(الصفحة 38)
هؤلاء الأفراد لم يجعلوا أنفسهم في مسارّ القرآن ليتدبّروا ماذا يقول ، بل جعلوا القرآن تابعاً لهم فحمّلوه أفكارهم وعقائدهم . أي أنّهم آمنوا بشيء أول الأمر ثمّ اتّجهوا صوب الآيات القرآنية ليروا هل هناك من آية تشبه ظاهرياً ما يؤمنون به من أفكار ، ليخلصوا إلى نتيجة مؤدّاها أنّ القرآن يبيّن في هذه الآية ما نؤمن به من أفكار!
وعليه فإنّ مثل هذه النظرة والتعامل مع القرآن والاستنتاج من كلام الله لا يقود سوى إلى الفساد والانحراف ، وهي نفس النتيجة بشأن التعامل مع كلمات المعصومين (عليهم السلام) والتي يدور حولها هذا البحث . ومعناه أنّنا إذا اتّجهنا صوب نهج البلاغة فلا ينبغي أن نملأ أذهاننا بالأفكار المسبقة ، كما لا ينبغي التأمّل فيه بهدف العثور على ما يؤيّد الموضوع الذي نروم بحثه ، ولا ينبغي أخيراً أن نؤمن بشيء ثمّ نتصفّح نهج البلاغة لنرى هل هنا لك من كلام للإمام (عليه السلام) يمكننا أن نحمّله أفكارنا وعقائدنا ، بل بالعكس لا بدّ أن نرد النهج بذهنية خالية وليس لنا من هدف سوى التدبّر فيه ، لنرى ما الذي أورده الإمام علي (عليه السلام) بشأن الموضوع الذي نروم بحثه . وعليه سوف نجني عدّة فوائد إذا تعاملنا مع هذا الكتاب بذهنية صافية بغية الوقوف على موضوعاته وتعاليمه ، وإلاّ فسوف لن نعيش سوى الفساد والانحراف .
«هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلاّهُ مِصْرَ» .
ذكرنا آنفاً أنّ كلمات المعصومين (عليهم السلام) خالية من المبالغة والإفراط والتفريط المتعارف لدى عامة الناس ، ولا ينطوي كلامهم سوى على المعاني الخاصّة والمفاهيم الواضحة دون أن تتطرق إليه الزيادة والنقيصة .
وعلى هذا الضوء يبدو أنّ الإمام علي (عليه السلام) أراد أن يبيّن أمرين أساسيّين في الثقافة الإسلامية في قوله: «ما أمر به عبد الله»:
(الصفحة 39)* الأوّل: إزالة الغفلة
إنّ أعظم آفة لأصحاب القدرة والسطوة ـ الذين تحفل قواميس معظمهم بالفساد والظلم والجور والسلب والنهب والقتل ـ تكمن في غفلتهم عن أنفسهم ونسيانهم لماضيهم ، فلو علم الحاكم ومهما كانت قدرته ومنصبه بأنّ هناك من أفاض عليه كافّة قدراته واستعداداته الجسمية والنفسية ، وأنّ هذا الفيّاض قادرٌ على سلبه إيّاها متى شاء ، فإنّه لن يعدّ يفكِّر في ظلم أحد ، كما لا يهمّ بالتمرّد وإشعال فتيل الحروب . أمّا إذا لم يلتفت لهذه الآفة ، ولم يكترث لعظمة خالقه وزهادة شخصه ، فإنّ الطغيان والفرعنة ستتجذّر في شخصه يوماً بعد آخر .
وهذا هو الذي ربّما خاطب به علي (عليه السلام) نفسه حين جلس على كرسي الحكم وتولّى مقاليد الاُمور ، بأنّ كلّ مالدينا من الله; ومن هنا ندب الشارع إلى القول: «بحول الله وقوّته أقوم وأقعد»(1) في قيام وقعود الصلوات اليومية الخمس ، أي أنّ الإنسان لابدّ أن يعلم بأنّ هذه القدرة على القيام والقعود ليست مستقلّة نابعة من قدرة الإنسان ، بل هي إفاضة من إفاضات الحقّ تبارك وتعالى . وهنا نقول : هل سيكون هنا لك من ظلم و جور لو اكتفى الحكّام و الزعماء بهذا الأمر فقط وجعلوا الله أمام أعينهم في أنّه هو الذي وهبهم كلّ هذه القوّة والقدرة؟!
* الثاني: العزّة في العبودية:
يرى الإمام علي (عليه السلام) ـ وهي الرؤية الإسلامية الحقّة ـ أنّ القدرة والرئاسة والسلطة المعنوية وبالتالي العزّة والسيادة ـ بمعناها الصحيح لا بمعنى الغطرسة والقوّة الغاشمة ـ إنّما تتحقّق في ظلّ العبودية . فالإمام (عليه السلام) ولبيان هذا الهدف ـ عدم
- 1 . الوسائل : 6/361 ، أبواب السجود ب13 .
(الصفحة 40)
تحقّق السيادة دون العبودية ـ قد طرح مسألة «عبدالله» إثر كلمة «أمر» التي تفيد العلوّ والرفعة ، فقال: «هذا ما أمر به عبدالله» وهو عين ماورد في القرآن
{ سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاَْقْصَى} (1) فالله سبحانه وتعالى لم يقل : «سبحان الذي أسرى برسوله . . .» بل قال : «سبحان الذي أسرى بعبده» ، أي هنالك علاقة بين العبودية والمعراج ، كما ورد في تشهّد الصلوات اليومية «أشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله»(2) ، فتقديم العبودية (عبده) على الرسالة (رسوله) دليل على العبودية الخالصة للنبيّ (صلى الله عليه وآله) من أجل الرسالة .
