(الصفحة 140)
«البركة عشرة أجزاء ، تسعة أعشارها في التجارة»(1) .
«التاجر الصدوق يُحشر يوم القيامة مع الصدِّيقين والشهداء»(2) .
وقال الصادق (عليه السلام): «التجارة تزيد في العقل»(3) «ترك التجارة ينقص العقل»(4) .
«تعرّضوا للتجارة فإنّ لكم فيها غنى في أيدي الناس»(5) وهذا ما خاطب به علي (عليه السلام) مالكاً:
«ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ ، وَأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً: الْمُقِيمِ مِنْهُمْ ، وَالْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ ، وَالْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ ، فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ ، وَجُلاّبُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِ وَالْمَطَارِحِ ، فِي بَرِّكَ وَبَحْرِكَ ، وَسَهْلِكَ وَ جَبَلِكَ ، وَحَيْثُ لاَيَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا ، وَلاَ يَجْتَرِئُونَ عَلَيْهَا ، فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لاَ تُخَافُ بَائِقَتُهُ ، وَصُلْحٌ لاَتُخْشَى غَائِلَتُهُ ، وَتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَفِي حَوَاشِي بِلادِكَ» .
حدود التجارة
في الوقت الذي يؤمن فيه الإسلام بحرّية التجارة ويثني على التجّار ، لكنّه يعتقد بالنفع المتوازن لها ، وقد أطّرها بآداب خاصة ، ثمّ طالب التجّار بضرورة التفقّه قائلاً: «الفقه ثمّ المتجر» حتّى لا تقود تجارتهم إلى فساد المجتمع وعدم تورّطهم في الحرام .
- 1 . الخصال: 445 ح44 ، البحار: 103 / 4 ح13 .
- 2 . إحياء علوم الدين: 2 / 102 .
- 3 ، 4. الكافي: 5 / 148 ح2 و 1 .
- 5 . الكافي: 5 / 149 ح9 .
(الصفحة 141)
ومن هنا انبرى الفقهاء العظام رضوان الله عليهم ـ واستناداً لما ورد عن الأئمّة (عليهم السلام)ـ عدّة وصايا ـ في باب المتاجر ـ إلى الأفراد الذين يتعاطون البيع والشراء ، ومنها:
* ألاّ يتشدّد البائع في المعاملة ولا يسيء الخلق .
* التسوية في الأسعار بالنسبة للمشترين .
* اجتناب القسم ولو صادقاً .
* إعلام المشتري بنقص السلعة إن كانت ناقصة .
* الإقالة عند الاستقالة .
* ألاّ يمدح البائع سلعته أكثر من اللازم .
* عدم التطفيف في الموازين .
* الابتعاد عن الاحتكار .
* عدم الحيف . وإلى غير ذلك .
فقال (عليه السلام):
«وَ اعْلَمْ ـ مَعَ ذَلِكَ ـ أَنَّ فِي كَثِير مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً ، وَشُحّاً قَبِيحاً ، وَاحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ ، وَتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ ، وَذَلِكَ بَابُ مَضَرَّة لِلْعَامَّةِ ، وَعَيْبٌ عَلَى الْوُلاةِ . فَامْنَعْ مِنَ الاحْتِكَارِ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مَنَعَ مِنْهُ ، وَ لْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً ، بِمَوَازِينِ عَدْل ، وَأَسْعَار لاَتُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ ، فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ ، وَعَاقِبْهُ فِي غَيْرِ إِسْرَاف» .
ونفهم من كلامه (عليه السلام) أنّ الاحتكار والإجحاف حرام في التجارة الإسلاميّة . وكلّنا يعلم بأنّ الرأسماليين إنّما يعتمدون اليوم على سبيلين لممارسة الضغوط على الناس: فتارةً يسعون لتخزين السلع التي يحتاجها الناس لتشحّ في الأسواق فترتفع
(الصفحة 142)
أسعارها ، فيبيعونها آنذاك في السوق السوداء ، وهذا ما يصطلح عليه بالاحتكار الذي حرّمه الإسلام ، ووضع عقوبة للمحتكر الذي يمارسه ويحتكر السلعة ، وتارة اُخرى يتواطأ عدد من الأثرياء ليشتروا سلعاً ويحتكرونها لأنفسهم ، بحيث لا يسع المشتري الحصول عليها إلاّ من عندهم ، وهذا هو الإجحاف بالمشتري والذي لاينسجم ومبادىء الإسلام .
وقد اختصر الإمام (عليه السلام) هذين العملين القبيحين بقوله: «واحتكاراً للمنافع» و«تَحَكّماً في البياعات» .
ولذلك يأمر مالكاً بتسعير السلع والبضائع وألاّ يطلق العنان للتجّار يصولون ويجولون ثمّ يطارد المحتكر والمجحف .
منزلة العمّال والمستضعفين في المجتمع الإسلامي
من المسلّم به أنّ كلّ مجتمع يضمّ بعض الأفراد الذين لا يقدرون على العمل لعدّة أسباب ، أو أنّهم لا يحصلون على الكفاف من أعمالهم في تأمين معيشتهم; ولذلك فهم يعيشون الحاجة والمسكنة .
