(الصفحة 43)
فالخصائص التي ميّزت شخصية مالك الأشتر والصلاحيات التي منحها إيّاه الإمام ، توضح ثقته المطلقة (عليه السلام)بمالك ، بالشكل الذي جعل الإمام لا يرى ضرورة للإشراف على سلوكية مالك ومنهجه في الحكومة; على الخلاف من سائر صحبه الذين لا يتمتّعون بصفات مالك ، الأمر الذي جعله يفوّضهم صلاحيات أقلّ ويُخضع أعمالهم وممارساتهم للإشراف والسيطرة .
أمره بتقوى الله
إذا تأمّلنا هذا الكلام ـ الأمر بالتقوى ـ بالاستناد إلى الوصايا السابقة فإنّه سينطوي على مفهوم واضح ومعنى واسع . فقد أمر الإمام مالكاً بصفته العالم باستصلاح أمور الناس . ومن الواضح أنّ الوالي ما لم يكن متّقياً ، وكان أسيراً لأهوائه النفسية وغرائزه الحيوانية ، فإنّه لايسعه هداية الرعية وإرشادها إلى الصلاح ، فنفس الإنسان ميدانه الأوّل قبل الانطلاق إلى الآخرين . فإذا استطاع مثل هذا الإنسان أن يخضع هواه وغريزته لعقله ومارس سلطته على نفسه وكبح جماحها ، فإنّه سيتمكّن بالتالي من هداية الآخرين والأخذ بأيديهم لما فيه خيرهم وصلاحهم وأمّا إن كان تابعاً لهواه ، أسيراً لغرائزه الشيطانية ، عاجزاً عن إرشاد نفسه ، فكيف يمكن له إرشاد الآخرين وهدايتهم؟! وكيف يصلح غيره مَن يعجز عن إصلاح نفسه؟!
وهذا الكلام ينطبق تماماً على المؤسّسة الدينية التي تتولّى مهمّة إرشاد الاُمّة وهدايتها ، فالفرد الذي لا يهبّ لتزكية نفسه وينغمس في هواه وشهواته سوف لن يسعه إرشاد الآخرين وهدايتهم . وليت الأمر يقف عند هذه الحدود ، بل سيقود الاُمّة إلى الفساد والانحراف . وقد رأينا باُمّ أعيننا مثل هؤلاء الأفراد المتلبّسين
(الصفحة 44)
بزيّ رجال الدين عديمي التقوى ـ والذين سدّدوا ضرباتهم الموجعة للجسد الفتيّ لثورتنا الإسلامية المباركة ـ كما لمسنا ضرباتهم القاصمة
{ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِى الاَْبْصَارِ} (1) ، إلى جانب وجودهم ـ على مدى التأريخ ـ الذي أدّى إلى ظهور المذاهب المختلفة ، والتي أدّت بالتالي إلى فساد الاُمّة وتخلّفها وانحطاطها .
التقوى في القرآن
إنّنا لنلمس مدى أهمّية التقوى من خلال التعابير القرآنية المختلفة بهذا الشأن في سائر الميادين من قبيل الجهاد والعلم ـ التي سنبيّنها لاحقاً ـ فالقرآن حين يتحدّث عن أفضلية العالم على الجاهل ، يصرّح مقارناً بينهما قائلاً:
{هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (2) .
وتفيد هذه الآية أنّ العاقل يدرك ـ بحكم العقل والوجدان ـ أرجحية العالم على الجاهل دون الحاجة لإقامة الدليل والبرهان . أو حين يتحدّث عن أفضلية المجاهدين على القاعدين ، يقول:
{ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} (3); وهي القضية الاُخرى التي خضعت فيها المقارنة والأفضلية إلى حكم العقل والوجدان .
إلاّ أنّ القرآن لم يتطرّق لمثل هذه المقارنة مهما تعرّض لمسألة التقوى ، فلم يذكر أفضلية المتقّين على أصحاب الشهوات والأهواء أبداً ، بل أشار إلى قيمتها وعلاقتها بالله فقال:
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} (4) .
- 1 . سورة الحشر ، الآية 2 .
- 2 . سورة الزمر ، الآية 9 .
- 3 . سورة النساء ، الآية 95 .
- 4 . سورة الحجرات ، الآية 13 .
(الصفحة 45)
فهو لايقول: إنّ المتّقي أفضل من غير المتّقي ، ولا يقول : إنّ المتّقي يتساوى مع غير المتّقي ، إلاّ أنّه يقول :
{إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} (1) فالتقوى أساس الكرامة ، وهذه الكرامة محسوبة عند الله; وهذا بدوره يفيد خصوصية التقوى ومدى عظمتها وسموّ كرامتها .
مفهوم التقوى
قال الراغب الاصفهاني بشأن التقوى: «الوقاية : حفظ الشيء ممّا يؤذيه ويضرّه ، والتقوى : جعل النفس في وقاية ممّا يخاف . هذا تحقيقه ، ثمّ يسمّى الخوف تارة تقوى والتقوى خوفاً ، حسب تسمية مقتضى الشيء بمقتضيه والمقتضى بمقتضاه ، وصار التقوى في تعاريف الشرع حفظ النفس عمّا يؤثم وذلك بترك المحظور»(2) .
