في الحقوق ـ لا يهملون هذه المساواة من الناحية العملية فحسب ، بل لايعتقدون بذرّة من قيمة واعتبار للأقلّيات التي تعيش في بلدانهم ، فهم لا يكتفون بعدم توفير الدعم والإسناد لهذه الأقلّيات في اكتساب قوتها وعيشها بأمن وسلام فقط ، بل يمارسون بحقّها أبشع أساليب الفتك والتنكيل والإبادة الجماعية .
ولو تصفّحنا أوراق التأريخ لرأينا أوربا ـ التي تدّعي التمدّن والحضارة والتقدّم ـ وفي العصر الراهن واستنادا لبعض الشواهد قد ارتكبت ما لا يحصى من الجرائم والجنايات ، فقد أحال هتلر أكثر من ستّة ملايين يهودي في مختلف معتقلات أوربا على يد السفّاح «آيشمن» وسائر عتاة النازية إلى رماد ، بعد أن ألقوا بهم بتلك الأفران الرهيبة ، ناهيك عمّا مارسه النصارى في القرون الوسطى الذي يزعمون اتّباعهم للسيّد المسيح (عليه السلام) الذي دعاهم للرحمة والرأفة والمودّة ، حيث لم ينفكّوا عن قتل الأقلّيات من أتباع الأديان الاُخر ، وأفضل شاهد على ذلك حروبهم الصليبية التي شنّوها لقرون متتالية ضدّ الإسلام والمسلمين ، وقتلوا الملايين من أبناء الأُمّة الإسلاميّة .
أمّا قوّات الاحتلال الإسرائيلية التي أحرقت الأخضر واليابس من ممتلكات المسلمين ومارست أبشع أساليب الأذى والإساءة لمقدّساتهم فلم تقف وحشيّتها
(الصفحة 65)
عند هذا الحدّ ، بل اندفعت أكثر من هذا وأوغلت في جريمتها لتحرم أصحاب هذه الأرض حتّى عن ممارسة أبسط حقوق الحياة وجعلتهم يعيشون الأمرّين ، فقد أصبح القتل والنفي والاعتقال والتعذيب من المفردات اليومية التي شحن بها القاموس الإسرائيلي .
وهنا ينفرد الإسلام بأساليبه الإنسانية النبيلة . وأقرب نموذج نحتذيه يكمن في المعاملة الكريمة التي تعتمدها الجمهورية الإسلاميّة الإيرانية بقيادة زعيمها التأريخي الإمام الخميني (رضي الله عنه) تجاه الأقلّيات الدينية في البلاد والتي ذاقت ومازالت تذوق طعم المساواة والحرّية . ولا غرو فقد خاطب الإمام علي (عليه السلام) واليه قائلاً:
«وأشْعِر قلبَكَ الرحمةَ للرعِيَّةِ ، والمحبّةَ لهم ، واللُطفَ بهم ، ولا تكونَنَّ عليهم سَبُعاً ضارياً تَغتنمُ أَكْلَهُم ، فإنَّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدِّين ، أو نظيرٌ لك في الخلق ، يَفرُطُ منهم الزلَلُ ، وتَعرِضُ لهم العِلَلُ ، ويُؤتى على أيديهم في العمد والخطأ ، فأعطِهِمْ من عَفْوِكَ وصَفْحِكَ مثلَ الذي تحبّ وترضى أن يُعطِيكَ اللّهُ من عَفوِهِ وصَفحِهِ ، فإنَّكَ فوقَهُم ، ووالي الأمر عليكَ فَوقَكَ ، واللّهُ فوقَ مَن ولاّكَ ، وقَدْ استكفاكَ أمرَهُم وابتلاكَ بِهِم» .
فالإمام (عليه السلام) يوصي مالكاً بالنظر بعين العدل والمساواة لكافّة أبناء المجتمع دون أن يكون هناك من امتياز لأحد على آخر . هذه هي الصفة التي تميّز الحكومة الإسلاميّة عن سائر الحكومات ، بينما تقف الحكومات الاستكبارية والدول التي تدّعي الحرّية وتتبنّى أُطروحة حقوق الإنسان ـ والتي وضعت حسب زعمها حجرها الأساس ـ في الخندق المقابل المعاكس للإسلام تماماً ، فهي لا تجرّد الأقليّات الدينية والطبقات المحرومة من أبسط حقوقها فحسب ، بل لا تتورّع عن التشبّث بمختلف الذرائع والحجج من أجل استجوابها على الدوام وتعريضها لأبشع أنواع التعذيب والتنكيل .
