(الصفحة 46)
وبالاستناد إلى الآيات والروايات فإنّنا لا نتفق وهذا المعنى الذي لا نراه صحيحاً ، فقد جاء في القرآن:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) فلو كانت التقوى تعني الخوف ، فهل الصيام مدعاة لإيجاد الخوف عند الإنسان؟ ثمّ ما العلاقة بين الخوف والصوم؟ بينما إذا قلنا بأنّ معنى التقوى هو الحفظ والتحفّظ ـ وهو كذلك ـ فإنّ هناك علاقة مباشرة بين التحفّظ والصوم; وذلك لأنّ الصوم تمرين لممارسة التحفّظ . كما قال سبحانه في موضع آخر:
{ اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (2) .
ومن الواضح أنّ الآية ستفقد معناها و مفهومها إذا قلنا بأنّ التقوى بمعنى الخوف ، في حين سيتّضح مفهومها بجلاء إذا ما فسّرنا التقوى بالتحفّظ وحفظ النفس . وهكذا الآية:
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} .
درجات التقوى
يتّضح من مجموع الآيات القرآنية وتعاليم نهج البلاغة بخصوص التقوى أنّها تشتمل على مراتب ودرجات . ليس هنالك من ركود وسكون ووقفة في التقوى . فالسالك لا يقطع منزلاً إلاّ إذا احتاج إلى اجتياز الآخر ، وهكذا فهو في حركة مستمرّة .
وعليه فلا ينبغي الاعتقاد بأنّ تقوى الفرد قد اكتملت ولم يعد أمامه من ضرورة للحركة إذا ما اجتنب المحرّمات وامتثل الواجبات ، فالحركة قائمة ، وهي على قدر من السعة والشمولية والتكامل الصعودي اللامتناهي بحيث يتعذّر بلوغ قمّته سوى لأهل بيت العصمة والطهارة ، (أو السالكين الحقيقيّين الذين يتعالون من
- 1 . سورة البقرة ، الاية 183 .
- 2 . سورة آل عمران ، الآية 102 .
(الصفحة 47)
خلال القرآن ومنهج أهل البيت) .
والدليل على هذه الرؤية الإسلامية ما ورد في بعض الآيات القرآنية وروايات أهل البيت (عليهم السلام) بخصوص التقوى ، ونعرض بالبحث لآية من هذه الآيات القرآنية:
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}(1) .
فالمفردة «أتقى» تفيد معنى الكثرة والزيادة ووجود التقوى الأقلّ شأناً من الأتقى; وإلاّ ليس هنالك من دليل لبيان الكثرة والزيادة ، ولا سيّما أنّ اللفظ ورد في القرآن الخالي من أيّ مبالغة .
أمّا في خطبة «همام» فقد أشار علي (عليه السلام)إلى مائة فضيلة ، أو بعبارة أفضل إلى مائة ميزة من ميزات المتقين . وللوقوف على حقيقة هذا الأمر ـ درجات التقوى ـ نقتطف بعض ما أورده الإمام (عليه السلام) بهذا الشأن: همام هو أحد خلّص أصحاب أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، وذات يوم سأله قائلاً: صف لي المتّقين كأنّي أراهم . فاكتفى (عليه السلام)بذكر بعض صفاتهم ، غير أنّ هماماً طالبه بالمزيد . فقال (عليه السلام):
«فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل: منطقهم الصواب ، وملبسهم الاقتصاد ، ومشيهم التواضع ، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم الله عليهم . . . ولولا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين ، شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب . عَظُم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم . . .»(2) .
فأخذت هذه الكلمات مأخذها من همام ـ ولعلّه ظنّ بعدم دركه لمثل هذه الصفات والفضائل ـ فصعق صعقة كانت نفسه فيها .
نعم ، تثبت هذه الكلمات بوضوح تفاوت درجات التقوى ، بحيث يكون غضّ
- 1 . سورة الحجرات ، الآية 13 .
- 2 . نهج البلاغة: 303 ، الخطبة 193، الكافي: 2 / 226 ح1 .
(الصفحة 48)
البصر عن المحرّمات درجة من درجات هذه التقوى ، والتواضع درجة اُخرى وهكذا دواليك . . .
السعادة والشقاء
تقوم الرؤية الإسلاميّة على أنّ السعادة تكمن في الطاعة والشقاء في المعصية . ونورد ما أمر به أميرالمؤمنين (عليه السلام) واليه بهذا الشأن قبل الخوض في التفاصيل:
«أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ إِيْثَارِ طَاعَتِهِ وَ اتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ الَّتِي لاَ يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلاّ بِاتِّبَاعِهَا وَلاَ يَشْقَى إِلاّ مَعَ جُحُودِهَا وَإِضَاعَتِهَا» .
لايراد بالكتاب القرآن فقط ، بل يشمل القرآن وروايات أهل البيت (عليهم السلام) فقد اصطلح في الإسلام بكتاب الله على كافّة السنن والآداب الإسلامية ، وذلك لأنّ كافّة الواجبات والمحرّمات والمكروهات والمستحبّات من المكتوبات الإلهية ، أي أنّ الله قد كتبها بقلم التقدير ليعمل بها بالشكل الذي ورد في الشرع .
