(الصفحة 160)
بواجب الوجود ، والمراد بممكن الوجود الإنسان وكافّة ظواهر العالم التي يتساوى وجودها وعدمها ، أمّا واجب الوجود فهوالله سبحانه الغني بالذات .
وهناك جوابان بشأن الرابطة بين واجب الوجود وممكن الوجود ، ويمكن القول بنظرة سطحية عابرة: أنّ الإنسان وسائر الكائنات عبارة عن «شيء له الربط» وهو محتاج قد اكتسب وجوده من واجب الوجود ، والأعمق من ذلك ما أورده الفيلسوف المعروف صدر المتألّهين حيث قال: رابطة ممكن الوجود بواجب الوجود هي أنّ ممكن الوجود ليس شيء له الربط ، بل «هو عين الربط»(1) .
فإذا كانت هذه هي رابطة الإنسان بخالقه ، فأنّى له بالعجب والاغترار بذاته ، وهو يسمع القرآن يهتف به آناء الليل والنهار:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ}(2) ويقرّ بأنّ «لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه»؟(3) .
إذن فأفضل علاج للاستكبار أن يضع نصب عينيه رابطته باللّه ، ويقف على مدى فقره وحاجته أمام الذات الغنية المطلقة ليرى هل العجب إلاّ شعور بالبلاهة والحماقة! ثمّ ألم يقل الحقّ: «الكبرياء ردائي»؟(4) أو ليس المتكبِّر يرى نفسه بمصافّ الله؟ أو ليس هذا من الشرك الخفي؟ ولذلك يحذّر الإمام (عليه السلام) مالكاً من العواقب المشؤومة التي يخلّفها العجب والتكبّر:
«وَإِيَّاكَ وَالإِعْجَابَ بِنَفْسِكَ ، وَالثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا وَحُبَّ الإِطْرَاءِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ ،
- 1 . الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة: 1 / 327 ـ 331 .
- 2 . سورة فاطر ، الآية 15 .
- 3 . الكافي: 2 / 425 و521 و523 و525 و530 و . . .
- 4 . المسند لابن حنبل: 3 / 315 ح8903 وص390 ح9370، النهاية في غريب الحديث: 1/44، الترغيب والترهيب: 3 / 563 ح41،بحار الأنوار:1/152 وج49/13 ، وج73/192 و195 و210 وج 87 / 302.
(الصفحة 161)
وَإِيَّاكَ وَالْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ ، أَوِ التَّزَيُّدَ فِيمَا كَانَ مِنْ فِعْلِكَ ، أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ ، فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الإِحْسَانَ ، وَالتَّزَيُّدَ يَذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ ، وَالْخُلْفَ يُوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَ اللَّهِ وَالنَّاسِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لاتَفْعَلُونَ} (1)» .
فما إن يفرغ الإمام (عليه السلام) من تصوير بشاعة الاستكبار حتّى يتعرّض إلى ثلاثة مواضيع:
* الأوّل: المِنّة
لقد أدانت التعاليم الإسلاميّة «المنّة» كيفما كانت ، سواء منّة الناس على بعضهم البعض أو منّة الدولة على الأُمّة; وذلك لأنّه:
أوّلاً: أنّ الإنفاق والصدقة ـ وبعبارة اُخرى مساعدة الآخرين ـ إنّما تهدف إلى انتشال الفقراء والمعوزين من ضائقتهم المادّية والتحفيف من توتّراتهم الروحية من خلال تلبية حاجاتهم المعيشيّة ، فإذا استبطنت المنّة هذا الإنفاق والصدقة فإنّها سوف لن تقضي على الهدف المذكور فحسب ، بل ستسدّد ضربة موجعة لروح الفقراء والمحتاجين .
وثانياً: ما تقدّمه الدولة من خدمات للاُمّة إنّما يمثِّل وظيفة لايمكن المنّة بها على أحد .
وثالثاً: أنّ الإنفاق والبذل لابدّ أن يكتسب صبغة ربّانية ، أمّا المنّة فهي تفيد أنّ العمل مجرّد من تلك الصبغة .
ورابعاً: لم يمنّ الله على عباده رغم إغداقه لكافّة النِّعم سوى نعمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)والإسلام ، فلو منّ أحد على آخر إثر إحسان أسداه إليه فإنّ ذلك يفيد أنّه يرى
- 1 . سورة الصفّ ، الآية 3 .
(الصفحة 162)
استقلاليه لنفسه وأنّ النعمة صادرة منه ، والحال أنّنا نقرّ بأنّ مالك الكون كلّه هو الله: «لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه» وهو منه:
{إِنَّا للهِِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}(1) .
* الثاني: خُلف الوعد
يرى الإسلام أنّ خلف الوعد بحكم التنصّل من الدين والإيمان . وقد قال القرآن بهذا الشأن:
{كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} وبالمقابل فإنّ الوفاء بالعهد من علامات الإيمان والالتزام بالتعاليم الإسلاميّة . فإذا وعد المسؤول الأُمّة وعداً ونقضه ، فإنّ ضرر ذلك سيصيب الدولة إلى جانب مؤاخذته من الله .
وعليه فالأفضل أن يعد المسؤولون الاُمّة بما يستطيعوا الوفاء به والتحفّظ عن سائر الوعود والعهود .
* الثالث: المبالغة
تتمتّع الحقيقة وكلّ ما يمتّ لها بصلة بنور خاصّ ، ولذلك فإنّ الفرد الذي يكذب ـ على سبيل المثال ـ يعيش العذاب في أعماقه وضميره ويغطّ في ظلمات قاتمة ، بينما يفيض الصادق نوراً وإشراقاً .
