(الصفحة 69)
الضير في أن يقارف المعصومون (عليهم السلام) الذنب حال النسيان و يعملوا بما يخالف الشرع؟ أو ليس النسيان مرفوعاً عن الأُمّة ، فما يرتكب حين السهو والنسيان لايعدّ معصية يؤاخذ الإنسان عليها؟
نحن نعلم بأنّ كلّ واحد من الأنبياء (عليهم السلام) وعلى ضوء الوصف القرآني بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ، غير أنّهم في نفس الوقت زعماء الأُمّة وقادة المجتمع ، فلو خرج هذا الزعيم عن الجادّة ، ولو في حالة السهو والغفلة والنسيان ، فإنّ موقعه سيختلّ في نظر الأُمّة وتضعف قاعدته الشعبية رغم أنّ خروجه ليس بمعصية .
فلو قارف الأنبياء (عليهم السلام) الذين تزعّموا المجتمعات البشرية طيلة التأريخ عملاً ولو على نحو السهو والنسيان لأدّى ذلك لا محالة إلى هبوط منزلتهم ولدبّ الضعف والوهن في زعامتهم .
ومن هنا نقول بأنّ للأنبياء والأئمّة المعصومين (عليهم السلام) عصمة تحول دونهم في ارتكاب القبيح على نحو العمد أو الخطأ أو النسيان .
تعنيف الاُمّة بمثابة محاربة الله
يرى الإمام علي (عليه السلام) أنّ تعنيف الأُمّة وظلم العباد بمثابة محاربة اللّه ، وسنثبت لاحقاً أنّه ليس للظلمة والطواغيت من عاقبة سوى الفشل والسقوط والانهيار; وذلك لأنّه لا طاقة لأحد أمام الله ـ الذي يفيض القدرة على من يشاء ـ ولا غنى لحاكم عن عفوه ورحمته:
«ولا تَنصِبَنَّ نفسَكَ لحربِ الله ، فإنّه لا يَدَ لكَ بنقمَتِه ، ولا غِنى بكَ عن عَفوِه ورحمَتِه ، ولا تندمَنَّ على عفو ، ولا تَبْجَحَنَّ بعقوبة ، ولا تُسْرِعَنَّ إلى بادرة وَجَدْتَ منها مَنْدوحَةً» .
(الصفحة 70)
الدكتاتورية والاستبداد
إنّ خصلة التكبّر والغطرسة التي تنبع من الاغترار بالذات والاعتزاز بها إلى جانب حبّ التسلّط والفرعنة إنّما تقود الإنسان إلى الطغيان والاستبداد بالرأي وفرض أفكاره على الآخرين . وإذا ما اشتمل الحاكم على هذه الخصلة وأخذ بزمام الاُمور ودار دفّة الحكم بهذه الذهنية فإنّه لا يلجأ في خاتمة المطاف إلى الغطرسة والكذب والرعب وإضاعة الحقوق فحسب ، بل سيقضي على الدين ـ الإسلام الحنيف ـ ليحيل عزّة المسلمين ذلاًّ وسعادتهم بؤساً وشقاءً:
«ولا تقولنّ: إنّي مُؤَمَّر آمرٌ فأُطاع ، فإنَّ ذلك إدغالٌ في القلب ، ومَنْهَكَةٌ للدين ، وتقرّبٌ من الغِيَرِ» .
مناهضة الاستكبار
قلنا: إنّ جذور الغطرسة والاستبداد تعود إلى التأثّر بالذات والعجب بها إلى جانب حبّ التسلّط والهيمنة ، ونضيف إلى ذلك هنا أنّ مصدر كلّ هذه الأمراض هو الجهل البشري ، فلو وقف الإنسان على آليته الروحية والجسمية ، والتفت إلى مدى ضعفه وعجزه مقابل الذات الربوبية المقدّسة ، وأيقن أنّ كلّ مالديه منه وإليه سبحانه وأنّه «بحوله وقوّته يقوم ويقعد» لهرب من هذا الطغيان والتفرعن ، ولشعر بالخجل من هذا التمرّد والشموس .
ولذلك يذكِّر الإمام علي (عليه السلام) بالتأمّل في نفسه والالتفات إلى موقعه ، من خلال استحضار عظمة اللّه وجبروته كي لا يخالجه أدنى شعور بالكبر والرفعة:
(الصفحة 71)
«وَإِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً ، فَانْظُرْ إِلَى عِظَمِ مُلْكِ اللَّهِ فَوْقَكَ وَقُدْرَتِهِ مِنْكَ عَلَى مَا لاَ تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ ، وَيَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ ، وَيَفِيءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ» .
التفرعن والتباهي
قد يعيش الإنسان سكر القدرة ، فتذهب به الظنون الباطلة إلى نسيان كونه مخلوقاً من مخلوقات الله ، فيحسب أنّ قدرته قد تضاهي قدرة الله المطلقة .
يقول الإمام (عليه السلام) بشأن هذه الظنون التي تسوق الإنسان الى الهاوية:
«إيّاكَ ومُساماةَ اللّهِ في عَظَمَتِه ، والتَشَبُّهِ بِهِ فِي جَبَروتِهِ ، فإنّ اللّهَ يُذِلُّ كلَّ جبّار ، ويُهِينُ كلَّ مختال» .
لقد أتى (عليه السلام) بلفظه «التشبّه» التي تفيد الدقّة في روعة تصوير هذا المفهوم; وذلك لأنّ التشبّه والتشابه وإن كانت من مادّة التشبيه والشبه ، إلاّ أنّ الشبه لايتضمّن المعاني اللطيفة والظريفة التي تكمن في لفظة «التشبّه» .
