(الصفحة 150)
هدفه تطبيق أحكام الله . قرابة الحاكم أيضاً لا ينبغي أن تستغلّ الحاكم لتحقيق أغراضها ومآربها; فإن لم يرعووا وجب على الحاكم أن يجابههم بعدالته ، فيهبّ للدفاع عن حقوق المستضعفين ويجتثّ جذور المستغلّين ويوقفهم عند حدّهم:
«ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وَبِطَانَةً ، فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وَتَطَاوُلٌ وَقِلَّةُ إِنْصَاف فِي مُعَامَلَة ، فَاحْسِمْ مَادَّةَ أُولَئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الأَحْوَالِ .
وَلاَ تُقْطَعَنَّ لأَحَد مِنْ حَاشِيَتِكَ وَحَامَّتِكَ قَطِيعَةً ، وَلاَ يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اعْتِقَادِ عُقْدَة تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيهَا مِنَ النَّاسِ فِي شِرْب أَوْ عَمَل مُشْتَرَك يَحْمِلُونَ مَؤُونَتَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ ، فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذَلِكَ لَهُمْ دُونَكَ ، وَعَيْبُهُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» .
الجميع سواسية أمام القانون
إنّ أحد الاُسس الإسلاميّة الحيوية يكمن في المساواة بين جميع أفراد الأُمّة وأنّهم سواسية أمام القانون . وبناءً على هذا الأساس فإنّ الشارع قد أقرّ عقوبات تشمل الجميع في حالة ارتكاب الجرم بغضّ النظر عن موقعهم الاجتماعي ومدى قربهم وبعدهم عن الحاكم ، فمن يجرم ينتظر العقاب دون هوادة .
أمّا العالم المتحضّر الذي يزعم أنّ قوانينه قد طالت الجميع فلم يخرج هذا الزعم إلى الواقع ولم يكتب له النجاح على مستوى العمل . ففضيحة «واترغيت» من أبشع الجرائم التي عرفتها الدنيا برمّتها ، وقد رأينا كيف كانت اُلعوبة بيد الرئيس الأمريكي «جيرالد فورد» كما أودع «نيكسون» القضية الفلانية طيّ النسيان!!
أمّا في الإسلام فقد رأينا الحاكم الإسلامي الأعلى للدولة الإمام علي (عليه السلام) الذي سرق درعه بينما وقف عاجزاً عن أخذه حين شاهده بيد أحد الناس ، ولم تدعه قدرته وزعامته لسلبه منه ، ولم يكن أمامه من سبيل سوى الترافع إلى القاضي
(الصفحة 151)
أُسوة مع أبسط أفراد الأُمّة ، وقد نهر قاضيه حين لم يعامله بمضمون قانون المرافعات ولم يسوِّ في المعاملة بينه وبين السارق ، وبذلك تتجسّد المساواة العملية التي رفعها الإسلام بشأن السيّد القرشي مع العبد الحبشي ، فقد قال (عليه السلام):
«وَأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ ، وَكُنْ فِي ذَلِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً ، وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وَخَاصَّتِكَ حَيْثُ وَقَعَ ، وَابْتَغِ عَاقِبَتَهُ بِمَا يَثْقُلُ عَلَيْكَ مِنْهُ ، فَإِنَّ مَغَبَّةَ ذَلِكَ مَحْمُودَةٌ» .
تدارك الاُمور
يرى الإسلام ضرورة قيام الثقة المتبادلة بين الحاكم والأُمّة ، فهو يعتقد بعدم إمكانية مواصلة المسيرة الاجتماعية الحيوية دون وجود مثل هذه الثقة . فكما يجب على الحاكم أن يثق برعيّته ويحسن الظنّ بها ، فهي الاُخرى عليها الاعتماد على الحاكم وحسن الظنّ به .
