(الصفحة 577)يثبت القطع إلاّ مع قيام قرائن قطعيّة على سرقته بما يوجب القطع1.
1 ـ المفروض في هذه المسألة ما إذا كان الإقرار بالسرقة واقعاً عن اكراه ، مثل الضرب وردّ المال الذي أقرّ بسرقته كذلك واقعاً عن إرادة واختيار ، ولم يكن هناك قرينة قطعيّة على تحقّق السرقة الموجبة للقطع ، وقد وقع الاختلاف في ثبوت القطع فيه وعدمه ، فالمحكيّ عن النهاية(1) والمهذّب(2) والجامع(3) والمختلف(4) الثبوت ، وعن الحلّي(5) وجميع من تأخّر عنه عدم الثبوت(6) ، واستدلّ للأوّل بأمرين :
الأوّل : أنّ ردّ ما أقرّ بسرقته كذلك دليل قطعيّ على تحقّق السرقة ، كما أنّ قيء المسكر دليل على شربه ، وقد تقدّم أنّه إذا شهد أحد الشاهدين بالشرب والآخر بالقيء يترتّب عليه حدّ الشرب(7) .
الثاني : صحيحة سليمان بن خالد قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل سرق سرقة فكابر عنها فضرب ، فجاء بها بعينها ، هل يجب عليه القطع؟ قال : نعم ، ولكن لو اعترف ولم يجيء بالسرقة لم تقطع يده ; لأنّه اعترف على العذاب(8) .
والجواب عن الأوّل : وضوح كون ردّ المال إلى صاحبه أعمّ من وقوع السرقة ; لاحتمال أن يكون أمانة عنده أو عارية لديه ، أو مثلهما من العناوين المجوّزة لأن
- (1) النهاية: 718.
- (2) المهذّب: 2 / 544.
- (3) الجامع للشرائع: 561.
- (4) مختلف الشيعة: 9 / 224 ـ 225 مسألة 81.
- (5) السرائر: 3 / 490.
- (6) قواعد الأحكام: 2 / 270، مسالك الأفهام: 14 / 516، شرائع الإسلام: 4 / 955.
- (7) تقدّم في ص473 ـ 475.
- (8) وسائل الشيعة: 18 / 497، أبواب حدّ السرقة ب7 ح1.
(الصفحة 578)
يكون المال تحت يده ، بل واحتمال أن يكون مغصوباً قد غصبه ثمّ بدا له أن يردّه إلى صاحبه ، ومجرّد وقوع الردّ عقيب الإقرار عن إكراه لا يوجب انطباق الردّ على خصوص عنوان السرقة الموجبة للقطع .
والحكم في المقيس عليه وهو القيء أيضاً على خلاف القاعدة ; لأنّ القيء وإن كان كاشفاً عن تحقّق الشرب ، إلاّ أنّه ليس كلّ شرب موضوعاً للحكم بالحدّ ; لاحتمال أن يكون واقعاً عن إكراه أو اضطرار أو نحوهما ، ولذا وقع الإشكال في التعدّي عن مورد الرواية فيما إذا قامت البيّنة على القيء وشهد كلا الشاهدين بذلك ، وإن نفينا البعد عن ذلك بملاحظة التعليل الواقع في روايته ، إلاّ أنّه لا يقتضي كون الحكم على وفق القاعدة ، كما لا يخفى .
وعن الاستدلال بالصحيحة ظهور السؤال فيها في ثبوت السرقة من الرجل ، وأنّ المكابرة إنّما هي بالإضافة إلى المال المسروق ، بمعنى امتناعه عن ردّه ، وأنّ مجيئه به إنّما يكون مسبّباً عن ضربه وإكراهه ، ففي الحقيقة يكون مورد السؤال ثبوت السرقة وتحقّق الإكراه على ردّ المال ومجيئه به ، وهذا خلاف ما هو المفروض في المقام من تعلّق الإكراه بالإقرار ، ووقوع ردّ المال عن إرادة واختيار ، ومن الواضح أنّ المراد بكلمة السرقة في الصحيحة هو المال المسروق لا عمل السرقة ، فالمكابرة راجعة إليه لا إليها ، وعليه فالسرقة مفعول به لقوله : «سرق» لا مفعول مطلق له ، ويدلّ عليه ـ مضافاً إلى الضمائر المذكورة فيها ـ قوله (عليه السلام) في الذيل : ولم يجيء بالسرقة .
وبالجملة : لا خفاء في ظهور قوله (عليه السلام) : «سرق سرقة» في تحقّق السرقة وثبوتها ، وفي أنّ المكابرة والضرب عقيبها إنّما هما راجعان إلى ردّ المال الذي ثبتت
(الصفحة 579)
سرقته لا إلى أصل السرقة . نعم ، يقع الكلام حينئذ في أنّه على هذا التقدير الذي يكون المفروض فيه ثبوت السرقة لا يبقى مجال للسؤال عن ثبوت القطع وعدمه ، وهذا بخلاف ما لو فسّرنا الرواية بالنحو الذي ذكره المستدلّ ، فإنّ السؤال حيئنذ يكون له مجال لرجوعه إلى أنّ مجيء المقرّ عن إكراه بالمال اختياراً هل يوجب ثبوت السرقة الموجبة للقطع أم لا؟
والجواب : أنّه على التقدير الذي ذكرنا يكون الوجه في السؤال ثبوت شبهة في ذهن السائل ، وهي : أنّ الضرب لردّ المال في مورد ثبوت السرقة هل يقوم مقام القطع ، بحيث يوجب عدم ترتّبه مع ثبوتها أم لا؟ فأجاب (عليه السلام) بما يرجع إلى عدم القيام وثبوت القطع ، فللسؤال مجال .
