(الصفحة 153)
يجمع كافّة فقهاء الشيعة على أنّ الشرط الأساسي في الصلح أن يكون لصالح الإسلام والمسلمين ، ولا يجوز الصلح إذا كان يضرّ بالإسلام والمسلمين ، ويؤدّي بهم إلى الوهن والضعف; ولذلك قال (عليه السلام):
«وَلاَ تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ ولِلَّهِ فِيهِ رِضًا ، فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ ، وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ ، وَأَمْناً لِبِلادِكَ ، وَلَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ ، فَخُذْ بِالْحَزْمِ ، وَاتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ» .
وتتّضح المعطيات التي يفرزها الصلح ـ كما وردت في كلمات الإمام (عليه السلام) ـ حيث تتمتّع القوّات المسلّحة بالهدوء والراحة في ظلّ استقرار الصلح والسلام ، كما يشعر الحاكم بالأمن والاستقرار الروحي وطرد الهموم والغموم ، فيتّجه صوب تنظيم شؤون البلاد ، والأهمّ من كلّ ذلك أنّ أفراد المجتمع يرون تحقّق آمالهم في ظلّ الأمن والسلام .
ثمّ يتطرّق الإمام (عليه السلام) إلى ضرورة عدم الخلود إلى الغفلة عن العدو بعد عقد الصلح; فالعدوّ هو العدو والذي يفكّر دائماً في القضاء على مَن يقف بوجهه . ولعلّ اقتراح الصلح وسيلة لإعادة تنظيم القوى ، وعليه لابدّ للحاكم من الحيطة والحذر وأن يدع لنفسه إساءة الظن بالعدوّ .
(الصفحة 154)
الوفاء بالعهد
يعتبر الوفاء بالعهد والالتزام بالوعود من أعظم الفضائل الإنسانية من وجهة نظر الإسلام ، وقد ورد التأكيد على أنّ الوفاء بالعهد من عرى الإيمان ، وأنّ نقضه يسلب الدين والإيمان ، كما صرّح بذلك القرآن والروايات(1) .
ولا يقتصر هذا المبدأ على الروابط المحلّية بين المسلمين فحسب ، بل على المسلمين أن ينتهجوه حيال الكفّار والأجانب:
«وَإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَدُوِّكَ عُقْدَةً ، أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً ، فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ ، وَارْعَ ذِمَّتَكَ بِالأَمَانَةِ ، وَاجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ شَيْءٌ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اجْتِمَاعاً ، مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ وَتَشَتُّتِ آرَائِهِمْ ، مِنْ تَعْظِيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ ، وَقَدْ لَزِمَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ ، فَلاتَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ ، وَلاَ تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ ، وَلاَ تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ ، فَإِنَّهُ لاَ يَجْتَرِئُ عَلَى اللَّهِ إِلاّ جَاهِلٌ شَقِيٌّ . وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَهْدَهُ وَ ذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ ، وَحَرِيماً يَسْكُنُونَ إِلَى مَنَعَتِهِ ، وَيَسْتَفِيضُونَ إِلَى جِوَارِهِ ، فَلا إِدْغَالَ وَلاَ مُدَالَسَةَ(2) وَلاَ خِدَاعَ فِيهِ . وَلاَ تَعْقِدْ عَقْداً تُجَوِّزُ فِيهِ
- 1 . سأل أبومالك الإمام السجاد (عليه السلام) : أخبرني بجميع شرائع الدِّين ، قال: قول الحقّ ، والحكم بالعدل ، والوفاء بالعهد . الخصال: 113 ح90 ، مستدرك الوسائل: 11 / 316 ، كتاب الجهاد باب وجوب العدل ح1 .
- 2 . إذا كان اللفظ له معنيان والمتكلِّم يقصد المعنى الثاني ، فهذا النوع من الكلام يقال له: التورية .
- إنّنا نقرأ في التاريخ عن سعيد بن جبير أحد أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) ، دخل مكرهاً إلى قصر الحجّاج بن يوسف الثقفي ، فسأله الحجّاج: ما تقول فيَّ؟ فقال سعيد: قاسط عادل ، فقال الحاضرون: ما أحسن ما قال! ظنّوا أنّه وصفه بالقسط والعدل ، قال الحجّاج: يا جَهَلَة سمّاني مشركاً ظالماً ، ثمّ تلا: (وأمّا القاسطون فكانوا لجهنّمَ حطباً) . وقصده من كلمة «عادل» هو العدول عن الحقّ .
- وفي مواضع أُخرى عندما أمر هارون الرشيد بقتل البرامكة أيّام حكومته ، حضرت لديه امرأة من البرامكة تطلب منه المساعدة ، فأمر هارون بإعطائها ، وبعد أن أخذت المال قالت لهارون الرشيد: أقرّ الله عينيك وفرّحك بما آتاك ، حكمتَ بالقسط والعدل . فسألها هارون: من أيّ قبيلة أنتِ؟ قالت: من البرامكة الذين أمرتَ بقتل رجالهم . وبعد أن انصرفت قال هارون للحاضرين: إنّ هذه المرأة كانت تقصد سوءً بكلامها ، فهي تقصد من قولها: «أقرّ» أي استقرّت عيناك وعميت ، ومن قولها: «فرّحك» أي إشارة إلى الآية النازلة بخصوص هذه الدُّنيا ، ومن قولها: «بالقسط» أي الآية (وأمّا القاسطون فكانوا لجهنّم حطباً) ، ومن قولها: «والعدل» أي العدول عن الحقّ والحقيقة .
