(الصفحة 8)
تناقلته الألسن منذ آلاف السنين إلى جانب القرآن الكريم ، وقد أثنى عليه الأعداء فضلا عن الأصدقاء ولم يملكوا سوى التواضع لعظمته؟ وليت شعري كيف ببيان عمق مضامينه وسعة معانيه وقد عيت العقول وذهلت الفحول على مدى العصور والدهور ودوّنت المجلّدات وألّفت الدراسات وخُطّت ملايين الصفحات ورُتّبت العبارات وهُذّبت الصياغات ، في حين ما زالت البشرية تسبح على شواطىء محيطاته ولم ولن تتمكّن من الغوص في أعماقه وسبر أغواره؟ وعليه فلا يسعنا والحالة هذه سوى الاكتفاء بتعريف بسيط مقتضب لهذا الكنز النفيس; أملا بأن تلهمنا العونَ أنفاسه القدسية ليتمكّن الأتباع من التعرّف أكثر على هذا الكتاب العظيم ، ويغترفوا ما أسعدهم الحظّ من بحر علومه و منهله العذب ومفاهيمه السامية النبيلة .
لقد قام العلاّمة الجليل السيّد الرضي (قدس سره) ـ قبل ألف عام ـ بجمع نهج البلاغة ودوّنها بهذا الشكل ، حيث كانت هذه الكلمات متناثرة هنا و هناك قبله ، وقد دوّنت في مختلف الكتب والرسائل .
لقد تضمّن هذا الكتاب الفريد قمّة المعارف والعلوم التي اختزنتها خطبه وأحاديثه ، ووصاياه ورسائله ومواعظه وكلماته القصار إلى جانب تعاليمه السياسية وتفسيره للآيات القرآنية والقوانين والنظم التي تنظّم شؤون الحياة و تنهض بها قدماً للأمام بعبارات جزلة فصيحة و بليغة ، لم ير لها جامعها من اسم أقرب معنى من نهج البلاغة . لقد صنّف هذا النهج منذ عشرة قرون إلى يومنا الحاضر إلى محاور ثلاثة هي: الخطب والرسائل والكلمات القصار ، وقد تميّزت بخصائصها الفريدة التي تروم التعرّف على غيض من فيضها في هذا الكتاب الذي بين أيدينا .
إلى جانب ذلك هناك التصاوير الفنّية الرائعة التي عرضت لحياة الإمام (عليه السلام)
(الصفحة 9)
والأحداث والوقائع التي اعترضت مسيرته والتي ينبغي التوقّف عندها ، بغية الظفر بالدروس والعبر .
ومن هنا فإنّ هذا المنهج يشكّل أعظم مثال وأحسن نموذج لسيرة خليفة النبي (صلى الله عليه وآله)والتي من شأنها إضاءة معالم الطريق لسالكيه ، بعد أن يقتدوا بهذه السيرة الربانية ويقتفوا آثارها في حياتهم العلمية على مستوى القول والعمل .
عهد مالك الأشتر (رضوان الله عليه) (1)
يعتبر العهد الذي عهده الإمام (عليه السلام) لمالك الأشتر ـ حين ولاّه مصر ـ من الوثائق الخالدة التي ميّزت سائر مباحث هذا الكتاب . فقد ظلّت هذه الوثيقة صفحة مشرقة في تأريخ الإسلام و مدرسته الثقافية ، بعد أن دوّنها الإمام (عليه السلام) قبل أربعة عشر قرناً ليحتذي بها تلميذه الوفي في ولايته لمصر ـ تلك الأرض النائية آنذاك ـ من أجل تطبيق أحكام و تعاليم مولاه أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) والتي تمثّل حقيقة الأحكام الإلهية والتعاليم القرآنية .
والإمام (عليه السلام) وإن خاطب واليه الأشتر بهذا العهد وبيّن له الإطار الإسلامي الذي يتكفّل بإرساء حكومة العدل الإلهي في ظلّ القوانين والنظم الإسلاميّة ، إلاّ أنّ الواقع يفيد شمول هذا العهد لكافّة الأفراد وفي كلّ عصر ومصر .
