(الصفحة 114)
فهناك لطائف جمّة تضمّنها كلامه (عليه السلام) ، ومنها أنّ اختيار الاُمراء الأكفّاء على أساس الضوابط المشار إليها أمر صعب ، وأنّ الظفَرَ بمثل هؤلاء الأفراد وتنصيبهم يعدّ نجاحاً للقائد ، غير أنّ الحفاظ على هذه المسيرة وتشجيع هؤلاء الأُمراء وإمدادهم بأسباب القوّة يبدو أمراً أبلغ صعوبة وأعظم نجاحاً .
والقضية تكمن في أنّ مثل هؤلاء الأفراد إنّما هم من الشخصيات البارزة في المجتمع يندر العثور على أمثالهم ، ومن جانب آخر فإنّ هؤلاء الأُمراء قد لبّوا نداء المسؤولية العظمى وحملوا أرواحهم على أكفّهم بما جعل حياتهم تتعايش والميدان والقتال ، ويتربّص بهم الموت والشهادة في كلّ حركة من حركاتهم وسكنة من سكناتهم .
إذن فمثل هذه الخصائص الكبيرة والمهامّ الخطيرة تجلعهم حقّاً يحلمون بما لايحلم به غيرهم من زعيمهم ، حيث يقلّدوه من جرّاء ذلك مسؤولية حسّاسة تثقل كاهله ، وتجعله يتأمّل مَليّاً في كيفيّة القيام بهذه الوظيفة; فإنّ القضايا المطروحة أمامه لا تقتصر على الحاجيات المادّية ، بل المسألة أعمق من ذلك لتتعامل مع عواطف شفّافة وأحاسيس مرهفة ومتطلّبات روحية ومعنوية ، قد تؤدّي الغفلة عنها إلى تثبيط العزائم وفسخ الهمم والتي قد تقود إلى فاجعة مأساوية ، ولذلك يشبّه الإمام (عليه السلام) عظم دور القائد بدور الوالدين تجاه ولدهما .
(الصفحة 115)
أهمّ خصال كبار الاُمراء المصطفين
كما يتحلّى بعض أفراد الجيش ببعض الصفات والخصال التي تؤهّلهم للقيادة ، فإنّ هناك البعض من بين القادة الذين يتمتّعون بخصال أعمق وميّزات أعظم ، ومن شأن هذه الخصال والميزات أن تجعل هذا البعض من الاُمراء أكثر قرباً من الوالي بحيث يعيشون معه حالة من التواصل والقرب ، ويعدّ هؤلاء الأفراد الذين يحظون بهذه الميزات والخصال من صفوة وخيرة قوّاد جيوش الإسلام .
بعبارة اُخرى أنّ هؤلاء هم الأفراد الذين يستشيرهم الحاكم الإسلامي في اُمور الحرب ، كما يطلعهم على أدقّ الأسرار العسكرية ، وأخيراً يعرض عليهم الخطط والمشاريع العملية للحرب ثمّ يفوّض إليهم بكلّ ثقة العدّة والعدد والقوّات لاتّخاذ قرار القتال والجهاد .
أمّا أهمّ المميّزات والخصال التي يرى الإمام (عليه السلام)ضرورة توفّرها في مثل هؤلاء الاُمراء فيمكن إيجازها فيما يلي:
1 ـ أن يواسون سائر أفراد القوّات المسلّحة في طريقة معاشهم من حيث الإمكانات المادّية والوسائل الترفيهية والأدوات المنزلية ، ليتسنّى لمن دونهم الاقتداء بهم ، كما يستطيع القائد من خلال مواساته وتضامنه الواقعي مع جنوده أن يشعر بمشاكلهم ومعاناتهم .
2 ـ أن يعيش الشفقة تجاه أفراد جيشه ، بحيث يسعى جاهداً لتلبية حاجاتهم والعمل على شدّ ظهورهم ، بحيث لا يعيش الجندي هاجس القلق على زوجته وأولاده إذا ما خاض غمار الجهاد ، فيطمئنّ إلى أنّ هناك من يرعى أُسرته ويقضي حوائجها المادّية والمعنوية . وفي ظلّ هذه الحالة يمكنه أن يقتحم ميدان القتال وهو
(الصفحة 116)
لا يفكّر سوى في تحقيق الهدف الإلهي من مواجهة العدوّ .
3 ـ أن يعيش التضامن مع جنوده إلى الحدّ الذي يجعله يغطّي نفقاتهم من الميزانية تحت تصرّفه . ومن الطبيعي أنّ المقاتل حين لا يقلق على ضمان مصالح ومتطلّبات معيشة أُسرته فإنّه سيرد المعركة برباطة جأش وعزم راسخ ، من أجل إعلاء كلمة الله ودحر الأعداء .
ونلاحظ ممّا تقدّم ـ ومن خلال الأبعاد الشاملة التي يستند إليها الإسلام في نظرته الواقعية الفريدة للأشياء ـ أنّه في الوقت الذي يولي أهمّية قصوى لقضية الإيمان والتقوى والورع والاتّكال على الله ، غير أنّه لا يغفل عن الوقائع والقضايا الملموسة للحياة بما فيها صغرى المتطلّبات والاحتياجات المادّية للإنسان ، إلى الحدّ الذي جعل الإمام عليّاً (عليه السلام) يتعرّض لهذه المسألة ، وهي أنّ المقاتل ما لم يشعر بتلبية حاجاته المادّية والمعيشية فإنّه لن يستطيع الصمود في الميدان; وذلك لأنّه لم يرده بقوّة وثبات تمكّنانه من الوقوف بوجه العدوّ ومن ثمّ هزيمته والانتصار عليه:
«وَلْيَكُنْ آثَرُ رُءُوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِي مَعُونَتِهِ ، وَأَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتِهِ بِمَا يَسَعُهُمْ وَ يَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِيهِمْ حَتَّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ ، فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَيْهِمْ يَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْكَ» .
