(الصفحة 21)
والاضطراب . وفي ظلّ هذه الأوضاع عمد عمرو بن العاص لشنّ هجومه على مصر .
عمرو معروف بدهائه ومكره وخداعه ، وقد تصدّى لمعاداة علي (عليه السلام)ولم يتورّع عن ممارسة أبشع الأساليب وطرق الغدر والحيلة من أجل إشعال فتيل الحروب وسفك دماء المسلمين . كُلّف من قبل معاوية بمحاربة محمّد بن أبي بكر ـ والي الإمام علي (عليه السلام)على مصر ـ حتّى انتهى الأمر بقتل محمّد ، كما أمر بقتل مالك الأشتر فتمّ له ذلك عن طريق الغدر والحيلة .
لقد اتّجه عمرو بن العاص مع القوافل التجارية ـ إبّان شبابه ـ إلى مصر وسورية ، وعليه فقد كان على علم بأوضاع مصر الداخلية وغناها من حيث الموارد والثروات الطبيعية; ولذلك ما إن تسلّم الخليفة الثاني زمام الاُمور حتّى اقترح عليه ابن العاص عدّة مرّات إصدار أوامره بفتح مصر ، إلاّ أنّه لم يجبه إلى ذلك .
كان والي مصر آنذاك «المقوقس»(1) الذي قدم مصر من القوقاز ، ولذلك كانت تسمّيه العامّة القوقازي . لقد ورد المقوقس أرض مصر بأمر من هرقل الامبراطور البيزنطي فكان نائبه في إدارة شؤون مصر(2) . وكان يتمتّع بقوّة وسطوة هناك . وهو الذي كتب إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام ، فاستقبل مبعوث النبي (صلى الله عليه وآله)استقبالا حارّاً وبعث ببعض الهدايا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ومنها «مارية القبطية» التي ولدت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) إبراهيم الذي توفّي ولمّا يتمّ الرضاعة(3) .
ولمّا تسلّم الخليفة الثاني بعض التقارير بشأن إسراف معاوية وبذخه
- 1 . بامداد اسلام: 84 .
- 2 . تاريخ عرب: 208 .
- 3 . بامداد اسلام: 36 ، 55 ، 84 .
(الصفحة 22)
وإجحافه بالناس عزم على المسير إلى الشام لمعالجة الأمر . أمّا عمرو بن العاص الذي كان يتحيّن الفرص فقد سار خلف الخليفة ليلتقيه سرّاً في بيت المقدس . وهناك أيضاً طرح عليه قضية فتح مصر بعد أن شجّعه على ذلك . فقد قال للخليفة: «أتأذن لي في أن أصير إلى مصر ، فإنّا إن فتحناها كانت قوّة للمسلمين ، وهي من أكثر الأرض أموالا ، وأعجزها عن القتال»(1) . أضف إلى ذلك فقد كان عمرو بن العاص يعظم قيمة مصرفي نظر الخليفة ويحاول إقناعه بسهولة فتحها .
كان عمرو بن العاص لا ينفكّ عن التأكيد على تنامي شوكة الإسلام واتّساع قدرته; إلاّ أنّه كان يهمّ بنفسه في اكتساب المقام والشهرة ، لاسيّما أنّه كان يكنّ مزيداً من الحسد لخالد بن الوليد ويتمنّى أن يكون مثله فينهض بإمرة الجيش ويبدي شجاعته وبسالته في المعارك ، حتّى تحدّث صاحب «تاريخ العرب» عن هذا الأمر في أنّ «عمرو بن العاص كان يتحيّن الفرص ليتفوّق على منافسه اللدود خالد بن الوليد .