نعم ، الإشكال إنّما هو في ذيل الرواية ، الذي وقع بصورة الاستدراك ; لأنّ المراد بالاعتراف فيه يحتمل أن يكون هو الإقرار الموجب لثبوت السرقة ، ومرجعه إلى أنّ السرقة لو ثبتت بالإقرار الاختياري لم تقطع يده ، واللازم حينئذ أن يكون المراد عدم تحتّم القطع وتعيّنه ، لا عدم جوازه ، ويحتمل أن يكون في مقابل المكابرة الواقعة في الصدر ، ومرجعه إلى ثبوت السرقة من غير طريق الإقرار ، فالمراد من الاعتراف حينئذ تصديق وقوع السرقة الثابتة .
فعلى الاحتمال الأوّل لا يظهر وجه التقييد بعدم المجيء بالسرقة ، بل عدم تعيّن القطع في صورة المجيء بها أولى لتأيّد الاعتراف بالعذاب به ، وعلى الاحتمال الثاني لا وجه للحكم بعدم القطع ولو بنحو التعيّن ، مع أنّه لا يلائم التعليل بالاعتراف بالعذاب كما لا يخفى ، ولكنّ الإشكال في الذيل لا يقدح في ظهور الصدر فيما ذكرنا ، والحكم ببطلان الاستدلال بها على ما ذكروه .
(الصفحة 580)مسألة 4 : لو أقرّ مرّتين ثمّ أنكر فهل يقطع أو لا؟ الأحوط الثاني والأرجح الأوّل ، ولو أنكر بعد الإقرار مرّة يؤخذ منه المال ولا يقطع ، ولو تاب أو أنكر بعد قيام البيّنة يقطع ، ولو تاب قبل قيام البيّنة وقبل الإقرار سقط عنه الحدّ ، ولو تاب بعد الإقرار يتحتّم القطع ، وقيل : يتخيّر الإمام بين العفو والقطع 1.
1 ـ في هذه المسألة فروع :
الأوّل : ما لو أقرّ مرّتين ثمّ أنكر ، فهل يقطع ، كما عن الشيخ(1) والحلّي(2)والفاضل(3) والشهيدين(4) وغيرهم(5) . بل ربّما نسب إلى الأكثر(6) ، أو لا يقطع ، كما عن النهاية(7) وكتابي الحديث(8) والقاضي(9) والتّقي(10) وابن زهرة(11) والفاضل في المختلف(12) . بل قيل : لعلّه الأشهر بين القدماء(13) . بل عن الغنية الإجماع عليه ، أو
- (1) المبسوط: 8 / 40.
- (2) السرائر: 3 / 490.
- (3) قواعد الأحكام: 2 / 270، إرشاد الأذهان: 2 / 184.
- (4) اللمعة الدمشقيّة: 171، الروضة البهيّة: 9 / 278 ـ 279، مسالك الأفهام: 14 / 517 ـ 519.
- (5) شرائع الإسلام: 4 / 955، الجامع للشرائع: 561.
- (6) رياض المسائل: 10 / 188.
- (7) النهاية: 718.
- (8) التهذيب: 10 / 126، الإستبصار: 4 / 250.
- (9) المهذّب: 2 / 544.
- (10) الكافي في الفقه: 412.
- (11) غنية النزوع: 434.
- (12) مختلف الشيعة: 9 / 225.
- (13) رياض المسائل: 10 / 188.
(الصفحة 581)
يكون الإمام مخيّراً بين القطع والعفو كما عن الخلاف(1) وموضع آخر من النهاية(2)مدّعياً في الأول الإجماع عليه؟ وجوه وأقوال .
ويدلّ على الأوّل ـ مضافاً إلى إطلاق دليل نفوذ الإقرار وحجيّته ـ صحيح الحلبي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في رجل أقرّ على نفسه بحدّ ، ثمّ جحد بعد ، فقال : إذا أقرّ على نفسه عند الإمام أنّه سرق ثمّ جحد قطعت يده وإن رغم أنفه ، وإن أقرّ على نفسه أنّه شرب خمراً أو بفرية ، فاجلدوه ثمانين جلدة ، قلت : فإن أقرّ على نفسه بحدّ يجب فيه الرجم أكنت راجمه؟ فقال : لا ، ولكن كنت ضاربه الحدّ . ورواه الشيخ بسند صحيح عن محمّد بن مسلم عنه أيضاً(3) ، وعليه فيكون هنا روايتان وإن جعلهما في الوسائل رواية واحدة .
وربّما يقال بأنّه يؤيّدهما رواية سماعة بن مهران ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : من أخذ سارقاً فعفا عنه فذلك له ، فإذا رفع إلى الإمام قطعه ، فإن قال الذي سرق له : أنا أهبه له لم يدعه إلى الإمام حتّى يقطعه إذا رفعه إليه ، وإنّما الهبة قبل أن يرفع إلى الإمام ; وذلك قول الله عزّ وجل :
{وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ}(4) فإذا انتهى الحدّ إلى الإمام فليس لأحد أن يتركه(5) . لكن في التأييد نظر كما لا يخفى .
واستدلّ للقول الثاني بمرسلة جميل بن درّاج ، عن بعض أصحابنا ، عن
- (1) حكى عنه في رياض المسائل: 10 / 188، لكن في الخلاف: 5 / 444 مسألة 41: «إذا ثبت القطع بإعترافه، ثمّ رجع عنه سقط برجوعه، وبه قال جماعة الفقهاء».
- (2) النهاية: 718.
- (3) وسائل الشيعة: 18 / 318، أبواب مقدّمات الحدود ب12 ح1.
- (4) سورة التوبة 9: 112.
- (5) وسائل الشيعة: 18 / 330، أبواب مقدّمات الحدود ب17 ح3.