(الصفحة 149)
المحرم النسبي أيضاً ، ومع عدم الالتزام به وثبوت الإطلاق وحجّيّته كما قرّر في الأصول لا يبقى فرق بينه وبين غيره من المحارم أصلا .
وأمّا ما ذكره صاحب الجواهر من اختصاص ما ورد في الرضاع بباب النكاح ، فالجواب عنه ، أنّ الحرمة في باب النكاح موضوع للمقام ، والحكم بثبوت القتل فيما إذا زنى بها ، فهو كما لو نذر التصدّق لو صارت فلانة محرّمة عليه نكاحها ، فإنّه إذا تحقّق الرضاع المحرِّم يتحقّق الموضوع ، فيجب عليه الوفاء بالنذر ، فلا منافاة بين المقام وبين ما ورد في الرضاع .
وكيف كان لا مجال لدعوى التبادر أو الإنصراف ، بل مقتضى الإطلاق الشمول ، خصوصاً مع ملاحظة الجمع بين المحارم النسبيّة والرضاعيّة والسببيّة في الآية الكريمة في سورة النساء(1) . ولا يظهر من الأصحاب خلافه ، والتعرّض لحكم زوجة الأب بالخصوص إنّما هو لورود الرواية فيه ، فلا إشعار فيه على الاستثناء ، ولكن مع ذلك لا ينبغي ترك الاحتياط ; لعدم وجود التصريح به من الأصحاب عدا الشيخ(2) وابن سعيد(3) في المحرم الرضاعي ، ويظهر من الشهيد الثاني(قدس سره) في الروضة الميل إليه ، حيث جعله وجهاً وقال: مأخذه إلحاقه به في كثير من الأحكام للخبر(4) .
نعم ، لا يبعد دعوى إنصراف عنوان «ذات المحرم» الواقع في النصوص والفتاوى عمّن تكون حرمة نكاحها لأجل تأديب من حرمت عليه ، كما في المطلّقة
- (1) سورة النساء4: 23 .
- (2) الخلاف: 5/386 مسألة 29 ، المبسوط: 8/8 .
- (3) الجامع للشرائع: 549 .
- (4) الروضة البهيّة: 9/63 .
(الصفحة 150)
تسعاً التي يحرم نكاحها أبداً ، وكما فيمن يحرم نكاحها بسبب اللواط ونحو ذلك من الموارد .
وأمّا المحرم من النسب غير الشرعي كالمحرم من الزنا ، فقد قال في الجواهر: فلا يثبت له فيها الحدّ المزبور للأصل وغيره(1) .
ويمكن المناقشة فيه أيضاً ، نظراً إلى أنّ عنوان ذات المحرم يشمله بإطلاقه ، فإنّ البنت المتولّدة من الزنا محرم بالاضافة إلى الزاني ، والأم محرم بالنسبة إلى الإبن المتولّد من الزنا ، ضرورة أنّ الامّهات الواقعة في آية التحريم يكون المراد منها هو المعنى العرفي منها ، كسائر العناوين الواقعة في أدلّة الأحكام ، وبالجملة بعد فرض ثبوت حرمة النكاح في مورد النسب غير الشرعي ، وعدم جواز التزويج فيه لا وجه لدعوى عدم شمول النصوص ، ولا مجال للرجوع إلى الأصل أصلا .
بقي الكلام في حكم من زنى بامرأة أبيه ، فالمحكيّ عن الشيخ(2) والحلبي(3)وبني زهرة(4) وإدريس(5) وحمزة(6) والبرّاج(7) وسعيد(8) هو ثبوت القتل فيه ، بل في الجواهر: نسبه بعض إلى كثير ، وآخر إلى الشهرة ، بل عن الغنية(9)
- (1) جواهر الكلام: 41/313 .
- (2) النهاية: 693 .
- (3) الكافي في الفقه: 405 .
- (4) غنية النزوع: 421 .
- (5) السرائر: 3/438 .
- (6) الوسيلة: 410 .
- (7) المهذّب: 2/519 .
- (8) الجامع للشرائع: 550 .
- (9) غنية النزوع: 421 .
(الصفحة 151)
الإجماع عليه(1) .
ومستنده النصوص المتقدّمة الواردة فيمن زنى بذات محرم إن قلنا بشمول العنوان للمحارم السببيّة أيضاً ، كما نفينا البعد عنه آنفاً ، وعليه فكما يستفاد منها ثبوت أصل القتل فيه كذلك يستفاد كيفيّة القتل ، وهي الكيفيّة المعتبرة في الزنا بذات المحارم النسبيّة ، وإن لم نقل بشمول العنوان لها أيضاً ، فالمستند هي رواية إسماعيل بن أبي زياد السكوني ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) أنّه رفع إليه رجل وقع على امرأة أبيه فرجمه ، وكان غير محصن(2) . وقد ورد من طرق العامّة رواية عن البراء بن عازب بطرق مختلفة وألفاظ متعدّدة ، وفي إحداها قال: لقيت عمّي ومعه راية ، فقلت: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى رجل نكح امرأة أبيه ، فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله(3) .