دائرة الحكومة والولاية
«جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وَجِهَادَ عَدُوِّهَا وَاسْتِصْلاحَ أَهْلِهَا وَعِمَارَةَ بِلادِهَا» لقد أوجز الإمام (عليه السلام) دائرة حكومة وولاية مالك الأشتر في أربعة محاور رئيسيّة هي: ـ
* الأوّل: جباية الخراج
المراد بالخراج الضرائب ـ الضرائب الخاصة كما سيأتي لاحقاً ـ فأهل مصر لم يُسلموا طوعاً ، بل أسلموا تحت طائلة السيف والقوّة . ويصطلح الفقه على الأراضي التي يسيطر عليها المسلمون بالقوّة دون الصلح بالأراضي المفتوحة عنوة ، ومثل هذه الأراضي ملك لجميع المسلمين .
وعلى ضوء ذلك فإنّ الدولة الإسلامية والحاكم الإسلامي يقوم ـ وطبقاً
- 1 . سورة الإسراء ، الآية 1 .
- 2 . الوسائل : 6/393 ، أبواب التشهّد ب3 .
(الصفحة 41)
للمصالح الإسلامية ـ بتقسيم هذه الأراضي على المسلمين على أن يأخذ منهم مبالغ سنوية ، ويطلق على هذه المبالغ من الناحية الفقهيّة اسم «الخراج»(1) .
* الثاني: جهاد العدو دائرة الحكومة والولاية
نفهم من إضافة الجهاد إلى العدو أنّ مراده (عليه السلام) الجهاد الدفاعي ، لا الجهاد بالمعنى الاصطلاحي الفقهي; لأن روايات أهل البيت (عليهم السلام) ـ وبإجماع فقهاء الشيعة ـ تصرّح بعدم جواز الجهاد الابتدائي وحمل سائر القوى والأنظمة على التسليم إلاّ بحضور الإمام المعصوم وإذنه وإشرافه ، ولا يجوز الجهاد الابتدائي في زمان غيبة الإمام (عليه السلام) ، ولمّا كان مالك الأشتر في تلك المنطقة البعيدة عن الإشراف المباشر للإمام المعصوم ، فإنّه يتولّى إدارتها وكأنّه في زمان الغيبة ، وعليه فليس له الجهاد الابتدائي وله الدفاع والوقوف بوجه الأعداء إذا ما تعرّض الكيان الإسلامي للخطر .
* الثالث: استصلاح أهل مصر
يتّضح من هذه الوصيّة أنّ وظائف الوالي لا تقتصر على رعاية الجوانب المادّية والدنيوية من حياة الاُمّة ، وأنّ إصلاح الاُمّة وإرشادها تعدّ من سائر وظائف الوالي وأنشطته الأساسية ، وعليه فلا بدّ أن يلتفت المسؤولون إلى أنّ وظيفتهم لا تنتهي بتعبيد بعض الطرق والشوارع وتزويد السوق بالحاجات المنزلية من قبيل الثلاّجات والغسّالات . وأنّ هناك الجوانب المعنوية التي ينبغي أن يهتمّ بها المسؤولون في المجتمع الإسلامي إلى جانب دورهم في النهوض بهذه
- 1 . اُنظر كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 2/239 .
(الصفحة 42)
الجوانب المعنوية ونشرها بين صفوف الناس ، وألاّ يتخلّوا عن هذه المسؤوليّات التأريخية بحجّة أنّها من اختصاصات الحوزات الدينية ورجال الدين .
* الرابع: عمارة البلاد
الوظيفة الاُخرى الأساسية والمهمّة لمالك الأشتر هي عمارة البلاد . وهذا الكلام ـ ورغم التهم والافتراءات التي ألصقت وما زالت تلصق بالإسلام طيلة التأريخ ـ إنّما يفيد أنّ الإسلام وخلافاً للرهبنة المسيحية يولي أهمّية قصوى للقضايا المادّية والرفاهية في حياة المجتمع الإسلامي ، ويرى ضرورة التمتّع بكافّة النِعم الدنيوية واللذائذ المادّية شريطة ألاّ تنسيه ذكر الله وتؤدّي به إلى ظلم الآخرين واستغلالهم .
نظام مركزي أم . . .؟
لعلّ هناك من يعتقد بأن هذه الصلاحيات ـ في الاُمور المالية والعسكرية والقضائية والثقافية ـ التي فوّضها أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر تفيد أنّ الأساس الذي اعتمده الإمام (عليه السلام) في حكمه ، وبعبارة اُخرى اُسلوب الحكم في الإسلام هو الحكومة اللامركزية ، وأنّ الإسلام لا يقرّ الحكومة المركزية .
ونقول بأنّ هذا الاعتقاد لا يبدو صحيحا بالاستناد إلى أسلوبه الذي اتّبعه (عليه السلام)مع سائر أصحابه ، فقد اتّبع الاُسلوب المركزي مع الأشعث بن قيس فمنحه صلاحيات قليلة(1) . ويبدو أيضاً أنّ هذه الفوارق في حجم الصلاحيات معلولة للتفاوت بين مكانة وقدرات صحابته لا إلى أساس الحكومة في الإسلام .
- 1 . نهج البلاغة : 366 ، الكتاب 5 .