وعلى هذا الأساس فإنّ قول ما يمكن تحقّقه لا ينفّر الناس ، بل يشدّهم ما يشاهدونه من نور إلى الحقيقة ، وعليه فلا يليق بالدولة الإسلاميّة أن تبالغ لدى الأُمّة بشأن الأعمال التي قامت بها; لأنّ الأُمّة تعشق الحقيقة حين تلمس الأشياء حسب واقعها ، بينما تعتبر المسؤولين حفنة من الخونة وعديمي الإيمان بالمبادئ الإسلاميّة إذا شعروا بالمبالغة وتضخيم الاُمور .
- 1 . سورة البقرة ، الآية 156 .
(الصفحة 163)
القرار الناجح
يكمن سرّ الانتصار في اتّخاذ المسؤولين للقرارات الحاسمة ، فإذا اتّخذ المسؤول قراره الحاكم بوقته كان ناجحاً ، وإلاّ كان فاشلاً متخبّطاً .
وبناءاً على ذلك فإنّ المسؤول ينبغي أن يتحرّك بادئ ذي بدء استناداً إلى هدف معيّن واضح ، فإذا توفّرت الظروف اللازمة اتّخذ قراره دون تردّد أو إبطاء ، وبالطبع فإنّ القرار إنّما يكون قاطعاً صائباً إذا اتّخذ في الوقت المناسب إلى جانب توفّر الشروط المذكورة:
«وَإِيَّاكَ وَالْعَجَلَةَ بِالأُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا ، أَوِ التَّسَقُّطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا ، أَوِ اللَّجَاجَةَ فِيهَا إِذَا تَنَكَّرَتْ ، أَوِ الْوَهْنَ عَنْهَا إِذَا اسْتَوْضَحَتْ ، فَضَعْ كُلَّ أَمْر مَوْضِعَهُ ، وَأَوْقِعْ كُلَّ أَمْر مَوْقِعَهُ» .
ويمكننا أن نقف على عمق أهمّية الوقت فيما لو تأمّلنا الصلوات الخمس اليومية ، بحيث يُضحّى بأغلب الشرائط من أجل الوقت ، فعلى سبيل المثال لو تعذر الماء أمكن التيمّم للصلاة ولكن في وقت الصلاة لا خارجه ، وهكذا ضرورة الالتفات لمسألة الوقت في سائر العبادات ، كالحجّ الذي يجب أن تُؤدّى مناسكه في أوقات معيّنة ، والصوم في شهر رمضان . وكلّ هذه المقرّرات الشرعية إنّما تفيد أهمّية الوقت وعمق الأضرار التي يخلّفها عدم الالتفات إليه ، وقد قال الإمام أبو محمّد الحسن العسكري (عليه السلام): . . . . فلا تعجل على ثمرة لم تدرك ، وإنّما تنالها في أوانها ، واعلم أنّ المدبّر لك أعلم بالوقت الذي يصلح حالك فيه ، فثق بخيرته في جميع اُمورك يصلح حالك ، ولا تعجل بحوائجك قبل وقتها ، فيضيق قلبك وصدرك ويخشاك القنوط ، واعلم . . .(1) .
- 1 . أعلام الدين: 313 ، بحار الأنوار: 78 / 378 ح4 .
(الصفحة 164)
ذكر الآخرة يقمع هوى النفس
لا شكّ أنّ الآخرة ثمرة مزرعة الدنيا وحصيلة جهودها ، وفيها تتجلّى الخصال والسلوكية الإنسانية ، وعلى الحاكم ـ وكلّ إنسان ـ أن يقمع أهواءه وطغيان غرائزه من خلال التفكير بالآخرة والحركة باتّجاه الإسلام والقرآن:
«وَإِيَّاكَ وَالاسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ ، وَالتَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ ، فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَيْرِكَ ، وَعَمَّا قَلِيل تَنْكَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ الأُمُورِ ، وَيُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ ، امْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ ، وَسَوْرَةَ حَدِّكَ ، وَسَطْوَةَ يَدِكَ ، وَغَرْبَ لِسَانِكَ ، وَاحْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ بِكَفِّ الْبَادِرَةِ ، وَتَأْخِيرِ السَّطْوَةِ ، حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُكَ فَتَمْلِكَ الاخْتِيَارَ ، وَلَنْ تَحْكُمَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِكَ حَتَّى تُكْثِرَ هُمُومَكَ بِذِكْرِ الْمَعَادِ إِلَى رَبِّكَ» .
والذي نستفيده من كلامه (عليه السلام) ما يلي
1 ـ أنّ الاستبداد يتسلّل إلى الحاكم أسرع من سائر الأفراد العاديين ، وبالاستناد لما يمتلكه من إمكانات فليست هنالك من قوّة يمكنها الوقوف بوجه ذلك الاستبداد سوى قوّة الورع والتقوى ، وعليه فالحاكم مطالَب أكثر من غيره من الأفراد بالتحلّي بالتقوى .
2 ـ ما كان للناس يجب توزيعه بالسوية عليهم ، وليس للحاكم أن ينفرد بالأموال العامّة ، أو يخصّ بها ثلّة معيّنة من الناس; فإن فعل الحاكم مثل ذلك كان عمله ظلماً وسيدفع ثمنه باهضاً في محكمة العدل الإلهي .
3 ـ يُعدّ احترام الرأي العام من الوظائف الخاصّة للحاكم الشعبي .