(الصفحة 141)
ومن هنا انبرى الفقهاء العظام رضوان الله عليهم ـ واستناداً لما ورد عن الأئمّة (عليهم السلام)ـ عدّة وصايا ـ في باب المتاجر ـ إلى الأفراد الذين يتعاطون البيع والشراء ، ومنها:
* ألاّ يتشدّد البائع في المعاملة ولا يسيء الخلق .
* التسوية في الأسعار بالنسبة للمشترين .
* اجتناب القسم ولو صادقاً .
* إعلام المشتري بنقص السلعة إن كانت ناقصة .
* الإقالة عند الاستقالة .
* ألاّ يمدح البائع سلعته أكثر من اللازم .
* عدم التطفيف في الموازين .
* الابتعاد عن الاحتكار .
* عدم الحيف . وإلى غير ذلك .
فقال (عليه السلام):
«وَ اعْلَمْ ـ مَعَ ذَلِكَ ـ أَنَّ فِي كَثِير مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً ، وَشُحّاً قَبِيحاً ، وَاحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ ، وَتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ ، وَذَلِكَ بَابُ مَضَرَّة لِلْعَامَّةِ ، وَعَيْبٌ عَلَى الْوُلاةِ . فَامْنَعْ مِنَ الاحْتِكَارِ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مَنَعَ مِنْهُ ، وَ لْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً ، بِمَوَازِينِ عَدْل ، وَأَسْعَار لاَتُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ ، فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ ، وَعَاقِبْهُ فِي غَيْرِ إِسْرَاف» .
ونفهم من كلامه (عليه السلام) أنّ الاحتكار والإجحاف حرام في التجارة الإسلاميّة . وكلّنا يعلم بأنّ الرأسماليين إنّما يعتمدون اليوم على سبيلين لممارسة الضغوط على الناس: فتارةً يسعون لتخزين السلع التي يحتاجها الناس لتشحّ في الأسواق فترتفع
(الصفحة 142)
أسعارها ، فيبيعونها آنذاك في السوق السوداء ، وهذا ما يصطلح عليه بالاحتكار الذي حرّمه الإسلام ، ووضع عقوبة للمحتكر الذي يمارسه ويحتكر السلعة ، وتارة اُخرى يتواطأ عدد من الأثرياء ليشتروا سلعاً ويحتكرونها لأنفسهم ، بحيث لا يسع المشتري الحصول عليها إلاّ من عندهم ، وهذا هو الإجحاف بالمشتري والذي لاينسجم ومبادىء الإسلام .
وقد اختصر الإمام (عليه السلام) هذين العملين القبيحين بقوله: «واحتكاراً للمنافع» و«تَحَكّماً في البياعات» .
ولذلك يأمر مالكاً بتسعير السلع والبضائع وألاّ يطلق العنان للتجّار يصولون ويجولون ثمّ يطارد المحتكر والمجحف .
منزلة العمّال والمستضعفين في المجتمع الإسلامي
من المسلّم به أنّ كلّ مجتمع يضمّ بعض الأفراد الذين لا يقدرون على العمل لعدّة أسباب ، أو أنّهم لا يحصلون على الكفاف من أعمالهم في تأمين معيشتهم; ولذلك فهم يعيشون الحاجة والمسكنة .
وإذا لم يكن هناك من يعالج وضعهم فإنّ فتيانهم سيندفعون نحو الفساد والانحراف ، بينما سيساق كهولهم إلى الموت جوعاً . ولا يصحّ بروز مثل هذه الظاهرة المقيتة في المجتمع ، ولا سيّما في المجتمع الإسلامي ، فلابدّ من الالتفات إلى مصيبة هذه الطبقة الكادحة والأخذ بيدها إلى الحياة الحرّة الكريمة .
ويزعم اليوم عالمنا المتحضّر أنّه يتبنى هذه الرسالة ، وأنّه قد سَنَّ القوانين التي جعلته يبلغ بالطبقة العاملة حقوقها المنشودة وأنقذها من وضعها المسحوق ، إلاّ أنّنا نرى أنّ هذه الرسالة لم تتجاوز حدود الشعار; وذلك لأنّنا نشاهد بأُمّ أعيننا الطبقة
(الصفحة 143)
العاملة والكادحة في الدول الصناعية المتقدّمة ـ مثل أمريكا وروسيا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا ـ تعيش الأمرّين ، ومازالت تناضل ضدّ الاستغلال والفقر وتمدّ يد العون لإنقاذها من وضعها المزري .
