(الصفحة 479)
مجالس المهاجرين والأنصار من كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه ، ففعلوا ذلك به فلم يشهد عليه أحد بأنّه قرأ عليه آية التحريم ، فخلّى سبيله ، فقال له : إن شربت بعدها أقمنا عليك الحدّ(1) .
الفرع الثاني : من شرب غير الخمر من سائر المسكرات مع الاستحلال ، وقد حكم فيه في المتن بأنّه لا يقتل ، وأشار بقوله : مطلقاً إلى عدم الفرق بين سائر المسكرات ، خلافاً لما حكي عن الحلبي من الحكم بكفر مستحلّ الفقّاع ووجوب قتله(2) ، والوجه في عدم القتل في هذا الفرع وضوح ثبوت الاختلاف بين فقهاء المسلمين في حرمة غير الخمر من سائر المسكرات ، وعدم كون حرمته ضروريّة حتّى يكون إنكارها إنكاراً للضروري ، فترى الحنفي يعتقد إباحة شرب النبيذ ويستحلّه(3) ، وفي محكيّ المسالك فالحنفيّ المعتقد إباحتها يحدّ على شربها ولا يكفّر ; لأنّ الكفر مختصّ بما وقع عليه الإجماع ، وثبت حكمه ضرورة من دين الإسلام ، وهو منتف في غير الخمر(4) .
ولكن يشكل الحكم بثبوت الحدّ عليه في صورة الاستحلال ; لأنّه مع العلم بعدم الحرمة ـ والفرض معذوريّته لكون المسألة غير ضروريّة ـ لا تكون الحرمة بالإضافة إليه فعليّة ، ولا تتحقّق بنظره معصية ، فلا مجال لإجراء الحدّ عليه . نعم ، لو كان الاستحلال مقروناً بالقطع بالحرمة وقيام الحجّة عليها يثبت الحدّ .
الفرع الثالث : من باع الخمر مستحلاًّ ، ويظهر من المتن أنّه يجري عليه حكم
- (1) وسائل الشيعة: 18 / 475، أبواب حدّ المسكر ب10 ح1.
- (2) الكافي في الفقه: 413.
- (3) المغني لابن قدامة: 10 / 327، بداية المجتهد: 1 / 496.
- (4) مسالك الأفهام: 14 / 469.
(الصفحة 480)
شرب الخمر مستحلاًّ من دون فرق ، إلاّ في عدم ثبوت الحدّ هنا بعد التوبة ; لعدم ترتّب الحدّ على بيع الخمر ، وإلاّ في إطلاق الحكم بالاستتابة هنا الظاهر في الاستتابة مع عدم الاستحلال أيضاً وكونه محرّماً له ، كما أنّ الظاهر أنّه لا فرق بنظر المتن هنا أيضاً بين الملّي والفطري .
والذي يقتضيه النظر بعد عدم وجود نصّ في المقام استفادة حكمه ممّا ورد في الشرب مستحلاًّ من الرواية المتقدّمة ، نظراً إلى أنّه إذا لم يكن الشرب مع الاستحلال موجباً للحكم بالقتل قبل الاستتابة وعدم التوبة ، فالبيع كذلك يكون بطريق أولى ; لأنّ حرمة الشرب ضروريّة كما عرفت ، وليست حرمة البيع كذلك .
ولكن يرد عليه حينئذ : أنّه لا مجال بناءً على ذلك لإجراء الاستتابة فيما إذا كان محرّماً له ; لأنّ حكمه حينئذ التعزير كما في ارتكاب مثله من المحرّمات .
والعمدة ما ذكرنا من عدم نهوض الرواية لإثبات الحكم في مسألة الشرب حتّى يحكم بثبوته في البيع بطريق أولى ، بل اللازم استفادة حكمه من القواعد وإن كان يظهر من المسالك أنّه موضع وفاق ، حيث قال : بيع الخمر ليس حكمه كشربه ، فإنّ الشرب هو المعلوم تحريمه من دين الإسلام كما ذكر ، وأمّا مجرّد البيع فليس تحريمه معلوماً ضرورة ، وقد يقع فيه الشبهة من حيث إنّه يسوغ تناوله على بعض وجوه الضرورات كما سلف ، فيعزّر فاعله ويستتاب إن فعله مستحلاًّ ، فإن تاب قبل منه ، وإن أصرّ على استحلاله قتل حدّاً ، وكأنّه موضع وفاق ، وما وقفت على نصّ يقتضيه(1) .
- (1) مسالك الأفهام: 14 / 470.
(الصفحة 481)مسألة 3 : لو تاب الشارب عنه قبل قيام البيّنة عليه بشربه سقط عنه الحدّ ، ولو تاب بعد قيامها لم يسقط وعليه الحدّ ، ولو تاب بعد الإقرار فلا يبعد تخيير الإمام في الإقامة والعفو ، والأحوط له الإقامة 1.
فإن كانت المسألة إجماعيّة فاللاّزم الالتزام بها ، وإلاّ فمقتضى القواعد التفصيل بين المستحلّ والمحرّم ، والحكم بثوت التعزير في الثاني وبثبوت الحدّ أي القتل في الأوّل ، مع رجوع استحلاله إلى تكذيب النبي(صلى الله عليه وآله) وإن لم يكن ضروريّاً ; لأنّ الملاك في الارتداد هو تكذيب النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، فكلّ ما رجع إليه يترتّب عليه ذلك مع الالتفات إليه والالتزام به ، من دون فرق بين أن يكون ضروريّاً وبين غيره ، ومن هنا يحكم بكفر من سمع عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) شيئاً مع العلم بمراده فكذّبه في ذلك ، وإن لم يكن ذلك الأمر من ضروريّات الإسلام .
