(الصفحة 10)
كالشمس التي ترسل أشعتها على جميع آفاق الأرض بمشارقها ومغاربها ، فأنوارها وحرارتها تتّسع لكافة العصور البشرية على مدى التأريخ ، ولن يشذّ عن هذه القافلة سوى عُمْي البصيرة الذين لا يرون الشمس في رائعة النهار .
لقد انطوى كتابه للأشتر على نظرياته وأفكاره الربّانية واُطروحاته السامية بما يميط اللثام عن حقيقة وظائف كافّة أفراد البشر ، سواء كان هذا الفرد عبداً من عباد الله أو عنصر من عناصر المجتمع أو حاكم يتولّى مسؤولية إجراء الأحكام الإسلامية ، أو فرداً عادياً يعيش في كنف الدولة الإسلامية ويحظى بحماية قوانينها الإلهية .
والواقع أنّ وصاياه (عليه السلام) لمالك الأشتر إنّما هي وصايا للبشرية برمّتها ، فإذا ما طبّقت بحذافيرها ، عاش المجتمع ما يصبو إليه من عدالة اجتماعية وأمن وسلام وسكينة ، والأهمّ من ذلك توفّرت الأرضية الصالحة أمام جميع الأفراد لإصلاح ذواتهم وصنع شخصيتهم الإسلامية التي يسودها العلم والإدراك والإيمان ، ويحول دونهم في الانغماس في الرذائل والمفاسد والانحراف ، حتّى يكونوا عباداً صالحين يتّجهون في مسيرتهم نحو شاطئ الأمان والفلاح .
أجل ، يتكفّل هذا العهد بضمان الرفاهية والسلامة وسعادة الدنيا والآخرة; ولا غرو فقد دعيت الجماعة البشرية بهذا السياق الحماسي إلى عالم الروح والشرف والعلو والكرامة; الدعوة التي ترتكز على دعامة العدالة الاجتماعية و الوقوف بوجه الظلم والعدوان ، وإلى جانب تعميق الحرية وتعزيز الإيمان والمساواة أمام القانون و . . .
ولا نرى هنا من ضرورة للاستغراق أكثر في هذا العهد في هذه المقدّمة ، طالما كرّسنا الكتاب للخوض في هذا العهد وتناوله بالبحث جزءاً فآخر ، وبعد أن ألقينا نظرة إجمالية عليه ـ وهو الغرض المتوخّى من المقدّمة ـ وقبل الدخول في تفاصيل
(الصفحة 11)
هذه الوثيقة الخالدة ، نرى من الضرورة بمكان تسليط الضوء على بعض المقدّمات ذات الصلة بالعهد .
شخصية مالك الأشتر على لسان علي (عليه السلام)
إنّ الخوض في تفاصيل شخصية مالك و بيان أبعاد وخصائص هذا القائد المتألّق في صدر الإسلام والتعرّف عليه عن قرب ، من شأنه جعلنا نقف بصورة أفضل على السبب الذي حدا بالإمام علي (عليه السلام)لتوجيه مثل هذا العهد الفائق الأهمّية والمنقطع النظير ـ وهو العارف قبل غيره بأنّه سيبقى وثيقة تأريخية حيّة خالدة ـ لمالك الأشتر والذي أراد به ـ في الواقع ـ مخاطبة البشرية جمعاء من خلال تحفّظه عن الإتيان باسم مالك في فحوى العهد .
نعم ، لا يصدر مثل هذا الفعل عنه (عليه السلام)عبثا . كما أنّ الشخص الذي يخاطب من قبل الإمام بهذا العهد التأريخي العظيم ، لا بدّ أن يكون فرداً عظيماً ينطوي على خصائص وامتيازات جمة كثيرة . وما أحرانا أن نسمع ما أورده علي (عليه السلام) من كلمات تفصح بجلاء عن رؤيته لهذه الشخصية الفذّة بغية التعرّف عليها والإلمام بعمقها .
