(الصفحة 155)
الْعِلَلَ ، وَلاَ تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ قَوْل بَعْدَ التَّأْكِيدِ وَالتَّوْثِقَةِ ، وَلاَ يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْر لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اللَّهِ إِلَى طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، فَإِنَّ صَبْرَكَ عَلَى ضِيقِ أَمْر تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وَفَضْلَ عَاقِبَتِهِ خَيْرٌ مِنْ غَدْر تَخَافُ تَبِعَتَهُ ، وَأَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ اللَّهِ فِيهِ طِلْبَةٌ ، لاَ تَسْتَقْبِلُ فِيهَا دُنْيَاكَ وَ لاَ آخِرَتَكَ» .
وهذا هو الاُسلوب الذي سار عليه الأنبياء (عليهم السلام) ، فقد ورد عن الصادق (عليه السلام)بشأن إسماعيل (عليه السلام) بأنّه وعد شخصاً خارج مكّة في منطقة يقال لها: «صفاح» فأقام فيها مدّة ولم يحضر ذلك الشخص ، فطلبه أهل مكّة فلم يجدوه ، حتّى مرّ به رجل فقال له: يا نبيّ الله ، ضعفنا بعدك وهلكنا . فقال (عليه السلام): لقد وعدت فلاناً فلن أبرح حتّى يأتي ، فانطلق إليه الناس وقالوا له: يا عدوّ الله ، وعدتَ نبي الله فأخلفته؟ فانطلق إلى إسماعيل (عليه السلام) وقال: يا نبيّ الله لقد نسيت ميعادك . ثمّ قال الصادق (عليه السلام): ولذلك وصفه الله في كتابه أنّه
{صَادِقَ الْوَعْدِ}(1) ،(2) .
ثمّ قال الصادق (عليه السلام) بشأن رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنّه وعد رجلاً إلى صخرة فقال: أنا لك هاهنا حتّى تأتي قال: فاشتدّت الشمس عليه فقال له أصحابه: يارسول الله (صلى الله عليه وآله)
- 1 . سورة مريم ، الآية 54 .
- 2 . بحار الأنوار: 13 / 390 ح5 .
(الصفحة 156)
لو أنّك تحوّلت إلى الظلّ؟ فقال (صلى الله عليه وآله) قد وعدته إلى هاهنا وإن لم يجئ كان منه المحشر(1) .
ونفهم من هذه الروايات وسائر الأخبار ـ التي وردت عن الأئمّة (عليهم السلام)بخصوص العهد ـ أنّ نقضه يستلزم عواقب وخيمة مدمّرة; لأنّ الإنسان مدني بالطبع ـ كما يصفه الفلاسفةـ وهو دائم البحث عن مدّ الجسور وإقامة العلاقات مع الآخرين ، وأنّ مثل هذه الحياة الاجتماعية تقتضي التزام كلّ فرد بتعهّداته ووعوده ونبذ كافّة العوامل ـ والتي أوجزها الإمام (عليه السلام) بالإدغال والمدالسة والخداع ـ التي من شأنها نقض العهود والإخلال بالوعود ، وإلاّ تصدّع النظام الاجتماعي برمّته .
وهذا هو الذي دفع برجال القانون والحقوق لأن يفردوا عدّة مباحث لموضوع «المعاهدات» حيث يرون ضرورة ربط العلاقات الدولية بهذه المعاهدات ، بهدف إشاعة الأجواء السلمية والتفاهم بين الدول والشعوب; وعلى هذا الأساس أبرم رسول الله (صلى الله عليه وآله)المعاهدات مع المشركين ونصارى نجران وسائر أهل الكتاب والقبائل العربية في الجزيرة .
- 1 . بحار الأنوار: 16 / 239 ح24 .
(الصفحة 157)
انهيار الحكومة بسفك الدماء
لا يؤمن الإسلام على غرار حكومات الشرق والغرب بتشييد صرح الدولة على إراقة الدماء وسفكها ، ويرى أنّ سفك الدم يشكّل اللبنة الأساسيّة في تآكل الحكومة وانتقالها إلى الآخرين .
والنظرة الإسلاميّة إنّما تستند إلى الإيمان الراسخ بكرامة الإنسان ، بل أبعد من ذلك أنّ الإسلام يرى قتل الفرد بمثابة قتل البشرية برمّتها ، وإحياء الفرد إحياءً لكافّة الإنسانية . فقد صرّح القرآن بهذا الخصوص قائلاً:
{مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْس أَوْ فَسَاد فِي الاَْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}(1) .
ويبدو أنّ السرّ في ذلك هو أنّ الإنسان إذا استعدّ لقتل أحد دونما سبب فقد خالف في ذلك أصل ظهور الإنسان والإنسانية وأنّه لا يرى لهذا الكائن من وجود على سطح الأرض ، فليس هنالك من فارق بين قتل زيد و عمرو ، فمن يُقدم عبثاً على قتل زيد لا يتحفّظ عن قتل عمرو ، ولو استطاع لأهلك كلَّ مَن على الأرض .