ومن هنا فإذا اشتبهت بعض الاُمور على الأُمّة أحياناً وعلى هامش حدوث العزل والنصب وإبرام العقود وما إلى ذلك ، فأوجب على الحاكم إطلاع الأُمّة وطرد ما يخالج أذهانها من الشكوك ويعتصر في أفكارها:
«وَإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ ، وَاعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ ، وَرِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ ، وَإِعْذَاراً تَبْلُغُ بِهِ حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ» .
والذي نستفيده من هذه الوصية:
1 ـ أنّ المسؤول الذي يرى نفسه ملزماً بتقديم الصورة الصحيحة للناس عن بعض الملابسات إنّما يرى في الواقع أنّ الناس متقدّمون ومتميّزون عليه ، وستؤدّي
(الصفحة 152)
هذه الرؤية ـ وبعبارة اُخرى هذا النوع من التعامل مع الناس ـ إلى أن يتحلّى الوالي بملكة ضبط النفس ، الأمر الذي سيقوده إلى محاربة أهوائه وزلاّته ، إلى جانب مكافحة عثرات وشهوات الآخرين .
2 ـ إزالة الملابسات توجب تعرّف الأُمّة على الحقّ ، وبالتالي التزامها به وبالعدل وعدم التحرّج في بسطهما وإشاعتهما من قبل الأُمّة .
السلام والحياة الوادعة
لقد دعا الإسلام البشرية جمعاء إلى الصلح والسلام ، حتّى تبنّى القرآن شعاره الخالد: «الصلح خير» على أنّه من صميم الأهداف الرسالية ، كما صرّح القرآن به في قوله تعالى:
{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}(1) .
كما دعا عامّة المسلمين للصلح والسلام قائلاً:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}(2) .
فالآيتان الكريمتان وسائر الآيات الواردة بشأن روابط المسلمين بالكفّار ، إلى جانب السيرة النبوية العطرة ، تفيد أنّ الصلح والسلام هو الركيزة الأساسية التي شيّدت عليها صروح السياسة الخارجية والداخلية للإسلام .
وبناءً على هذا فإنّ الحاكم الإسلامي مدعوّ للاستجابة للصلح والسلام ونبذ الحرب والقتال متى تقدّم العدوّ بذلك .
ولكن ينبغي هنا طرح هذا السؤال: هل يقرّ الإسلام السلام بصورة مطلقة دون قيودأو شروط، أم هناك شروط معيّنة ينبغي أن ينطوي عليهاالصلح والسلام؟
- 1 . سورة الأنفال ، الآية 61 .
- 2 . سورة البقرة ، الآية 208 .
(الصفحة 153)
يجمع كافّة فقهاء الشيعة على أنّ الشرط الأساسي في الصلح أن يكون لصالح الإسلام والمسلمين ، ولا يجوز الصلح إذا كان يضرّ بالإسلام والمسلمين ، ويؤدّي بهم إلى الوهن والضعف; ولذلك قال (عليه السلام):
«وَلاَ تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ ولِلَّهِ فِيهِ رِضًا ، فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ ، وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ ، وَأَمْناً لِبِلادِكَ ، وَلَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ ، فَخُذْ بِالْحَزْمِ ، وَاتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ» .
وتتّضح المعطيات التي يفرزها الصلح ـ كما وردت في كلمات الإمام (عليه السلام) ـ حيث تتمتّع القوّات المسلّحة بالهدوء والراحة في ظلّ استقرار الصلح والسلام ، كما يشعر الحاكم بالأمن والاستقرار الروحي وطرد الهموم والغموم ، فيتّجه صوب تنظيم شؤون البلاد ، والأهمّ من كلّ ذلك أنّ أفراد المجتمع يرون تحقّق آمالهم في ظلّ الأمن والسلام .
ثمّ يتطرّق الإمام (عليه السلام) إلى ضرورة عدم الخلود إلى الغفلة عن العدو بعد عقد الصلح; فالعدوّ هو العدو والذي يفكّر دائماً في القضاء على مَن يقف بوجهه . ولعلّ اقتراح الصلح وسيلة لإعادة تنظيم القوى ، وعليه لابدّ للحاكم من الحيطة والحذر وأن يدع لنفسه إساءة الظن بالعدوّ .