وإذا لم يكن هناك من يعالج وضعهم فإنّ فتيانهم سيندفعون نحو الفساد والانحراف ، بينما سيساق كهولهم إلى الموت جوعاً . ولا يصحّ بروز مثل هذه الظاهرة المقيتة في المجتمع ، ولا سيّما في المجتمع الإسلامي ، فلابدّ من الالتفات إلى مصيبة هذه الطبقة الكادحة والأخذ بيدها إلى الحياة الحرّة الكريمة .
ويزعم اليوم عالمنا المتحضّر أنّه يتبنى هذه الرسالة ، وأنّه قد سَنَّ القوانين التي جعلته يبلغ بالطبقة العاملة حقوقها المنشودة وأنقذها من وضعها المسحوق ، إلاّ أنّنا نرى أنّ هذه الرسالة لم تتجاوز حدود الشعار; وذلك لأنّنا نشاهد بأُمّ أعيننا الطبقة
(الصفحة 143)
العاملة والكادحة في الدول الصناعية المتقدّمة ـ مثل أمريكا وروسيا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا ـ تعيش الأمرّين ، ومازالت تناضل ضدّ الاستغلال والفقر وتمدّ يد العون لإنقاذها من وضعها المزري .
بينما سبق الإمام (عليه السلام) هذه الدول وقوانينها ليحدِّد قوانين العمل وحقوق العمّال ـ قبل أكثر من ألف وثلاثمائة سنة ـ وقد أورد هذه القوانين حيّز التطبيق ، فقد أوصى مالكاً قائلاً له:
«ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ ، مِنَ الْمَسَاكِينِ وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنَى ، فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً ، وَاحْفَظْ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكَ ، وَقِسْماً مِنْ غَلاّتِ صَوَافِي الإِسْلَامِ فِي كُلِّ بَلَد ، فَإِنَّ لِلأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلأَدْنَى . وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ ، فَلاَ يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ ، فَإِنَّكَ لاَ تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِكَ التَّافِهَ لإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ ، فَلاتُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ ، وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ .
وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لاَ يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ ، وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ ، فَفَرِّغْ لأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَالتَّوَاضُعِ ، فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ ، ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بِالإِعْذَارِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ تَلْقَاهُ ، فَإِنَّ هَؤُلاءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الإِنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللَّهِ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيْهِ .
وَتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وَ ذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ مِمَّنْ لاَ حِيلَةَ لَهُ ، وَلاَ يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ ، وَذَلِكَ عَلَى الْوُلاةِ ثَقِيلٌ ، وَالْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ ، وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللَّهُ عَلَى أَقْوَام طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ ، وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللَّهِ لَهُمْ» .
قلنا: إنّ العمّال قد تمكّنوا في عالمنا المعاصر بعد تجشّم كلّ هذا العناء وتعرّضهم للضغوط من نيل بعض حقوقهم ـ من قبيل خفض ساعات العمل ، وزيادة الأُجور ، وأخذ التعويضات عند الإخراج من العمل والحصول على التأمين
(الصفحة 144)
الاجتماعي ، ومن الضروري أن ندرك بأنّ هذه النتائج قد حصلت:
أوّلاً: بواسطة الجهود المضنية التي بذلتها الطبقة العاملة طيلة هذه السنوات ، بعد أن تجاهلتها السلطات المعنيّة ولم تكلّف نفسها عناء الاهتمام بتحسين أوضاعهم ، بل وقفت بوجهها وسعت لهضم حقوقها .
وثانياً: أنّ هذه القوانين الموضوعة لا تتمتّع بالسعة والشمولية وأهملت الكثير من الحالات الضرورية .
وثالثاً: ليس هناك من موقع في هذه القوانين للأفراد الطاعنين في السِنّ واليتامى ومَن لا معيل لهم والصبية العاجزين عن العمل .
بينما تضمّن عهد الإمام علي (عليه السلام):
أوّلاً: سَنّ قوانين العمل دون مطالبة الطبقة العاملة بذلك .
وثانياً: قد استوعبت كافّة الأفراد الضعفاء .
وثالثاً: ترى أنّ الدولة هي المسؤولة عن تطبيق هذه القوانين ، كما تحثّ بعض الأجهزة للتحرّي عن هؤلاء الأفراد .
مميّزات الحاكم الشعبي
من مميّزات الحاكم الشعبي أن يرى نفسه جزءاً من الأُمّة والأُمّة منه .
وعليه فهو ليس مستعدّاً لاعتماد حاجب بينه وبين الأُمّة ، بل هو فيهم و معهم كأحدهم . وهذا الأمر لا يؤدّي إلى تعاطف الأُمّة وتضامنها مع الحاكم فحسب ، بل سيحول بين العناصر الفاسدة والانتهازية وبين تشويههم سمعة عمّال الدولة لدى الأُمّة وإثارة العداء في أوساطها ضدّ الحاكم .
ومن هنا ورد تأكيده (عليه السلام) على مالك بالارتباط مباشرة مع الأُمّة وتوفير