لقد حصر الإمام علي (عليه السلام) سبيل السعادة والشقاء بما ذكر ، حيث استعمل حرف «لا» و «إلاّ» التي تفيد الحصر والانحصار . فقد قال (عليه السلام): لا يسعد أحد (مهما كان) إلاّ بطاعة الله وامتثال أمره من خلال الإتيان بالسنن والفرائض واجتناب المحرّمات ، وفي المقابل لا يشقى أحد إلاّ بتضييعه هذه السنن والفرائض .
ويتّضح من ذلك أنّ المراتب العلمية ـ مهما كثرت و حسنت ـ ليس من شأنها إيصال الإنسان إلى السعادة ، اللّهم إلاّ أن يقرن تلك المراتب بطاعة اللّه: الأمر الذي سيضاعف حركته ويزيد من كمالاته .
أبعاد التقوى
للتقوى بعدان; أحدهما يتمثّل بالعمل بالواجبات والفرائض الدينية ، ويتمثّل
(الصفحة 49)
البعد الثاني بترك المحرّمات والمحظورات . فقد أشار (عليه السلام) إلى البعد الأوّل من التقوى بقوله : «إيثار طاعته» ، وستأتي لاحقاً إشارته للبعد الثاني بقوله : «وإن يكسر نفسه عند الشهوات» .
فالكسر يستعمل حيث القوّة والصلابة . فتقول : كسرت الزجاجة ، لأنّ الزجاجة تشتمل على الصلابة ، غير أنّك لا تقول : كسرت الغصن حين تفصله عن الشجرة . ويفيد هذا التعبير أنّ النفس البشرية تنطوي على حالة من الصلابة إزاء الشهوات والغرائز الحيوانية ، الأمر الذي يتطلّب التعامل معها بقوّة بعيداً عن الضعف والوهن والغفلة ، ولذلك صرّح الفقهاء(1) العظام في كتاب الصوم وتعريفهم لماهيته بأنّه كفّ النفس وإمساكها عن المفطرات; لأنّنا نعلم بأنّ النفس الإنسانية تشتهي الطعام والشراب وخاصّة في شهر رمضان ، ولذلك فإنّ كفّها وحفظها لايتأتّى إلاّ من خلال القوّة والقدرة .
الجهاد الأكبر
لقد عبّرت بعض الروايات عن جهاد النفس بـ «الجهاد الأكبر» . والجهاد من «جهد» بمعنى السعي ، ولا يطلق على كلّ سعي ، بل يطلق على السعي إلى الحدّ الممكن والاستفادة من كافّة الطاقات والإمكانات; ولذلك يطلق «المجتهد» على الفرد الذي يستفرغ ما في وسعه من قوّة وطاقة من أجل استنباط الأحكام الشرعية . ومنه المجاهدون أيضاً الذين يوظّفون كافّة قدراتهم ضدّ العدو .
وناهيك عمّا تقدّم فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه عبّر عن جهاد
- 1 . اُنظر تحرير الوسيلة : 1/278 ومنهاج الصالحين : 1/260 .
(الصفحة 50)
النفس بالجهاد الأكبر . فقد ورد: أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعث بسريّة إلى المعركة ، فلمّا عادوا خاطبهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقوله: «مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر ، قيل : يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس»(1) .
ولا شكّ في أنّ مثل هذه الأحاديث والأخبار عن المعصومين (عليهم السلام) ـ الخالية من المبالغة ـ إنّما تفيد عظمة وأهمّية جهاد النفس وكبح جماحها وغرائزها الطائشة .
وكفى بهذا الجهاد قدراً وعظمة أنّ دخول الجنة قد اشترط بنهي النفس عن الهوى والشهوات ، فقال عزّ من قائل:
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (2) فقد صرّحت الآية بوجود شرطين لدخول الجنّة:
الأوّل : خوف الله والذي لا يتسنّى إلاّ من خلال معرفة الله وعظمته ، أي المعرفة التامّة والشاملة .
والثاني : نهي النفس عن الهوى والذي لا يتأتّى إلاّ من خلال ممارسة السلطة على النفس وكبح جماحها ، هذه السلطة والحاكمية على هذه النفس التي وصفها القرآن بأنّها أمّارة بالسوء . وعليه فهذا الجهاد شاقّ ومُضن وواسع وشامل .
ومن هنا كان لابدّ لنا من الاستعانة باللّه والإلحاح عليه قائلين: ربّ لاتكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً(3) .
- 1 . الكافي : 5/12 ح3، الوسائل : 15/161 ، أبواب جهاد النفس ب1 ح1 .
- 2 . سورة النازعات ، الآيتان 40 ـ 41 .
- 3 . البحار : 86/40 ح48، وص71 ح5 ، وص108 ح9; وص152 ح35 .