(الصفحة 35)
التعامل مع نهج البلاغة
يعدّ القرآن ونهج البلاغة وسائر آثار أئمّة العصمة (عليهم السلام) في الثقافة الشيعية المثل الأعلى بالنسبة للاتّجاهات الفكرية الإنسانية ، والسبيل الوحيد الذي من شأنه تمييز الحقّ من الباطل . وعلى ضوء هذه النظرة فإنّ العلماء والمفكّرين على الصعيد الفكري على حقّ في أقوالهم وكتاباتهم في المعارف الإسلامية إذا ما عزّزوا ذلك بما ورد في القرآن ونهج البلاغة وكلمات المعصومين (عليهم السلام) ، وإلاّ فهم على الباطل .
ولذلك ورد عنهم (عليهم السلام) حديث العرض الذي يميّز صحيح الحديث من سقيمه وغثّه من سمينه ، فصرّحوا بأنّه : «إذا جاءكم عنّا حديث فأعرضوه على كتاب الله فإن وافق كتاب الله فخذوه ، وإن خالفه فردّوه أو فاضربوا به عرض الحائط»(1) . أمّا هذا العرض والاستنتاج بشأن القرآن ونهج البلاغة فإنّما يتمّ من خلال أمرين:
الأوّل : أن يتعامل مع هذه الكلمات القدسية بذهنية صافية دون إصدار الأحكام المسبقة .
- 1 . اُنظر عدّة الاُصول: 1 / 146 ، الوسائل: 27 / 118 ، أبواب صفات القاضي ب9 .
(الصفحة 36)
الثاني : أن ينطلق في تعامله مع القرآن ونهج البلاغة وسائر كلمات المعصومين (عليهم السلام) من خلال الأحكام المسبقة والاقتداء السابق والعقائد الفكرية التي نشأ عليها .
ومن البديهي ألاّ نمتلك رؤية عن القرآن ونهج البلاغة في ظلّ الصورة الثانية بقدر ما سنحمّل القرآن عقائدنا وأفكارنا بما يدعو لاستغلال القرآن أو نهج البلاغة .
ويبدو أنّ مثل هذه النظرة للقرآن و نهج البلاغة ليس فقط لا تجرّ علينا أيّة فائدة ولا تعلّمنا أيّ مفهوم من المفاهيم السامية الموجودة في القرآن ونهج البلاغة ، بل من شأنها أن تقود الإنسان إلى الفساد والانحراف . أولسنا نؤمن بأنّ القرآن هو كلام الوحي وأنّ نهج البلاغة وكلمات المعصومين (عليهم السلام) مستوحاة من ذلك الكلام؟ إذن فنحن مطالبون بأن نجعل أنفسنا في مسار كلمات الوحي وترشّحاته : كلمات المعصومين (عليهم السلام) ، لا أن نمارس العكس و نجعل تلك الكلمات خاضعة لأفكارنا وعقائدنا ، فنبحث هنا و هناك في هذه الكلمات المقدّسة عَلَّنا نظفر بما يجعلنا نؤيد أفكارنا وعقائدنا الشخصية .
وبناءاً على ذلك فالاُسلوب الذي ينبغي اعتماده في الاستفادة من القرآن وكلمات المعصومين هو أن لا يرى المتتبّع لنفسه من رأي بالنسبة لهذه الكلمات تجاه المسائل المطروحة ، بل عليه أن يطرح جانباً كلَّ ما يعلمه بهذا الشأن ـ أو ما يظنّ أنه يعلم ـ ويدور حول محور هذه الشموس النيّرة بذهنية خالية صافية دون الاستناد إلى أيّ حكم سابق عقائدي وأفكار أوّليّة .
فقد رأينا نموذجاً لهذا التعامل الخاطئ والنظرة المنحرفة مع القرآن الكريم التي أدّت إلى الضلال والفساد في مسيرة ثورتنا الإسلاميّة المباركة ، فالكلّ يعلم بأنّ الفئات المناهضة للثورة والإسلام قد اعتمدت على هذا الاُسلوب الخاطئ . أي أنّ
(الصفحة 37)
هؤلاء يتمسّكون ظاهرياً بالقرآن كما يسعون للاستدلال بالقرآن وآياته فيما يوردون من مواضيع ، لكن ما ينبغي الالتفات إليه هو التفسير والمعنى الصحيح للآية القرآنية ، فأيّ معنى وأيّ تفسير هو الصحيح؟ الواقع هو أنّ هذه الفئات لا تكلّف نفسها عناء التحرّي في القرآن ليعلموا ماذا يريد أن يقول ، بل يمتلكون العقائد السابقة ثمّ يتصفّحوا المصحف ليروا الآية القرآنية التي من شأنها تحميل أفكارهم وعقائدهم عليها .
وبالنتيجة ترى مثل هذه الفئات تمتلك استنباطات عجيبة من القرآن ويصيغون بعض المحامل والمعاني لكلام الله المجيد التي تدعو إلى الأسى والأسف وفي نفس الوقت إلى الضحك والسخرية . فهم يفترون على الله وكتابه بدلا من الاستفادة منه ، وبالتالي سوف لن يكونوا إلاّ مصداقاً لقوله سبحانه:
{ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً}(1) .
لقد ذهب أغلب المفسرين ـ وبالاستناد إلى كافّة الشواهد والقرائن ـ إلى أنّ معنى الغيب الوارد في الآية
{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}(2) هو الله سبحانه ، في حين تطالعك هذه الفئات المنحرفة ـ واستناداً إلى أسلوبها المنحرف في التعامل مع القرآن ـ لتقول بأنّ المراد بالغيب هنا هو ما تحت الأرض ، الخفاء والمقاومة السرّية . إذن فالقرآن يدعوكم إلى المقاومة السرّية والمخفية!!