وكيف كان فيرد على المستدلّين برواية السكوني عدم انطباق فتواهم على الرواية ; لأنّ فتواهم إنّما هي بالقتل المتحقّق من أيّة وسيلة ، والرواية ظاهرة في اعتبار خصوص الرجم ، ولا مجال لدعوى التبعيض في الحجيّة ، خصوصاً بعد عدم وجود ما يدلّ على نفي الرجم ، ومن هنا يمكن أن يقال: بأنّ الرواية معرض عنها ; لعدم الفتوى على طبقها ، فتبقى النصوص المتقدّمة دليلا في المسألة فتدبّر . هذا تمام الكلام في المورد الأوّل .
المورد الثاني: زنا الذمّي بالمسلمة ، من دون فرق بين أن تكون مطاوعة ، أو مكرهة ، وكذا بين أن يكون الذمّي بشرائط الذمّة أو لا ، فإنّ حدّه القتل بلا خلاف
- (1) جواهر الكلام: 41/316 .
- (2) وسائل الشيعة: 18 / 386 ، أبواب حدّ الزنا ب19 ح9 .
- (3) مسند أحمد: 6 / 419 ح18581 ، جامع المسانيد والسنن: 2/71 .
(الصفحة 152)
أجده ، بل الإجماع بقسميه عليه كما في الجواهر(1) . والدليل موثّقة حنّان بن سدير ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن يهوديّ فجر بمسلمة ، قال: يقتل(2) . فلا إشكال في أصل الحكم .
إنّما الكلام في سقوط الحدّ عنه بالإسلام ، فنقول: إن كان إسلامه للفرار عن القتل وبقصد التخلّص عن الحدّ ، فالظاهر عدم كونه مسقطاً ، ويدلّ عليه إطلاق الموثّقة وعدم الاستفصال فيها ، ويؤيّده رواية جعفر بن رزق الله قال: قدِّم إلى المتوكّل رجل نصرانيّ فجر بإمرأة مسلمة وأراد أن يقيم عليه الحدّ فأسلم ، فقال يحيى بن أكثم: قد هدم إيمانه شركه وفعله ، وقال بعضهم: يضرب ثلاثة حدود ، وقال بعضهم: يفعل به كذا وكذا ، فأمر المتوكّل بالكتاب إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام)وسؤاله عن ذلك ، فلمّا قدم الكتاب كتب أبو الحسن (عليه السلام): يضرب حتّى يموت ، فأنكر يحيى بن أكثم وأنكر فقهاء العسكر ذلك ، وقالوا: يا أمير المؤمنين سله عن هذا ، فإنّه شيء لم ينطق به كتاب ولم تجىء به السنّة ، فكتب: إنّ فقهاء المسلمين قد أنكروا هذا وقالوا: لم تجىء به سنّة ولم ينطق به كتاب ، فبيِّن لنا بما أوجبت عليه الضرب حتّى يموت؟ فكتب (عليه السلام):
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}(3) قال: فأمر به المتوكّل فضرب حتّى مات(4) . وظاهرها كما يشهد به الاستدلال بالآية الكريمة أنّ
- (1) جواهر الكلام: 41/313 .
- (2) وسائل الشيعة: 18 / 407 ، أبواب حدّ الزنا ب36 ح1 .
- (3) سورة غافر40: 84 ، 85 .
- (4) وسائل الشيعة: 18 / 407 ، أبواب حدّ الزنا ب36 ح2 .
(الصفحة 153)
إسلامه كان للفرار عن القتل بعد ما رأى أنّه يراد أن يقام عليه الحدّ ، كما لا يخفى .
وأمّا إذا كان إسلامه لا للفرار عن القتل ، بل كان حقيقة ، فقد احتمل في محكيّ كشف اللثام سقوط الحدّ عنه ; لأنّ الإسلام يجبُّ ما قبله(1) وللاحتياط في الدماء ، وزاد فيه قوله: وحينئذ يسقط عنه الحدّ رأساً ولا ينتقل إلى الجلد للأصل(2) .
لكن في محكي الرياض: «هو ضعيف في الغاية ، لكونه اجتهاداً في مقابلة الرواية المعتبرة بفتوى هؤلاء الجماعة ، المؤيّدة باستصحاب الحالة السابقة ، وأضعف منه قوله فيما بعد: وحينئذ يسقط عنه الحدّ إلى آخره ، لفحوى ما دلّ على عدم سقوط الحدّ مطلقاً عن المسلم بتوبته إذا ثبت عليه بالبيّنة ، وغاية الإسلام أن يكون توبة»(3) .
وفي الجواهر بعد نقل ما في الرياض: «ولا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة بما ذكرنا من الخبر المزبور المشهور بين العامّة والخاصّة ، بل لا حاصل لقوله: «وأضعف منه» إلى آخره ، ضرورة أنّه المتّجه مع فرض سقوط الحدّ عنه للأصل وغيره ، والقياس على التوبة ليس من مذهبنا ، مع ظهور الفرق بينهما ، على أنّه لا يقتضي ثبوت الجلد كما هو واضح»(4) .
أقول: العمدة في هذه المسألة هو حديث الجبّ ، لأنّه على تقدير ثبوته يكون مفاده السقوط ، ويكون حاكماً على الموثّقة المزبورة ، وغير مناف لرواية جعفر بن
- (1) تفسير القمّي: 2/27 ، مسند أحمد: 6/232 ح17792 وص243 ح17829 ، السيرة الحلبية: 3/37 ، مجمع البحرين: 1 / 264 ، مادّة «جبب» .
- (2) كشف اللثام: 2/398 .
- (3) رياض المسائل: 10/41 ـ 42 .
- (4) جواهر الكلام: 41/315 .