دوام السلطة
إنّ هدف الأنبياء ـ ولا سيّما رسالة خاتمهم (صلى الله عليه وآله)ـ إنّما يكمن في بسط العدل والقسط في ربوع المجتمع الإنساني; ولذلك فإنّ الإسلام وعلى ضوء المنطق القرآني قد دعا الحكومة لبسط العدل ، كما أوصى أفراد الأُمّة بالتعامل فيما بينهم على أساسه ، كما في قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِِ
(الصفحة 117)
وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالاَْقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} (1) .
واستناداً لهذه الرؤية القرآنية فإنّ الإمام علياً (عليه السلام) يرى أنّ دوام السلطة واستقرارها مرهون بإقامة العدل والقسط ، أي أنّ الدولة والنظام إنّما يكتسب ميزة البقاء والاستمرار إذا ما تبنّى شعار العدل والقسط ، وحرص على إقامتهما وبسطهما في البلاد ، وإلاّ فهي دولة تحمل معها وفي طيّاتها أسباب الاضمحلال والانهيار إذا ما كان شعارها يستند إلى الظلم والاضطهاد .
ومن الطبيعي أن يتمنّى الأفراد الذين يعيشون في ظلّ الدولة العادلة بقاءها واستمرارها ، بينما يتطلّع أولئك الأفراد الذين يعيشون تحت نير الدولة الظالمة إلى زوالها وزوال ظلمها وجورها:
«وَإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلاةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِلادِ ، وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ . وإِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلاّ بِسَلامَةِ صُدُورِهِمْ ، وَلاَ تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ إِلاّ بِحِيطَتِهِمْ عَلَى وُلاةِ الأُمُورِ ، وَقِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهِمْ ، وَتَرْكِ اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ ، فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ» .
التشجيع دافع لمضاعفة الجهود
رأينا على ضوء النظرة العلوية أنّ اتّحاد وتضامن أفراد المجتمع وانصهار أفراد القوّات المسلّحة في سائر أفراد الأُمّة وشخص القائد ـ والذي يؤدّي في خاتمة المطاف إلى تنامي قوّة المجتمع الإسلاميّة ـ ليست بالقضية الهيّنة التي يمكن نيلها دون مشاريع وبرامج دقيقة ، ولذلك فإنّ من الضروري أن تكون هناك شرائط
- 1 . سورة النساء ، الآية 135 .
(الصفحة 118)
وخصائص ، لكي يهبّ أفراد المجتمع بكلّ حماس وإيمان لتقوية الجيش الإسلامي ، كما يعي الجيش مسؤوليته بطاعة آمريه وقادته وينطلق نحو تحقيق الأهداف الإلهية المقدّسة .
وهنا تطالعنا بعض الخصائص التي أخذتها الثقافة الإسلاميّة بنظر الاعتبار بالنسبة لكلّ فرد من أفراد المجتمع ، فعلى سبيل المثال لو طالب القائد أحد جنود الإسلام بالفداء والتضحية ، فإنّه ينبغي له قبل ذلك أن يكون التعامل معه بمنتهى الشفقة والرأفة الأبوية ، وإن أراد أن يكون محبوباً في أوساطهم وجب عليه ضمان حاجاتهم المادّية ، وإن توقّع منهم الشفقة عليه وإرادة الخير له لزم أن يعاملهم بالعدل والإنصاف .
أمّا الوصيّة الاُخرى لعليّ (عليه السلام); والتي تتناول الوظائف المتبادلة بين القائد والأُمّة والقائد والجندي ، إنّما تتمثّل بضرورة وقوف القادة والاُمراء على كافّة أبعاد الأفراد ممّن تحت إمرتهم وقيادتهم ، إلى جانب الالتفات إلى كافّة حاجاتهم المادّية والمعنوية ، فالقائد ليس بناجح إذا اقتصر همّه على الأُمور المعنوية بينما أهمل النواحي المادّية لأفراد المجتمع ، والعكس صحيح أيضاً .
إنّ إحدى الحاجات الروحية والمعنوية لجند الإسلام ـ والتي لا ينبغي إغفالها أبداً من قبل القائد ـ إنّما تتمثّل بالتشجيع والثناء والتقدير ليتسنّى له القيام بوظيفته في خوض غمار الجهاد والاستعداد للشهادة .
ومن حقّ هؤلاء الأفراد الذين ينهضون بهذه المسؤولية الخطيرة ويضحّون بأنفسهم من أجل نشر الدين وضمان أمن وسلامة المجتمع أن يحظوا بكلّ ثناء وإكبار من قبل الولاة والحكّام ، وأن يشعروا دائماً بأنّ جهودهم وتضحياتهم محفوظة تحظى بالاهتمام والشكر والتقدير وتشجيع الولاة واُمراء الجيش ، ممّا يسبّب مضاعفة جهود المقاتلين من ناحية ، ومن ناحية اُخرى يدفع بالجنود