(الصفحة 66)دوافع الفساد والتلوّث
نفهم بعض الدوافع التي تسوق الإنسان إلى ممارسة الفساد والرذيلة من خلال عبارته (عليه السلام): «وتَعرِضُ لهم العِلَلُ» فأغلب المفاسد والرذائل التي ترتكب من قبل الأفراد وإن كان بعضها يستند إلى العمد والشقاء و . . . إلاّ أن بعض الحالات ـ التي ليست بالقليلة ـ هي الدوافع التي تكمن وراء هذه الأعمال . فلو أخذنا على سبيل المثال قضية شيوع الزنا ، فإنّها وإن كانت معلولة لضعف الإيمان ، إلاّ أنّه لاينبغي التنكّر إلى دور النقص العاطفي الذي يسود بعض الاُسر وضعفه بين الأزواج ، إلى جانب الفوارق الروحية بينهما وحالات الزواج المفروضة القسرية وغيرها ، والتي يعتبر كلّ واحد منها عاملاً في الجنوح نحو هذه الرذيلة البشعة .
مفهوم العصمة والعدالة والفسق
لابدّ من الخوض في بعض المصطلحات الفقهية للتعرّف على عباراته (عليه السلام)الواردة بهذا الشأن . يصطلح فقهياً بـ «الفاسق» على الفرد الذي لا يتورّع عن ارتكاب الذنب والمعصية ، فهو يمارس الرذيلة متى ما عرضت له . وبالمقابل هنالك الأفراد الذين مارسوا الرياضة الروحية في السيطرة على النفس حتّى خلقوا لأنفسهم ملكة جعلتهم يجتنبون المحرّمات ويقبلون على الفرائض والواجبات ، ويطلق على مثل هذه الحالة العدالة ، بينما يوصف صاحبها بالعادل . وهي ليست من الصفات الملازمة للإنسان ، على الدوام ، فلعلّها تزول بعد مدّة من الزمان ولا تعدّ فاعلة أمام بعض المعاصي والإغراءات بالشكل الذي تحول دون التلوّث بالفساد ومقارفة الرذيلة .
فقد لا يرتكب مثل هؤلاء الأفراد المعصية من أجل مائة دينار ، لكن لايستعبد ـ على سبيل المثال ـ عدم اهتزازه والتغرير به تجاه مبلغ أكبر قد يصل إلى
(الصفحة 67)
المليون دينار . كما يمكن للبعض الآخر أن يملك هواه إذا ما اُغري ببعض المناصب من قبيل إدارة مؤسّسة أو الإشراف على منظّمة ، بينما يسلس لنفسه القياد إذا ما عرضت عليه وزارة معيّنة . فالإنسان العادل واستناداً لملكة العدالة لا يقارف المعصية في حالة العلم وعدم النسيان ، إلاّ أنّه قد يرتكبها تحت طائلة الغفلة والنسيان ، لكنّ هذه المقارفة لا تعدّ ذنباً و معصية لدى الله ، كما لا يؤاخذ عليها ولا تسلخه من عدالته التي سرعان ما يعود إليها .
وأمّا «العصمة» فهي ملكة دائمية ملازمة للمعصوم (عليه السلام) ـ خلاف العدالة ـ تحول دونه ودون الوقع في الذنب عمداً وسهواً على الدوام ، واستنادا لهذه الملكة فإنّ المعصوم (عليه السلام) لن يقارف الذنب أبداً .
هل المعصوم لا يستطيع مقارفة الخطيئة؟
ما يردّده الفقهاء من أنّ المعصوم (عليه السلام) لا يرتكب الذنب ، ولا يقارف المعصية أبداً ، أيراد بذلك أن المعصوم (عليه السلام) قادر على ارتكاب الذنب ولا يذنب ، أم أنّه ليس بقادر فلا يذنب؟
إذا كانت عصمة المعصوم (عليه السلام) تعني عدم القدرة على إرتكاب الذنب ، فإنّ مثل هذه العصمة لا تعدّ فضيلة ومنقبة له عمّن سواه ، أمّا إن كانت تعني عدم ارتكاب الذنب رغم القدرة على مقارفته فهي فضيلة ومنقبة .
وهنا يطرح سؤال ، وهو أنّه كيف يمكن تصوّر هذه الحالة ، أي عدم الذنب مع القدرة؟ للإجابة على هذا السؤال وتوضيح مفهوم العصمة على أنّها مقام إلهي وفضيلة تميّز صاحبها عمّن سواه ، نرى من الضروري إيراد هذه المقدّمة:
إنّ بعض الأفراد العاديين غير المعصومين يتحلّون بالعصمة تجاه بعض الذنوب ، أي أنّهم لم ولن يقارفوها في ذات الوقت الذي يمتلكون القدرة على