ونفهم من هذا الكلام وسائر الكلمات الواردة بهذا الخصوص ـ ولا سيّما كلمات الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ـ أنّ التقوى معناها حفظ النفس ومراقبتها والسيطرة عليها ، وليس معناها الاجتناب الذي اعتمده بعض المتقوقعين الذين أخلدوا للكسل والراحة ، فأوّلوا التقوى الإسلامية التي تختزن القيام والمواجهة بالانزواء واعتزال المجتمع الإسلامي .
ويرى بعض المحقّقين أنّ التقوى تعني الخوف في الاصطلاح الشرعي .
- 1 . سورة الحجرات ، الآية 13 .
- 2 . مفردات غريب القرآن: 530 ، مادّة «وقى» . إذا افترضنا التقوى بمعنى الاجتناب ، فنسأل: اجتناب أيّ الأشياء يوجب التقوى؟ إذا قيل : المحرّمات ، فإنّ اجتناب المحرّمات ليس كافياً على ضوء النظرة الإسلامية . فإنّ الإتيان بالواجبات هو الآخر شرط من شروط التقوى ، ولذلك نقول بأنّ التقوى تعني حفظ النفس ، فهذا المعنى يشمل اجتناب المحرّمات إلى جانب الإتيان بالفرائض والواجبات .
(الصفحة 46)
وبالاستناد إلى الآيات والروايات فإنّنا لا نتفق وهذا المعنى الذي لا نراه صحيحاً ، فقد جاء في القرآن:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) فلو كانت التقوى تعني الخوف ، فهل الصيام مدعاة لإيجاد الخوف عند الإنسان؟ ثمّ ما العلاقة بين الخوف والصوم؟ بينما إذا قلنا بأنّ معنى التقوى هو الحفظ والتحفّظ ـ وهو كذلك ـ فإنّ هناك علاقة مباشرة بين التحفّظ والصوم; وذلك لأنّ الصوم تمرين لممارسة التحفّظ . كما قال سبحانه في موضع آخر:
{ اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (2) .
ومن الواضح أنّ الآية ستفقد معناها و مفهومها إذا قلنا بأنّ التقوى بمعنى الخوف ، في حين سيتّضح مفهومها بجلاء إذا ما فسّرنا التقوى بالتحفّظ وحفظ النفس . وهكذا الآية:
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} .
درجات التقوى
يتّضح من مجموع الآيات القرآنية وتعاليم نهج البلاغة بخصوص التقوى أنّها تشتمل على مراتب ودرجات . ليس هنالك من ركود وسكون ووقفة في التقوى . فالسالك لا يقطع منزلاً إلاّ إذا احتاج إلى اجتياز الآخر ، وهكذا فهو في حركة مستمرّة .
وعليه فلا ينبغي الاعتقاد بأنّ تقوى الفرد قد اكتملت ولم يعد أمامه من ضرورة للحركة إذا ما اجتنب المحرّمات وامتثل الواجبات ، فالحركة قائمة ، وهي على قدر من السعة والشمولية والتكامل الصعودي اللامتناهي بحيث يتعذّر بلوغ قمّته سوى لأهل بيت العصمة والطهارة ، (أو السالكين الحقيقيّين الذين يتعالون من
- 1 . سورة البقرة ، الاية 183 .
- 2 . سورة آل عمران ، الآية 102 .
(الصفحة 47)
خلال القرآن ومنهج أهل البيت) .
والدليل على هذه الرؤية الإسلامية ما ورد في بعض الآيات القرآنية وروايات أهل البيت (عليهم السلام) بخصوص التقوى ، ونعرض بالبحث لآية من هذه الآيات القرآنية:
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}(1) .
فالمفردة «أتقى» تفيد معنى الكثرة والزيادة ووجود التقوى الأقلّ شأناً من الأتقى; وإلاّ ليس هنالك من دليل لبيان الكثرة والزيادة ، ولا سيّما أنّ اللفظ ورد في القرآن الخالي من أيّ مبالغة .
أمّا في خطبة «همام» فقد أشار علي (عليه السلام)إلى مائة فضيلة ، أو بعبارة أفضل إلى مائة ميزة من ميزات المتقين . وللوقوف على حقيقة هذا الأمر ـ درجات التقوى ـ نقتطف بعض ما أورده الإمام (عليه السلام) بهذا الشأن: همام هو أحد خلّص أصحاب أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، وذات يوم سأله قائلاً: صف لي المتّقين كأنّي أراهم . فاكتفى (عليه السلام)بذكر بعض صفاتهم ، غير أنّ هماماً طالبه بالمزيد . فقال (عليه السلام):
«فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل: منطقهم الصواب ، وملبسهم الاقتصاد ، ومشيهم التواضع ، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم الله عليهم . . . ولولا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين ، شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب . عَظُم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم . . .»(2) .
فأخذت هذه الكلمات مأخذها من همام ـ ولعلّه ظنّ بعدم دركه لمثل هذه الصفات والفضائل ـ فصعق صعقة كانت نفسه فيها .
نعم ، تثبت هذه الكلمات بوضوح تفاوت درجات التقوى ، بحيث يكون غضّ
- 1 . سورة الحجرات ، الآية 13 .
- 2 . نهج البلاغة: 303 ، الخطبة 193، الكافي: 2 / 226 ح1 .