وبعبارة اُخرى: أنّ الوصايا والأحكام التي انطوت عليها هذه الوثيقة هي
- 1 . نحن في هذا الكتاب استفدنا من نهج البلاغة بتصحيح الدكتور صبحي صالح، وقد ذكر عهد الإمام إلى مالك الأشتر برقم: الكتاب 53.
- وقد روي هذا العهد المبارك في تحف العقول: 126 ـ 149 بزيادة بعض الفقرات واختلاف في بعض الألفاظ، وعنه بحار الأنوار: 77 / 238 ـ 267 ح1; وفي دعائم الإسلام 1 / 350 ـ 368 نحوه، وفي نهاية الإرب في فنون الأدب: 6 / 19 ـ 32 باختلاف.
(الصفحة 10)
كالشمس التي ترسل أشعتها على جميع آفاق الأرض بمشارقها ومغاربها ، فأنوارها وحرارتها تتّسع لكافة العصور البشرية على مدى التأريخ ، ولن يشذّ عن هذه القافلة سوى عُمْي البصيرة الذين لا يرون الشمس في رائعة النهار .
لقد انطوى كتابه للأشتر على نظرياته وأفكاره الربّانية واُطروحاته السامية بما يميط اللثام عن حقيقة وظائف كافّة أفراد البشر ، سواء كان هذا الفرد عبداً من عباد الله أو عنصر من عناصر المجتمع أو حاكم يتولّى مسؤولية إجراء الأحكام الإسلامية ، أو فرداً عادياً يعيش في كنف الدولة الإسلامية ويحظى بحماية قوانينها الإلهية .
والواقع أنّ وصاياه (عليه السلام) لمالك الأشتر إنّما هي وصايا للبشرية برمّتها ، فإذا ما طبّقت بحذافيرها ، عاش المجتمع ما يصبو إليه من عدالة اجتماعية وأمن وسلام وسكينة ، والأهمّ من ذلك توفّرت الأرضية الصالحة أمام جميع الأفراد لإصلاح ذواتهم وصنع شخصيتهم الإسلامية التي يسودها العلم والإدراك والإيمان ، ويحول دونهم في الانغماس في الرذائل والمفاسد والانحراف ، حتّى يكونوا عباداً صالحين يتّجهون في مسيرتهم نحو شاطئ الأمان والفلاح .
أجل ، يتكفّل هذا العهد بضمان الرفاهية والسلامة وسعادة الدنيا والآخرة; ولا غرو فقد دعيت الجماعة البشرية بهذا السياق الحماسي إلى عالم الروح والشرف والعلو والكرامة; الدعوة التي ترتكز على دعامة العدالة الاجتماعية و الوقوف بوجه الظلم والعدوان ، وإلى جانب تعميق الحرية وتعزيز الإيمان والمساواة أمام القانون و . . .
ولا نرى هنا من ضرورة للاستغراق أكثر في هذا العهد في هذه المقدّمة ، طالما كرّسنا الكتاب للخوض في هذا العهد وتناوله بالبحث جزءاً فآخر ، وبعد أن ألقينا نظرة إجمالية عليه ـ وهو الغرض المتوخّى من المقدّمة ـ وقبل الدخول في تفاصيل
(الصفحة 11)
هذه الوثيقة الخالدة ، نرى من الضرورة بمكان تسليط الضوء على بعض المقدّمات ذات الصلة بالعهد .
شخصية مالك الأشتر على لسان علي (عليه السلام)
إنّ الخوض في تفاصيل شخصية مالك و بيان أبعاد وخصائص هذا القائد المتألّق في صدر الإسلام والتعرّف عليه عن قرب ، من شأنه جعلنا نقف بصورة أفضل على السبب الذي حدا بالإمام علي (عليه السلام)لتوجيه مثل هذا العهد الفائق الأهمّية والمنقطع النظير ـ وهو العارف قبل غيره بأنّه سيبقى وثيقة تأريخية حيّة خالدة ـ لمالك الأشتر والذي أراد به ـ في الواقع ـ مخاطبة البشرية جمعاء من خلال تحفّظه عن الإتيان باسم مالك في فحوى العهد .
