(الصفحة 28)
آنذاك ، ولذلك ما إن استقرّت حكومته حتّى بذل جهده من أجل تنظيم أوضاع مصر وإعادتها إلى مجاريها الطبيعية .
فكانت أوّل خطوة اتّخذها علي (عليه السلام) بهذا الشأن أن اختار أحد ثقاته وهو «قيس بن سعد بن عبادة» ليولّيه مصر، ولم يكد قيس يصل مصر ويتصدّى لولايتها، حتّى رأى معاوية ـ الذي كان يطمع بمصر و يحلم بضمّها إلى نفوذه ، إلى جانب عدائه المعروف لأمير المؤمنين (عليه السلام) ومحاولته إثارة الفتن والبلابل ـ الفرصة مناسبة ، فانتهزها ليكتب رسالة إلى قيس يقترح عليه فيها التخلّي عن علي (عليه السلام)ومبايعته .
وقد نمّق معاوية رسالته بمختلف الحيل والخدع والأساليب الرذيلة الرخيصة ، فقد أغرى قيساً من جانب ومنّاه بوعود ضخمة معسولة ، كما اتّهم من جانب آخر عليّاً (عليه السلام) بالضلوع في قتل عثمان و لم يتورّع عن وصفه بالقاتل في رسالته .
إلاّ أنّ هذه الترّهات لم يكن لها أدنى تأثير على قيس ولم تحرفه عن طريقه قيد أنملة ، غير أنّ قيساً الذي ورد مصر لتوّه ولم يكن على علم بأوضاعها ولم يتمكّن من السيطرة عليها ، إلى جانب حداثة حكومة علي (عليه السلام) ، فهو كان لا يعلم بكيفية التعامل مع مثل هذه الخدع بغية عدم زلزلة أركان الحكومة الإسلامية ، الأمر الذي جعله لا يردّ بصراحة على اقتراح معاوية ، فكتب له رسالة جوابية ذات وجهين كي لاتكون ذريعة تمكّن معاوية من استغلالها ، فما كان من معاوية إلاّ أن كتب رسالة ثانية لجأ فيها إلى الترهيب بدلا من الترغيب فقد توعّد قيساً وهدّده بالبيعة له . فلم يكن أمام قيس من سبيل سوى أن ردّ على رسالته بشدّة وأعلن فيها عن مدى وفائه لعلي (عليه السلام)حيث خاطبه قائلاً: «أمّا بعد ، فإنّما أنت وثن من أوثان مكّة ،
(الصفحة 29)
دخلت في الإسلام كارهاً وخرجت منه طائعاً»(1) . فلمّا وصلت رسالته إلى معاوية واطّلع عليها ويئس من قيس ، عاود حيلته مرة اُخرى ، فزوّر رسالة نسبها إلى قيس وضمّ إليها الرسالة السابقة ، ثمّ أعلن أمام الملأ من الشام: أنّ قيساً رسول علي إلى مصر قد انصرف عن مولاه وبايعني(2) .
فبلغ الخبر أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) فحزنوا حزناً شديداً وكثر اللغط بينهم ، فأصرّ بعض أصحابه ـ ولا سيما عبدالله بن جعفر ـ على إخماد نار الفتنة وعزل قيس عن ولاية مصر ، إلاّ أنّه لم يوافقهم (عليه السلام) قائلاً: هناك خدعة ، وإنّي لأعرف قيساً ولا يصدر منه مثل هذا الكلام ، ولا أراه سوى تهمة . مع ذلك فقد دفعت الأجواء والضجيج آنذاك بالإمام ـ رغم ثقته بقيس ـ إلى عزله عن مصر واستبداله بمحمّد بن أبي بكر(3) فلمّا بلغ محمّد بن أبي بكر مصر وتولّى ولايتها ، كتب لأميرالمؤمنين (عليه السلام)رسالة طلب فيها من الإمام أن يكتب له كتاباً يبّين له فيه وظائفه ويضمّنه الأحكام الإسلامية والحلال والحرام ليعتمدها في حكومته دون الخروج عن هذه الأحكام . فكتب (عليه السلام)رسالة مفصّلة ضمّنها توجيهاته ومواعظه ، وهي
- 1 . تاريخ اليعقوبي 2 : 187 .
- 2 . تاريخ الطبري : 3/64 ـ 66 .
- 3 . لعلّ هنالك من يقول: أفيمكن للإمام (عليه السلام) أن يعزل قيساً من منصبه الذي يستحقّه رغم علمه ببراءته واتّهامه بالباطل استجابةً للأجواء التي أثارها بعض أصحابه؟ نقول: بلى ، هذه هي السياسة الصائبة والجدّية بغية حفظ كيان الإسلام ، والحيلولة دون الفوضى التي من شأنها أن تؤدّي إلى الفساد والانحراف ، فقد يضطرّ القائد أحياناً للقيام بعمل على أساس الظرف المحيط به بهدف إعادة الهدوء إلى المجتمع رغم عدم إيمانه بذلك العمل .
- وقد رأينا شبيه ذلك في تجربتنا في الجمهورية الإسلاميّة بشأن بني صدر الذي اُبقي لزمان في منصبه رغم عدم استحقاقه وأعماله المناهضة للثورة ، فلمّا عُزل ، قال الإمام الخميني (قدس سره): «كنت أعلم قبل عام تقريباً أنّ هذا الشخص يتحرك ضدّ الثورة» إلاّ أنّ الظروف المحيطة آنذاك والمجتمع لم تكن مناسبة لطرح قضية بني صدر وفضحه; الأمر الذي جعل الإمام يتحمّله لسنة في منصبه . ويمكننا من هذه القرينة أن نتحسّس صعوبة الأجواء والظروف التي أحاطت بالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) .