بينما سبق الإمام (عليه السلام) هذه الدول وقوانينها ليحدِّد قوانين العمل وحقوق العمّال ـ قبل أكثر من ألف وثلاثمائة سنة ـ وقد أورد هذه القوانين حيّز التطبيق ، فقد أوصى مالكاً قائلاً له:
«ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ ، مِنَ الْمَسَاكِينِ وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنَى ، فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً ، وَاحْفَظْ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكَ ، وَقِسْماً مِنْ غَلاّتِ صَوَافِي الإِسْلَامِ فِي كُلِّ بَلَد ، فَإِنَّ لِلأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلأَدْنَى . وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ ، فَلاَ يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ ، فَإِنَّكَ لاَ تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِكَ التَّافِهَ لإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ ، فَلاتُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ ، وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ .
وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لاَ يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ ، وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ ، فَفَرِّغْ لأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَالتَّوَاضُعِ ، فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ ، ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بِالإِعْذَارِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ تَلْقَاهُ ، فَإِنَّ هَؤُلاءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الإِنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللَّهِ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيْهِ .
وَتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وَ ذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ مِمَّنْ لاَ حِيلَةَ لَهُ ، وَلاَ يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ ، وَذَلِكَ عَلَى الْوُلاةِ ثَقِيلٌ ، وَالْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ ، وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللَّهُ عَلَى أَقْوَام طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ ، وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللَّهِ لَهُمْ» .
قلنا: إنّ العمّال قد تمكّنوا في عالمنا المعاصر بعد تجشّم كلّ هذا العناء وتعرّضهم للضغوط من نيل بعض حقوقهم ـ من قبيل خفض ساعات العمل ، وزيادة الأُجور ، وأخذ التعويضات عند الإخراج من العمل والحصول على التأمين
(الصفحة 144)
الاجتماعي ، ومن الضروري أن ندرك بأنّ هذه النتائج قد حصلت:
أوّلاً: بواسطة الجهود المضنية التي بذلتها الطبقة العاملة طيلة هذه السنوات ، بعد أن تجاهلتها السلطات المعنيّة ولم تكلّف نفسها عناء الاهتمام بتحسين أوضاعهم ، بل وقفت بوجهها وسعت لهضم حقوقها .
وثانياً: أنّ هذه القوانين الموضوعة لا تتمتّع بالسعة والشمولية وأهملت الكثير من الحالات الضرورية .
وثالثاً: ليس هناك من موقع في هذه القوانين للأفراد الطاعنين في السِنّ واليتامى ومَن لا معيل لهم والصبية العاجزين عن العمل .
بينما تضمّن عهد الإمام علي (عليه السلام):
أوّلاً: سَنّ قوانين العمل دون مطالبة الطبقة العاملة بذلك .
وثانياً: قد استوعبت كافّة الأفراد الضعفاء .
وثالثاً: ترى أنّ الدولة هي المسؤولة عن تطبيق هذه القوانين ، كما تحثّ بعض الأجهزة للتحرّي عن هؤلاء الأفراد .
مميّزات الحاكم الشعبي
من مميّزات الحاكم الشعبي أن يرى نفسه جزءاً من الأُمّة والأُمّة منه .
وعليه فهو ليس مستعدّاً لاعتماد حاجب بينه وبين الأُمّة ، بل هو فيهم و معهم كأحدهم . وهذا الأمر لا يؤدّي إلى تعاطف الأُمّة وتضامنها مع الحاكم فحسب ، بل سيحول بين العناصر الفاسدة والانتهازية وبين تشويههم سمعة عمّال الدولة لدى الأُمّة وإثارة العداء في أوساطها ضدّ الحاكم .
ومن هنا ورد تأكيده (عليه السلام) على مالك بالارتباط مباشرة مع الأُمّة وتوفير
(الصفحة 145)
الأرضية اللازمة للاجتماع بهم دون أيّة تكلّفات واحترازات وفي أجواء مفعمة بالودّ وبعيدة عن الخوف والرهبة ، ليتمكّنوا من بثّ همومهم وطرح مشاكلهم دون أدنى حذر أو خيفة:
«وَاجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ ، وَتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَ أَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَ شُرَطِكَ حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِع ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِن: «لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِع» .
ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ وَالْعِيَّ ، وَنَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ وَالأَنَفَ ، يَبْسُطِ اللَّهُ عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ ، وَيُوجِبُ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ ، وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً ، وَامْنَعْ فِي إِجْمَال وَ إِعْذَار» .
وهنا نتساءل لو دخلت هذه الوصية حيّز التطبيق لدى الحكومة ، فهل ستكون هناك من فرصة وذريعة لدى الخونة والعملاء لإشاعة الفساد والانحراف وممارسة الخيانة والرذيلة وتسريبها إلى الأُمّة والدفع بالمسؤولين لاتخاذ القرارات الجائرة بسبب ابتعادهم عن الأُمّة واكتواء الأُمّة . بمصائبها بفعل ابتعادها عن الحاكم؟
|