- اُنظر فيض القدير شرح الجامع الصغير: 2 / 599 .
(الصفحة 155)
الْعِلَلَ ، وَلاَ تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ قَوْل بَعْدَ التَّأْكِيدِ وَالتَّوْثِقَةِ ، وَلاَ يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْر لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اللَّهِ إِلَى طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، فَإِنَّ صَبْرَكَ عَلَى ضِيقِ أَمْر تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وَفَضْلَ عَاقِبَتِهِ خَيْرٌ مِنْ غَدْر تَخَافُ تَبِعَتَهُ ، وَأَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ اللَّهِ فِيهِ طِلْبَةٌ ، لاَ تَسْتَقْبِلُ فِيهَا دُنْيَاكَ وَ لاَ آخِرَتَكَ» .
وهذا هو الاُسلوب الذي سار عليه الأنبياء (عليهم السلام) ، فقد ورد عن الصادق (عليه السلام)بشأن إسماعيل (عليه السلام) بأنّه وعد شخصاً خارج مكّة في منطقة يقال لها: «صفاح» فأقام فيها مدّة ولم يحضر ذلك الشخص ، فطلبه أهل مكّة فلم يجدوه ، حتّى مرّ به رجل فقال له: يا نبيّ الله ، ضعفنا بعدك وهلكنا . فقال (عليه السلام): لقد وعدت فلاناً فلن أبرح حتّى يأتي ، فانطلق إليه الناس وقالوا له: يا عدوّ الله ، وعدتَ نبي الله فأخلفته؟ فانطلق إلى إسماعيل (عليه السلام) وقال: يا نبيّ الله لقد نسيت ميعادك . ثمّ قال الصادق (عليه السلام): ولذلك وصفه الله في كتابه أنّه
{صَادِقَ الْوَعْدِ}(1) ،(2) .
ثمّ قال الصادق (عليه السلام) بشأن رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنّه وعد رجلاً إلى صخرة فقال: أنا لك هاهنا حتّى تأتي قال: فاشتدّت الشمس عليه فقال له أصحابه: يارسول الله (صلى الله عليه وآله)
- 1 . سورة مريم ، الآية 54 .
- 2 . بحار الأنوار: 13 / 390 ح5 .
(الصفحة 156)
لو أنّك تحوّلت إلى الظلّ؟ فقال (صلى الله عليه وآله) قد وعدته إلى هاهنا وإن لم يجئ كان منه المحشر(1) .
ونفهم من هذه الروايات وسائر الأخبار ـ التي وردت عن الأئمّة (عليهم السلام)بخصوص العهد ـ أنّ نقضه يستلزم عواقب وخيمة مدمّرة; لأنّ الإنسان مدني بالطبع ـ كما يصفه الفلاسفةـ وهو دائم البحث عن مدّ الجسور وإقامة العلاقات مع الآخرين ، وأنّ مثل هذه الحياة الاجتماعية تقتضي التزام كلّ فرد بتعهّداته ووعوده ونبذ كافّة العوامل ـ والتي أوجزها الإمام (عليه السلام) بالإدغال والمدالسة والخداع ـ التي من شأنها نقض العهود والإخلال بالوعود ، وإلاّ تصدّع النظام الاجتماعي برمّته .
وهذا هو الذي دفع برجال القانون والحقوق لأن يفردوا عدّة مباحث لموضوع «المعاهدات» حيث يرون ضرورة ربط العلاقات الدولية بهذه المعاهدات ، بهدف إشاعة الأجواء السلمية والتفاهم بين الدول والشعوب; وعلى هذا الأساس أبرم رسول الله (صلى الله عليه وآله)المعاهدات مع المشركين ونصارى نجران وسائر أهل الكتاب والقبائل العربية في الجزيرة .
- 1 . بحار الأنوار: 16 / 239 ح24 .
(الصفحة 157)
انهيار الحكومة بسفك الدماء
لا يؤمن الإسلام على غرار حكومات الشرق والغرب بتشييد صرح الدولة على إراقة الدماء وسفكها ، ويرى أنّ سفك الدم يشكّل اللبنة الأساسيّة في تآكل الحكومة وانتقالها إلى الآخرين .
والنظرة الإسلاميّة إنّما تستند إلى الإيمان الراسخ بكرامة الإنسان ، بل أبعد من ذلك أنّ الإسلام يرى قتل الفرد بمثابة قتل البشرية برمّتها ، وإحياء الفرد إحياءً لكافّة الإنسانية . فقد صرّح القرآن بهذا الخصوص قائلاً:
{مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْس أَوْ فَسَاد فِي الاَْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}(1) .
ويبدو أنّ السرّ في ذلك هو أنّ الإنسان إذا استعدّ لقتل أحد دونما سبب فقد خالف في ذلك أصل ظهور الإنسان والإنسانية وأنّه لا يرى لهذا الكائن من وجود على سطح الأرض ، فليس هنالك من فارق بين قتل زيد و عمرو ، فمن يُقدم عبثاً على قتل زيد لا يتحفّظ عن قتل عمرو ، ولو استطاع لأهلك كلَّ مَن على الأرض .
وقد تبلور هذا الأمر في كلام القرآن الناطق الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)حيث قال:
«إِيَّاكَ وَ الدِّمَاءَ وَ سَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا ، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى لِنِقْمَة ، وَلاَ أَعْظَمَ لِتَبِعَة ، وَ لاَ أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَة ، وَانْقِطَاعِ مُدَّة ، مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ فِيمَا تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ،
- 1 . سورة المائدة ، الآية 32 .