(الصفحة 30)
الرسالة القريبة المضامين من عهده الذي عهده إلى مالك ، ومن أراد المزيد فليراجع نهج البلاغة ويتدبّر رسالته إلى محمّد بن أبي بكر(1) .
شهادة محمّد بن أبي بكر
لم يكتب لولاية محمّد بن أبي بكر الدوام ، فلم تمرّ مدّة طويلة حتّى بعث معاوية بمستشاره الماكر عمرو بن العاص إلى مصر لإثارة الفتن والقلاقل ، ويتمكّن في خاتمة المطاف من قتل محمّد بن أبي بكر . ولمّا استشهد محمّد ظفر عمرو بن العاص على ما كان بحوزة محمّد من كتب ورسائل وعهود ومواعظ ، بما فيها رسالة الإمام (عليه السلام) له حين ولاّه مصر ، فلمّا اطّلع عليها بعث بها إلى معاوية ، فذهل معاوية لما شاهد فيها من علوم ومعارف عرضها على أصحابه . فأشار عليه الوليد بن عقبة ـ الذي اعتلى المنبر مخموراً إبّان خلافة عثمان وصلّى بالمسلمين الصبح أربع ركعات ثم التفت إليهم ساخراً وهو يقول: أفأزيدكم(2) ـ بإحراقها .
إلاّ أنّ معاوية رفض إحراقها وقال: لست من أهل الرأي; أو تحرق مثل هذه الرسالة ، لابدّ أن نحفظها ونستفيد من مضامينها ، فإن أحرقناها سوف لن نجد من يحسن كلمة من هذه العلوم والمعارف فيعلّمناها .
فقال الوليد: أَمِنَ الصواب أن تفهم الاُمّة أنّك تقتدي بكتب علي وتعمل بمقتضاها؟ فأجابه معاوية: أفتشير عليّ بإحراق علم فريد كالذي ورد في هذه الرسالة؟ والله لم أر حتّى الآن علماً جامعاً ونافعاً كالذي رأيته في هذه الرسالة . فقال الوليد: إنّك لا تتمالك نفسك أمام رسالة من رسائل علي التي تحكي جزءاً من شخصيته فما لك تهبّ لقتاله ولا تمدّ يدك لبيعته؟
- 1 . نهج البلاغة : 383 ، الكتاب 27 .
- 2 . شرح نهج البلاغة : 3/18 .
(الصفحة 31)
فلم ير معاوية من جواب منطقي لهذا السؤال سوى أن لجأ إلى الهروب من الحقيقة وتبرير قتاله لعلي (عليه السلام)باتّهامه بدم عثمان و المطالبة به ، ثمّ قال: طبعاً سوف لن أخبر الناس بأنّ هذه رسالة علي (عليه السلام) ، بل سأقول لهم بأنّ أبابكر قد كتب هذا الكتاب لولده محمّد وضمّنه هذه التعاليم العظيمة(1)!!
أمّا كيفيّة شهادة محمّد بن أبي بكر ، فهي أنّه قد حذّر عقب ولايته لمصر طائفة من أولئك الذين لم يبايعوا عليا (عليه السلام)بالبيعة أو الجلاء من مصر . فلم يستجيبوا للبيعة وأخذوا يستعدّون للقتال حتّى نشب بينهم وبين محمّد بن أبي بكر . فلمّا سمع معاوية بذلك اقتحم الميدان ، سيّما أنّه كان يطمع بمصر ويهمّ بالسيطرة عليها ، بغية مواجهة علي (عليه السلام) والقضاء على حكومته العادلة; وقد ترسّخ عزمه على اجتياح مصر إثر اختتام معركة صفّين بالتحكيم الذي تمّ لصالح معاوية . أمّا صحبه فقد أشاروا عليه بالقتال ، فجهّزوا جيشاً بإمرة عمرو بن العاص ، فالتحق ابن العاص بمعسكر المتمرّدين واشتبك مع محمّد بن أبي بكر في معركة طاحنة أسفرت عن شهادة محمّد .
وفي ظلّ هذه الظروف الصعبة والأوضاع المتوتّرة اختار عليّ (عليه السلام) مالك الأشتر لولاية مصر; ومن هنا نقف على مدى حسّاسيّة مصر وخطورة موقعها; فهي تمتاز بكبر مساحتها وازدحام سكّانها ، حيث يقطنها مختلف الأقوام والقبائل ذات الثقافات المختلفة والأساليب الفكرية المتعدّدة ، إلى جانب كونها منطقة بعيدة عن مركز الخلافة ، الأمر الذي يعني صعوبة الإشراف على شؤونها وتسيير الاُمور فيها ، كما أنّها المنطقة التي عرفت بتمرّدها بُعيد ثلاث سنوات من استسلامها أمام المسلمين ، حيث ولّت ظهرها من جديد للإسلام وأسلست قيادها للبيزنطيين
- 1 . شرح نهج البلاغة : 6/72 .
(الصفحة 32)
أعدى أعداء الإسلام آنذاك . وهي التي ثارت على الخليفة الثالث وقتلته بعد أن نقمت من عمّاله وولاته ، وأخيراً هي التي وقفت بوجه مبعوث الإمام (عليه السلام) وخليفته عليهم واشتبكت معه في معركة أدّت إلى قتله ، إلى غير ذلك .
نعم ، إنّ حسّاسية هذه المنطقة اقتضت أن يكون واليها فرداً كمالك الأشتر ، ولابدّ له من اعتماد مثل ذلك العهد التأريخي بغية إدارة شؤون الحكومة; وهذا ما قام به الإمام علي (عليه السلام) .