نعلم أنّ علياً (عليه السلام) قد اختار مالكاً لولاية مصر إبّان تسلّمه لزمام الاُمور وزعامة الدولة الإسلامية ، كما نعلم أنّه قتل غدراً أثناء حركته إلى مصر بعد أن دسّت له عناصر معاوية السمّ ، على ضوء خطّة مدبّرة أعدّها معاوية مسبقاً ، وبالطبع فإنّ عليّاً (عليه السلام) كان يعلم بأنّ مالكاً سوف لن يبلغ مصر ويطبّق أحكام العهد في تلك الديار ، وأنّه سيلتحق بركب الشهداء ، مع ذلك فلما بلغه خبر شهادة ذلك الصحابي الجليل ، ووقف ـ حسب الظاهر ـ على كيفية قتل مالك ورغم علمه السابق بدقائق الحادثة ، إلاّ أنّه عاش حالة من الحرقة والألم والتأثر الشديد حتّى
(الصفحة 12)
بدا ذلك واضحاً عليه . آنذاك أطلق عبارته بشأن مالك بما يكشف النقاب عن عمق شخصيته . فقد قال (عليه السلام): «لقد كان لي كما كنت لرسول الله (صلى الله عليه وآله)»(1) .
إنّ أدنى تأمّل في هذه العبارة العميقة والعظيمة المغزى للإمام (عليه السلام) يفيد أنّ مالكاًكان شخصية عظيمة فريدة. أو ليست تلك العبارة صادرة عن الإمام المعصوم، أو ليست كلمات المعصومين لا تعرف المبالغة والتهويل ، وكلّ ما يقولونه هو الحقّ والواقع المحض؟ لقدساق الإمام علي (عليه السلام) هذه العبارة بشأن مالك بعيداً عن كلّ مبالغة أو نقص ، بحيث كانت قيمته وحقيقته منه ، كتلك التي كانت له من رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وعليه فالذي نخلص إليه من هذه العبارة البليغة الرائعة أنّ أميرالمؤمنين عليّاً (عليه السلام)كما كان أفضل وأكمل تلميذ للنبيّ (صلى الله عليه وآله) ولم يكن أحد أقرب منه إليه (صلى الله عليه وآله) ، فإنّ مالكاً يتمتّع بنفس هذه الدرجة ، أي أنّه كان أفضل وأكمل تلميذ لمدرسة علي (عليه السلام)وأنّه أقرب فرد إليه ، ولذلك ليس هنالك من وصف ولا مقام يفوق ما أورده أميرالمؤمنين (عليه السلام) بشأنه ، بحيث لا يضاهيه أحد بهذه الدرجة ، كيف لا ولم يقل (عليه السلام)مثل هذه العبارة بحقّ أحد سواه .
شخصية مالك على لسان النبيّ (صلى الله عليه وآله)
العبارة القيّمة الاُخرى التي تكشف النقاب عن عظمة شخصيّة مالك الأشتر ، هي تلك العبارة التي أطلقها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولم يكن حينها يُعرف الشخص الذي قيلت بحقّه هذه العبارة ، وما إن مرّت السنين وتحققت نبوءات رسول الله (صلى الله عليه وآله)ومنها ما تضمّنته هذه العبارة حتّى فهم الجميع بأنّ المعنيّ بها هو مالك الأشتر النخعي .
فقد روي عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري أنّه قال: كنّا يوماً عند
- 1 . شرح نهج البلاغة : 15/98; قاموس الرجال : 8/645 .
(الصفحة 13)
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: «ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين»(1). فتدركه في تلك الصحراء ثلّةٌ من الصالحين تُسعد بغسله وتكفينه ودفنه . لم يكن يعلم أحد مَنِ المعني بهذا الكلام . ولم تمضِ مدّة حتّى توفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأصبح عليٌ جليس الدار بعد أن غُصِبت منه الخلافة حتّى وصلت إلى الخليفة الثالث عثمان ، وكما نعلم فإنّ عثمان نفى الصحابي الجليل أباذرّ الغفاري إلى تلك الصحراء القاحلة وسط صحاري مكّة والمدينة ، والّتي تسمّى بالربذة ، فبقي فيها أبوذر مع عائلته ، ولم يبقى له سوى ابنته بعد أن توفّي سائر أفراد عائلته .