يقال أحياناً: «زيد كالأسد» ، فقد جعل زيد شبيه الأسد ، ووجه الشبه بينهما الشجاعة ، فيقال: زيد في الشجاعة كالأسد ، فقد استفدنا من هذا الوجه في الشبه من أجل وصف شجاعة زيد ، وقد كان الوصف يستهدف كون زيد شجاعاً ويشبه الأسد في هذه الشجاعة .
ولذلك ليس هنالك من إشكال في بيان هذا الهدف فحسب ، بل كان من الصواب والمنطق أن تستعمل كلمة الشبيه والشبه .
وأحياناً لا يراد بهذا الشبه الغرض الحقيقي ، بل المراد الشبه الكاذب والخيالي
(الصفحة 72)
البعيد عن الحقيقة والواقع . فهنا لم يعد مجال لكلمة «شبيه»; لعدم وجود شبه في هذه الحالة ، غاية ما في الأمر هناك نوع شبه كاذب وخيالي بعيد عن العقل و المنطق ، ولذلك يستفاد هنا من مفردة «التشبّه» أي أنّنا نبيّن موضوعاً لا واقعية له فنتحدّث عن شيئين لا يتشابهان واقعاً ، بل يروم الإنسان ليبدي التشابه الظاهري بين هذين الشيئين .
فنقول على سبيل المثال: «لقد أصبح الدهن ماءً من الحرارة» إلاّ أنّنا نعلم بعدم وجود أيّ شبه واقعي بين الدهن والماء ، بل حيث سال الدهن جعلنا بينه وبين الماء شبهاً ، وأردنا أن نقول: إنّ هذا الدهن قد أصبح شبيه الماء ظاهرياً بفعل حالة السيولة والانسياب .
أو نقول: «طُرِح الخبز خارج المائدة فجَفَّ كالخشب» . هنا أيضاً ليس هناك من شبه حقيقي بين الخبز والخشب ، بل قلنا بنوع من التشابه بين هذين الاثنين ـ الخبز والخشب ـ من ناحية الجفاف .
أو أن نقول: «إنّ هذا اللحم لم ينضج كما ينبغي فهو صلب كالبلاستيك» . فالواقع ليس هناك من شبه بين الاثنين ، ولم نرد سوى عكس صلابة اللحم . ففي هذه الحالات لا يوجد شبه بقدر ما هنالك نوع من التشبّه .
ونخلص ممّا سبق إلى أنّ معنى كلمة «التشبّه» واستعمالها اللغوي يكون حيث عدم وجود الشبه الواقعي بين شيئين ، إلاّ أنّه يراد إبراز وجود مثل هذا الشبه .
ولذلك اعتمد الإمام علي (عليه السلام) من خلال دقّة تصويره وروعة بيانه هذه المفردة بشأن الأفراد الذين يزعمون الجبروت ويحاولون التشبّه بأمر يعدّ من مختصّات الذات الإلهية المقدّسة .
فالمراد أنّه لا يسع أحد التشبّه حقّاً بمقام كبرياء الله في جبروته وعظمته ، أي ليس من شأن المخلوق أن يكون كالخالق قط ، لكن لهذا المخلوق أن يعتقد بمثل هذا
(الصفحة 73)
الشبه في ظنّه وزعمه فيخوض بإظهار هذا الأمر ، فقد قال (عليه السلام):
«إيّاك ومساماة الله في عظمته ، والتشبّه به في جبروته» فهو يحذِّر منه و يذمّ عاقبته .
وتفيد هذه القضية معنى آخر يجعلنا نقف بصورة أعمق على المفهوم الذي أورده أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وهو أنّ قدراتنا مهما بلغت ـ وإن كانت هذه القدرة موظّفة في خدمة الإسلام وفي ظلّ الحكومة الإسلاميّة بغية تطبيق الأحكام الشرعية وإقامة العدل الإلهي ونشر الحقّ والقسط ـ فهي أيضاً ليست قدرة مستقلّة وقائمة بذاتها .
نعم ، هي ليست قدرة ذاتية يعتنى بها وتتقوّم بنفسها ، أو أنّها منبعثة من كياننا ووجودنا ، بل هي كسائر القدرات الدنيوية التبعية وفي طول قدرة البارئ تبارك وتعالى ، وهذا أمر مفروغ منه فليس لنا من قدرة في عرض القدرة الإلهية .
وإنّنا لنؤكّد هذا المعنى الذي نعيش الإيمان به على مستوى اليقين ، بحيث نسند قدرتنا في أدنى الأعمال والحركات حتّى من قبيل الجلوس والقيام ، ولذلك لاننفكّ نردّد «بحول الله وقوّته أقوم وأقعد»(1) وإلاّ فأين نحن من هذا القيام والقعود؟ فلولا حول الله وقوّته لما صعد نَفَس ولا نزل . إنّنا نؤمن بأنّ كلّ حول وقدرة لله وحده «لا حول ولا قوّة إلاّ بالله»(2) .
وعليه نخلص إلى أنّ كلّ قدرة نتمتّع بها في هذه الدنيا ـ فردية كانت أم اجتماعية ـ هي قدرة في طول القدرة الإلهية وظلّها . فكلّ قدرة لدينا هي ذرّة يسيرة من تلك القدرة الإلهية الأزلية ، وقد أُودعناها كأمانة ولا ندري إلى متى ستدوم ومتى تسلب منّا . فهل بعد هذا لأحد أن يسلب الله هذه القدرة ويرى لنفسه
- 1 . الوسائل: 6 / 361 ، أبواب السجود ب13 .
- 2 . الكافي: 2 / 425 ، 521 ، 523 ، 525 و 530 .