نعم ، لا يصدر مثل هذا الفعل عنه (عليه السلام)عبثا . كما أنّ الشخص الذي يخاطب من قبل الإمام بهذا العهد التأريخي العظيم ، لا بدّ أن يكون فرداً عظيماً ينطوي على خصائص وامتيازات جمة كثيرة . وما أحرانا أن نسمع ما أورده علي (عليه السلام) من كلمات تفصح بجلاء عن رؤيته لهذه الشخصية الفذّة بغية التعرّف عليها والإلمام بعمقها .
نعلم أنّ علياً (عليه السلام) قد اختار مالكاً لولاية مصر إبّان تسلّمه لزمام الاُمور وزعامة الدولة الإسلامية ، كما نعلم أنّه قتل غدراً أثناء حركته إلى مصر بعد أن دسّت له عناصر معاوية السمّ ، على ضوء خطّة مدبّرة أعدّها معاوية مسبقاً ، وبالطبع فإنّ عليّاً (عليه السلام) كان يعلم بأنّ مالكاً سوف لن يبلغ مصر ويطبّق أحكام العهد في تلك الديار ، وأنّه سيلتحق بركب الشهداء ، مع ذلك فلما بلغه خبر شهادة ذلك الصحابي الجليل ، ووقف ـ حسب الظاهر ـ على كيفية قتل مالك ورغم علمه السابق بدقائق الحادثة ، إلاّ أنّه عاش حالة من الحرقة والألم والتأثر الشديد حتّى
(الصفحة 12)
بدا ذلك واضحاً عليه . آنذاك أطلق عبارته بشأن مالك بما يكشف النقاب عن عمق شخصيته . فقد قال (عليه السلام): «لقد كان لي كما كنت لرسول الله (صلى الله عليه وآله)»(1) .
إنّ أدنى تأمّل في هذه العبارة العميقة والعظيمة المغزى للإمام (عليه السلام) يفيد أنّ مالكاًكان شخصية عظيمة فريدة. أو ليست تلك العبارة صادرة عن الإمام المعصوم، أو ليست كلمات المعصومين لا تعرف المبالغة والتهويل ، وكلّ ما يقولونه هو الحقّ والواقع المحض؟ لقدساق الإمام علي (عليه السلام) هذه العبارة بشأن مالك بعيداً عن كلّ مبالغة أو نقص ، بحيث كانت قيمته وحقيقته منه ، كتلك التي كانت له من رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وعليه فالذي نخلص إليه من هذه العبارة البليغة الرائعة أنّ أميرالمؤمنين عليّاً (عليه السلام)كما كان أفضل وأكمل تلميذ للنبيّ (صلى الله عليه وآله) ولم يكن أحد أقرب منه إليه (صلى الله عليه وآله) ، فإنّ مالكاً يتمتّع بنفس هذه الدرجة ، أي أنّه كان أفضل وأكمل تلميذ لمدرسة علي (عليه السلام)وأنّه أقرب فرد إليه ، ولذلك ليس هنالك من وصف ولا مقام يفوق ما أورده أميرالمؤمنين (عليه السلام) بشأنه ، بحيث لا يضاهيه أحد بهذه الدرجة ، كيف لا ولم يقل (عليه السلام)مثل هذه العبارة بحقّ أحد سواه .
شخصية مالك على لسان النبيّ (صلى الله عليه وآله)
العبارة القيّمة الاُخرى التي تكشف النقاب عن عظمة شخصيّة مالك الأشتر ، هي تلك العبارة التي أطلقها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولم يكن حينها يُعرف الشخص الذي قيلت بحقّه هذه العبارة ، وما إن مرّت السنين وتحققت نبوءات رسول الله (صلى الله عليه وآله)ومنها ما تضمّنته هذه العبارة حتّى فهم الجميع بأنّ المعنيّ بها هو مالك الأشتر النخعي .
فقد روي عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري أنّه قال: كنّا يوماً عند
- 1 . شرح نهج البلاغة : 15/98; قاموس الرجال : 8/645 .