فلمّا قدم الخليفة الثاني إلى بيت المقدس ، اغتنم الفرصة ليحقّق أمنيته القديمة ، أي زعامة الجيش في قتال مصر»(2) . طبعاً كان الخليفة يرفض مثل هذا الاقتراح كلّما طرحه عليه عمرو بن العاص ، ويقول بأنّ مصر خاضعة لسيطرة الروم الذين يمتلكون العدّة والعدد ، وسيهبّون للدفاع والمقاومة ، ولا نأمل بفتحها من قبل جند الإسلام بهذه السهولة ، إلاّ أن عمرو بن العاص تمكّن أخيراً من تجهيز جيش قوامه أربعة آلاف جندي ليتأهّب لشنّ المعركة دون علم الخليفة . فلمّا بلغ الخليفة الخبر إستاء استياءً بالغاً بحيث بعث فوراً بعقبة بن عامر ليسلّمه كتابه الذي وصف فيه ابن العاص بأنّه آثم بن آثم ، ثمّ يقرّعه قائلاً: «لم هجمت بهذا العدد القليل من الجنود
- 1 . تأريخ اليعقوبي: 2 / 147 ـ 148 .
- 2 . تاريخ عرب : 206 .
(الصفحة 23)
على مصر وجيوشها الرومية الكثيرة العدّة والعدد؟ فإذا بلغك كتابي هذا ولم تكن وصلت مصر فارجع; وأمّا إن كنت دخلت مصر فتوكّل على الله وتقدّم»(1) .
فأدركه عقبة بن عامر الجهني في مدينة «رفح» ـ التي تبعد مسافة يومين عن عسقلان ـ التي تبعد مسافة شاسعة عن مصر ، فلمّا رآه عمر بن العاص أدرك أنّه رسول الخليفة ويحمل كتابه بعدم الهجوم على مصر ، فلم يكترث له وواصل مسيرته حتّى وطىء قرية في ساحل بحر الروم قرب منطقة «العريش» ـ وهي منطقة على حدود الشام وتعدّ جزءاً من الأراضي المصرية ـ ، وهنا دعا بعقبة فتناول الكتاب وفضّه . فلمّا اطّلع على مضمونه جمع طائفة من جنوده واُمرائه ثمّ سألهم قائلاً: أين نحن الآن؟ أجابوا: في منطقة من مصر . فقال عمرو بن العاص: إذن لابدّ لنا من مواصلة حركتنا ، فالخليفة «أمرني إن أتاني كتابه وقد دخلت شيئاً من أرض مصر ، أن أمضي لوجهي وأستعين بالله» .
فما كان منه إلاّ أن واصل زحفه ودخل مصر ، فاشتبك مع الجيوش الخاضعة لسلطة حاكم مصر . لقد استمر القتال لشهر دون ظفر جيش عمرو بن العاص; فقد كانت الجيوش التي هبّت لمحاربته ـ وكما تكهّن بذلك الخليفة ـ قويّة مجهزة بالعدّة والعدد .
فاضطرّ ابن العاص لأن يكتب إلى الخليفة ويطالبه بالإمدادات ، فجهّز الخليفة جيشاً قوامه اثني عشر ألف مقاتل بقيادة الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود وعبادة بن الصامت ومسلمة بن مخلّد .
وقد اشتدّت عزائم الجيش بحضور أربعة عشر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)من المهاجرين بإمرة الزبير بن العوام وستّة عشر من الأنصار بقيادة عبادة بن
- 1 . تاريخ عرب : 207; تاريخ يعقوبي : 2/148 .
(الصفحة 24)
الصامت ، فاستمر القتال ثلاثة شهور تمكّن بعدها جيش المسلمين من الانتصار والسيطرة على قلاع البلاد . فاضطرّ والي مصر المقوقس لمفاوضة المسلمين ودفع الجزية ، فكانت دينارين لكلّ رجل .(1) ثمّ انطلق الجيش الإسلامي صوب الاسكندرية .