والطريف في تلبية هذه الفئات للدعوة الإلهية التي حمّلوها القرآن من يهبّون لمقاومته سرّاً! أو ليست هذه الفئات تهبّ لمقاومة القرآن والإسلام سرّاً؟!
وهنا نقول : إنّ السبب الذي يكمن وراء هذا الانحراف الخطير هو أنّ مثل
- 1 . سورة الإسراء ، الآية 82 .
- 2 . سورة البقرة ، الآية 3 .
(الصفحة 38)
هؤلاء الأفراد لم يجعلوا أنفسهم في مسارّ القرآن ليتدبّروا ماذا يقول ، بل جعلوا القرآن تابعاً لهم فحمّلوه أفكارهم وعقائدهم . أي أنّهم آمنوا بشيء أول الأمر ثمّ اتّجهوا صوب الآيات القرآنية ليروا هل هناك من آية تشبه ظاهرياً ما يؤمنون به من أفكار ، ليخلصوا إلى نتيجة مؤدّاها أنّ القرآن يبيّن في هذه الآية ما نؤمن به من أفكار!
وعليه فإنّ مثل هذه النظرة والتعامل مع القرآن والاستنتاج من كلام الله لا يقود سوى إلى الفساد والانحراف ، وهي نفس النتيجة بشأن التعامل مع كلمات المعصومين (عليهم السلام) والتي يدور حولها هذا البحث . ومعناه أنّنا إذا اتّجهنا صوب نهج البلاغة فلا ينبغي أن نملأ أذهاننا بالأفكار المسبقة ، كما لا ينبغي التأمّل فيه بهدف العثور على ما يؤيّد الموضوع الذي نروم بحثه ، ولا ينبغي أخيراً أن نؤمن بشيء ثمّ نتصفّح نهج البلاغة لنرى هل هنا لك من كلام للإمام (عليه السلام) يمكننا أن نحمّله أفكارنا وعقائدنا ، بل بالعكس لا بدّ أن نرد النهج بذهنية خالية وليس لنا من هدف سوى التدبّر فيه ، لنرى ما الذي أورده الإمام علي (عليه السلام) بشأن الموضوع الذي نروم بحثه . وعليه سوف نجني عدّة فوائد إذا تعاملنا مع هذا الكتاب بذهنية صافية بغية الوقوف على موضوعاته وتعاليمه ، وإلاّ فسوف لن نعيش سوى الفساد والانحراف .
«هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلاّهُ مِصْرَ» .
ذكرنا آنفاً أنّ كلمات المعصومين (عليهم السلام) خالية من المبالغة والإفراط والتفريط المتعارف لدى عامة الناس ، ولا ينطوي كلامهم سوى على المعاني الخاصّة والمفاهيم الواضحة دون أن تتطرق إليه الزيادة والنقيصة .
وعلى هذا الضوء يبدو أنّ الإمام علي (عليه السلام) أراد أن يبيّن أمرين أساسيّين في الثقافة الإسلامية في قوله: «ما أمر به عبد الله»:
(الصفحة 39)* الأوّل: إزالة الغفلة
إنّ أعظم آفة لأصحاب القدرة والسطوة ـ الذين تحفل قواميس معظمهم بالفساد والظلم والجور والسلب والنهب والقتل ـ تكمن في غفلتهم عن أنفسهم ونسيانهم لماضيهم ، فلو علم الحاكم ومهما كانت قدرته ومنصبه بأنّ هناك من أفاض عليه كافّة قدراته واستعداداته الجسمية والنفسية ، وأنّ هذا الفيّاض قادرٌ على سلبه إيّاها متى شاء ، فإنّه لن يعدّ يفكِّر في ظلم أحد ، كما لا يهمّ بالتمرّد وإشعال فتيل الحروب . أمّا إذا لم يلتفت لهذه الآفة ، ولم يكترث لعظمة خالقه وزهادة شخصه ، فإنّ الطغيان والفرعنة ستتجذّر في شخصه يوماً بعد آخر .
وهذا هو الذي ربّما خاطب به علي (عليه السلام) نفسه حين جلس على كرسي الحكم وتولّى مقاليد الاُمور ، بأنّ كلّ مالدينا من الله; ومن هنا ندب الشارع إلى القول: «بحول الله وقوّته أقوم وأقعد»(1) في قيام وقعود الصلوات اليومية الخمس ، أي أنّ الإنسان لابدّ أن يعلم بأنّ هذه القدرة على القيام والقعود ليست مستقلّة نابعة من قدرة الإنسان ، بل هي إفاضة من إفاضات الحقّ تبارك وتعالى . وهنا نقول : هل سيكون هنا لك من ظلم و جور لو اكتفى الحكّام و الزعماء بهذا الأمر فقط وجعلوا الله أمام أعينهم في أنّه هو الذي وهبهم كلّ هذه القوّة والقدرة؟!
* الثاني: العزّة في العبودية:
يرى الإمام علي (عليه السلام) ـ وهي الرؤية الإسلامية الحقّة ـ أنّ القدرة والرئاسة والسلطة المعنوية وبالتالي العزّة والسيادة ـ بمعناها الصحيح لا بمعنى الغطرسة والقوّة الغاشمة ـ إنّما تتحقّق في ظلّ العبودية . فالإمام (عليه السلام) ولبيان هذا الهدف ـ عدم
- 1 . الوسائل : 6/361 ، أبواب السجود ب13 .