ولمّا حضرته الوفاة قالت له ابنته : إنّي وحدي في هذا الموضع ، وأخاف أن تغلبني عليك السباع . فقال : كلاّ إنّه سيحضرني نفر مؤمنون ، فانظري أترين أحداً؟ فقالت : ما أرى أحداً ! قال : ما حضر الوقت ، ثمّ قال : اُنظري ، هل ترين أحداً؟ قالت : نعم أرى ركباً مقبلين ، فقال : الله أكبر ، صدق الله ورسوله ، حوّلي وجهي إلى القبلة ، فإذا حضر القوم فاقرئيهم منّي السلام ، فإذا فرغوا من أمري فاذبحي لهم هذه الشاة ، وقولي لهم : أقسمت عليكم إن برحتم حتّى تأكلوا ، ثمّ قضي عليه ، فأتى القوم ، فقالت لهم الجارية : هذا أبوذرّ صاحب رسول الله قد توفّي ، فنزلوا ، وكانوا سبعة نفر ، فيهم حذيفة بن اليمان ، والأشتر ، فبكوا بكاءً شديداً ، وغسلوه وكفّنوه ، وصلّوا عليه ، ودفنوه . ثمّ قالت لهم : إنّه يقسم عليكم ألاّ تبرحوا حتّى تأكلوا! فذبحوا الشاة ، وأكلوا ، ثمّ حملوا ابنته ، حتّى صاروا بها إلى المدينة(2) .
والذي نخلص إليه هو أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد خصّ مالك الأشتر على أنّه عبدٌ من عباد الله الصالحين ، فهنيئاً لمالك هذا المقام الذي أخبر عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
- 1 . الاستيعاب : 111; الكنى والألقاب : 1/216; قاموس الرجال : 2/738 .
- 2 . تاريخ اليعقوبي: 2 / 173 .
(الصفحة 14)مالك على لسان الأعداء
من الضروري أن نورد ما ذكره معاوية بشأن مالك الأشتر ، «والفضل ما شهدت به الأعداء» عدوّ لا يكنّ سوى الحقد والبغض، وقد تحدّث عن خصمه ، فماذا عساه أن يقول . ذكرنا آنفاً أنّ مالك الأشتر قد قتل بعد أن دسّ له جلاوزة معاوية السمّ ، فلما بلغ معاوية الخبر ، اعتلى المنبر مباشرة ليزفّ لقومه ومَن على شاكلته هذا الخبر السارّ ، فخطب الناس ـ في خطبة طويلة ثمّ عرج على مالك ـ قائلاً:
«أمّا بعد فإنّه كانت لعلي بن أبي طالب يدان يمينان ، قُطعت إحداهما يوم صفّين وهو عمّار بن ياسر ، وقطعت الاُخرى اليوم وهو مالك الأشتر»(1) .
فقد وصفه معاوية ـ جهلا وغفلة ـ بما يبيّن رفعة مقام مالك وعظمة شخصيّته; لأنّ معاوية حين يصف مالك الأشتر على أنّه الذراع الثاني لأمير المؤمنين (عليه السلام) ، فإنّ في ذلك دلالة واضحة على أنّ العدو الغاشم هو الآخر كان يعلم و يذعن بأنّ الأشتر كان من أقرب خواصّ الإمام إليه وأفضلهم عنده .
وهنا نرى من الضرورة بمكان أن نشير إلى موقع تلك الديار التي كانت خاضعة للخلافة الإسلامية ، والتي نصب الإمام علي (عليه السلام) ـ بصفته خليفة المسلمين ـ مالكاً والياً عليها .
ثقافة مصر و حضارتها
يشهد التأريخ بالمكانة المرموقة التي احتلّتها مصر من ناحية العلم والثقافة والحضارة من بين كافّة بلدان العالم آنذاك فضلا عن سائر المناطق والأقاليم
- 1 . تاريخ الطبري : 3/127 ، قاموس الرجال : 8/645 .