وقد تبلور هذا الأمر في كلام القرآن الناطق الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)حيث قال:
«إِيَّاكَ وَ الدِّمَاءَ وَ سَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا ، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى لِنِقْمَة ، وَلاَ أَعْظَمَ لِتَبِعَة ، وَ لاَ أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَة ، وَانْقِطَاعِ مُدَّة ، مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ فِيمَا تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ،
- 1 . سورة المائدة ، الآية 32 .
(الصفحة 158)
فَلاتُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَم حَرَام ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَيُوهِنُهُ ، بَلْ يُزِيلُهُ وَيَنْقُلُهُ . وَلاَ عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اللَّهِ وَلاَ عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمْدِ; لأَنَّ فِيهِ قَوَدَ الْبَدَنِ ، وَإِنِ ابْتُلِيتَ بِخَطَإ وَأَفْرَطَ عَلَيْكَ سَوْطُكَ أَوْ سَيْفُكَ أَوْ يَدُكَ بِالْعُقُوبَةِ ، فَإِنَّ فِي الْوَكْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً ، فَلاتَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ» .
ويتّضح من كلامه (عليه السلام) أمران رئيسيّان:
1 ـ يرى الإمام (عليه السلام) أنّ أكبر أثر وضعي لسفك الدماء بغير حقّ هو انهيار الحكومات وزوالها ، وأفضل دليل على ما أورده الإمام (عليه السلام) ما لمسته الأُمّة الإيرانية المسلمة من انهيار حكومة الاُسرة الشاهنشاهية ـ الملكيّة ـ المقبورة إثر الدماء الطاهرة التي أراقتها ، فلم تظفر إلاّ باللعنات التي تطاردها صباح مساء وفي الآخرة عذاب أليم .
2 ـ لا يرى أدعياء حقوق الإنسان شرعية القصاص الذي وصفه القرآن(1)بأنّه الوسيلة الضرورية لحفظ الحياة الإنسانية وصونها من الاقتتال ، ويرونه يتناقض مع هذه الحقوق ، الأمر الذي جعلهم يعزفون ليلاً و نهاراً على وتر انتهاك إيران الإسلام لحقوق الإنسان .
إلاّ أنّ السؤال الذي ينبغي طرحه هنا: ما هذه الحقوق التي يتحدّث عنها هؤلاء؟ ومَن هو الإنسان المعنيّ بهذه الحقوق؟ فهل يستحقّ إسم الإنسان من يشهر سلاحه في وضح النهار ليفتك بالأطفال والشيوخ ويحرق الأخضر واليابس؟ وهل هناك من حقوق لمن يزرع القنابل في الأزقّة والأسواق والطرقات ويفجِّر منشآت نقل الركّاب فيودي بحياة النساء والأطفال ويحيل أجسادهم رماداً؟
- 1 . (وَلَكُمْ فِى الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِى اْلأَلْبابِ) سورة البقرة، الآية 179 .
(الصفحة 159)
فهل نعتبر مَن يقوم بهذه الجرائم البشعة والجنايات القذرة ، إنساناً ، ولو اعتبرناه إنساناً ذا حقوق فما بالك بحقوق أولئك الأفراد الذين يمزّق أجسادهم بقنابل غدره؟ فإذا كان الاقتصاص من القاتل الذي يؤدّي بحياة العشرات من الأبرياء وتطهير المجتمع من دنسه يعدّ عملاً وحشياً وغير إنساني ، فهل من تبرير وتوجيه لقتل الأطفال والنساء والشيوخ الذين لا يعرفون حتّى قاتلهم وهدفه من ذلك القتل؟ أليست هذه الأفعال الشنيعة والجرائم البشعة تتناقض والإنسانية؟ أفلا يتمتّع ضحايا هؤلاء المجرمين بقيمة وحقوق إنسانية معتبرة ، وليست هناك من حقوق سوى لذلك القاتل أقرّتها له الدول الكبرى؟ وهل للحكومة الإسلاميّة أن تستجيب لهذه الحقوق المضحكة والتي تدعو للسخرية فتحترم حقوق القتلة وتسهر على توفير الدعم لهم وتولّي ظهرها للضحايا الأبرياء؟
وهذه هي الخزعبلات التي كانت تضطرّ الشهيد المظلوم الدكتور السيّد البهشتي لعقد المؤتمرات والندوات للردّ على الشكوك والشبهات التي تثار بشأن القصاص .
وعوداً على بدء فإنّ الإمام علي (عليه السلام) واستلهاماً من القرآن أكّد على ضرورة اعتماد القصاص حتّى بالنسبة لأقرب مقرّبيه من قبيل مالك الأشتر .
علاج مرض العجب
تعرّضنا سابقاً إلى أنّ أحد الأمراض الأخلاقية ـ التي قد تجد طريقها إلى مسؤولي الدولة ـ يكمن في العجب والاغترار بالنفس . ونحاول أن نطرح أسلوب علاج هذا المرض من وجهة النظر الفلسفية:
إنّ أحد المباحث المهمّة التي تثيرها الفلسفة مبحث رابطة ممكن الوجود