الاسكندرية كانت تضمّ ثلاث قلاع مستحكمة ، كما كان معسكرها يضمّ ما يناهز الخمسين ألف مقاتل ، بينما لم يكن يبلغ عدد المسلمين سوى عشرين ألف مقاتل ، ولم تكن لديهم العدّة والوسائل الحربية الكافية لمحاصرة المدينة . مع ذلك فقد تمّ فتح المدينة سلميّاً ، فقد دفعت الأحداث والاختلافات الداخلية بالناس إلى قبول الجزية وتجنّب القتال . وهكذا استسلمت هذه المدينة المتميّزة في حضارتها ومدنيّتها والتي وصفها عمرو بن العاص بأنّها تشتمل على أربعة آلاف قصر وأربعة آلاف حمّام إلى جانب أربعة آلاف يهودي يدفعون الجزية و . . .(2)
وهكذا وقعت مصر هذه البلاد الغنية بثرواتها ونيلها الكبير في يد المسلمين ليحكمها عمرو بن العاص مدّة أربعة سنين وبضع شهور بعد ذلك الفتح .
حادثتان مهمّتان بعد فتح مصر
لابدّ من الإشارة إلى حادثتين مهمّتين من أجل الوقوف على الموقع الحسّاس لمصر من الناحية السياسية ، والذي حظي باهتمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) :
الحادثة الاُولى : أنّ أهل مصر أدركوا منذ البدء أنّ الوالي الجديد ـ عمرو بن العاص ـ وعمّاله وأعوانه الذين دخلوا البلاد فاتحين ، إنّما يعاملون الناس معاملة سيّئة تهدف إلى تحقيرهم والحطّ من شأنهم ، الأمر الذي أجّج مشاعر الناس
- 1 . تأريخ اليعقوبي: 2 / 148 ، بامداد اسلام: 85 .
- 2 . تأريخ العرب: 211 .
(الصفحة 25)
وجعلهم يشعرون بالاستياء والتذمّر . ومن جانب آخر فإنّ البيزنطيين ـ بعد ثلاث سنوات من فتح الاسكندرية ـ بعثوا بقوّاتهم البحرية على أمل خوض الحرب واستعادة تلك المنطقة ، فما كان من أولئك الناس المتذمّرين إلاّ أن ولّوا ظهورهم للفاتحين المسلمين وفتحوا أبواب المدينة بوجه القوّات البيزنطية وقد سلّموها لهم لقمة سائغة .
طبعاً لم تتمكن القوات البيزنطية من إحكام سيطرتها ، حيث تمكّن عمرو بن العاص بعد مدّة قليلة من استعادة المنطقة ، إلاّ أنّ النتيجة المهمّة التي ينبغي التوصّل إليها هي أنّ مصر أصبحت في الحقيقة بؤرة للتوتّر وكأنّها برميل من البارود يخشى انفجاره في كلّ آن; لأنّ الناس الذين خضعوا لسلطة اليونانيين والرومان وعانوا منهما الأمرّين ، قد عقدوا آمالهم اليوم على هذا الدين الجديد ، ويشقّ عليهم أن يروا ما يسيء إليهم من عمّال وولاة هذا الدين الجديد الفاتح .
الحادثة الثانية: تتعلّق بثورة بعض أهالي مصر الذين تركوا ديارهم إبّان خلافة عثمان ، وجاءوا إلى المدينة ليعربوا عن غضبهم واستيائهم لممارسات عمّاله وولاته ، فقد قام هؤلاء المصريّون بمحاصرة دار عثمان حتّى قتلوه في نهاية الأمر . وهذه الحادثة تشكّل القرينة الثانية على الحسّاسية القصوى للأوضاع السائدة في مصر .
تزايد دور وأهمّية مصر كلّ يوم
بعد فتح الاسكندريّة ثانية سقطت تدريجيّاً كلّ الأراضي المصريّة الخصبة والغنية بيد المسلمين ، ولكنّ هناك أمر جدير بالإشارة إليه ، وهو أنّ كلّ مناطق مصر تقريباً دخلها المسلمون بيسر ودون أيّ صعوبة أو مقاومة تُذكر . وقيل : إنّ السبب في ذلك راجع إلى الاختلافات والصراعات المذهبيّة بين اليعقوبين