(الصفحة 154)
الوفاء بالعهد
يعتبر الوفاء بالعهد والالتزام بالوعود من أعظم الفضائل الإنسانية من وجهة نظر الإسلام ، وقد ورد التأكيد على أنّ الوفاء بالعهد من عرى الإيمان ، وأنّ نقضه يسلب الدين والإيمان ، كما صرّح بذلك القرآن والروايات(1) .
ولا يقتصر هذا المبدأ على الروابط المحلّية بين المسلمين فحسب ، بل على المسلمين أن ينتهجوه حيال الكفّار والأجانب:
«وَإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَدُوِّكَ عُقْدَةً ، أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً ، فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ ، وَارْعَ ذِمَّتَكَ بِالأَمَانَةِ ، وَاجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ شَيْءٌ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اجْتِمَاعاً ، مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ وَتَشَتُّتِ آرَائِهِمْ ، مِنْ تَعْظِيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ ، وَقَدْ لَزِمَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ ، فَلاتَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ ، وَلاَ تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ ، وَلاَ تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ ، فَإِنَّهُ لاَ يَجْتَرِئُ عَلَى اللَّهِ إِلاّ جَاهِلٌ شَقِيٌّ . وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَهْدَهُ وَ ذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ ، وَحَرِيماً يَسْكُنُونَ إِلَى مَنَعَتِهِ ، وَيَسْتَفِيضُونَ إِلَى جِوَارِهِ ، فَلا إِدْغَالَ وَلاَ مُدَالَسَةَ(2) وَلاَ خِدَاعَ فِيهِ . وَلاَ تَعْقِدْ عَقْداً تُجَوِّزُ فِيهِ
- 1 . سأل أبومالك الإمام السجاد (عليه السلام) : أخبرني بجميع شرائع الدِّين ، قال: قول الحقّ ، والحكم بالعدل ، والوفاء بالعهد . الخصال: 113 ح90 ، مستدرك الوسائل: 11 / 316 ، كتاب الجهاد باب وجوب العدل ح1 .
- 2 . إذا كان اللفظ له معنيان والمتكلِّم يقصد المعنى الثاني ، فهذا النوع من الكلام يقال له: التورية .
- إنّنا نقرأ في التاريخ عن سعيد بن جبير أحد أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) ، دخل مكرهاً إلى قصر الحجّاج بن يوسف الثقفي ، فسأله الحجّاج: ما تقول فيَّ؟ فقال سعيد: قاسط عادل ، فقال الحاضرون: ما أحسن ما قال! ظنّوا أنّه وصفه بالقسط والعدل ، قال الحجّاج: يا جَهَلَة سمّاني مشركاً ظالماً ، ثمّ تلا: (وأمّا القاسطون فكانوا لجهنّمَ حطباً) . وقصده من كلمة «عادل» هو العدول عن الحقّ .
- وفي مواضع أُخرى عندما أمر هارون الرشيد بقتل البرامكة أيّام حكومته ، حضرت لديه امرأة من البرامكة تطلب منه المساعدة ، فأمر هارون بإعطائها ، وبعد أن أخذت المال قالت لهارون الرشيد: أقرّ الله عينيك وفرّحك بما آتاك ، حكمتَ بالقسط والعدل . فسألها هارون: من أيّ قبيلة أنتِ؟ قالت: من البرامكة الذين أمرتَ بقتل رجالهم . وبعد أن انصرفت قال هارون للحاضرين: إنّ هذه المرأة كانت تقصد سوءً بكلامها ، فهي تقصد من قولها: «أقرّ» أي استقرّت عيناك وعميت ، ومن قولها: «فرّحك» أي إشارة إلى الآية النازلة بخصوص هذه الدُّنيا ، ومن قولها: «بالقسط» أي الآية (وأمّا القاسطون فكانوا لجهنّم حطباً) ، ومن قولها: «والعدل» أي العدول عن الحقّ والحقيقة .
- اُنظر فيض القدير شرح الجامع الصغير: 2 / 599 .