الفرع الرابع : من باع غير الخمر من سائر المسكرات ، وقد حكم فيه في المتن بأنّه لم يقتل وإن كان مستحلاًّ ولم يتب ، والوجه فيه واضح بملاحظة ما ذكرنا في الفرع الثاني .
1 ـ أمّا التوبة فيما إذا ثبت الشرب بالبيّنة فالتفصيل في حكمها من جهة وقوعها قبل قيامها ، فيسقط عنه الحدّ ، ووقوعها بعده فلا يسقط ، فقد تقدّم البحث فيه في باب الزنا ولا حاجة إلى الإعادة(1) .
وأمّا التوبة بعد الإقرار ، فالمشهور كما في المسالك أنّ الإمام مخيّر فيها بين العفو والاستيفاء(2) كما في بابي الزنا واللواط ، والمحكيّ عن ابن إدريس(3)
- (1) تقدّم في ص109 ـ 113 و135 ـ 138.
- (2) مسالك الأفهام: 14 / 470.
- (3) السرائر: 3 / 478.
(الصفحة 482)مسألة 4 : من استحلّ شيئاً من المحرّمات المجمع على تحريمها بين المسلمين كالميتة والدم ولحم الخنزير والربا ، فإن ولد على الفطرة يقتل إن رجع
بل عن المبسوط(1) والخلاف تحتّم الإستيفاء هنا وعدم ثبوت التخيير(2) ، وقال المحقّق في الشرائع بعد نقل هذا القول : وهو الأظهر(3) . وعن التحرير أنّه قويّ(4) ، والوجه في الترديد في المقام عدم ورود نصّ فيه يقتضي التخيير أو التعيين .
نعم ، مقتضى أدلّة حدَّ الشرب في نفسها تعيّن الاستيفاء ، ومن حكم بالتخيير في المقام فقد استند إلى الأولويّة المتحقّقة هنا بالإضافة إلى الزنا ، فإنّه إذا لم يكن هناك الاستيفاء متعيّناً مع كونه أعظم فهنا أولى ، ومن حكم بتعيّن الإجراء فقد استند أوّلا إلى عدم ثبوت التخيير هناك إلاّ في خصوص الرجم دون الجلد ، وثانياً إلى بطلان القياس ، ولكنّ الظاهر كما مرّ ثبوت التخيير في الجلد أيضاً ، واستفادة حكم المقام تنشأ من الأولويّة ولا تبتني على القياس ، إلاّ أن يناقش فيها بمنعها ، نظراً إلى أنّ الزنا أمر يكون مقتضى القوّة الشهوية والغريزة الجنسيّة الباعثة على ارتكابه ، ومن الممكن وقوع تسهيل فيه من هذه الجهة ، بخلاف شرب المسكر الذي لا يكون في النفس داع قويّ وباعث محرّك على ارتكابه ، ولعلّه لأجل ما ذكر احتاط في المتن الإجراء في المقام ، فتدبّر .
- (1) المبسوط: 8 / 4.
- (2) لم نجده فيه، وحكاه عنه الشهيد الثاني في المسالك: 14 / 471 والعلاّمة في المختلف: 9 / 206 في ذيل مسألة 65.
- (3) شرائع الإسلام: 4 / 951.
- (4) تحرير الأحكام: 2 / 227.
(الصفحة 483)إنكاره إلى تكذيب النبيّ (صلى الله عليه وآله) أو إنكار الشرع ، وإلاّ فيعزّر ، ولو كان انكاره لشبهة ممّن صحّت في حقّه فلا يعزّر . نعم ، لو رفعت شبهته فأصرّ على الإستحلال قتل ; لرجوعه إلى تكذيب النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، ولو ارتكب شيئاً من المحرّمات غير ما قرّر الشارع فيه حدّاً عالماً بتحريمها لا مستحلاًّ عزّر ، سواء كانت المحرّمات من الكبائر أو الصغائر 1.
1 ـ الغرض من هذه المسألة أنّه لا يختصّ الارتداد الموجب للقتل في المرتدّ الفطري إذا كان ذكراً جامعاً لشرائط الحدّ بما إذا أنكر شيئاً من ضروريّات الإسلام ، بل يجري فيما إذا استحلّ شيئاً من المحرّمات التي أجمع فقهاء المسلمين من العامّة والخاصّة على تحريمها كالمحرّمات المذكورة في المتن ، فإنّه إذا رجع استحلاله في شيء منها إلى تكذيب الرسالة أو إنكار الشريعة ، كما إذا حصل له القطع من الإجماع المذكور بكون الحكم في الشريعة هي الحرمة ومع ذلك استحلّها ، يتحقّق الارتداد الذي يترتّب عليه الحكم المذكور ; لما عرفت من أنّ الملاك في الارتداد ليس إنكار الضروريّ ، بل الملاك هو التكذيب المذكور ، ومن الظاهر رجوع الاستحلال في هذا الفرض إلى التكذيب .
ومنه يظهر جريان الحكم فيما إذا استحلّ ما أجمع فقهاء الشيعة على تحريمه مع القطع بموافقة رأي المعصوم (عليه السلام) له ، فإنّ الاستحلال في هذه الصورة يرجع إلى تكذيب الإمام (عليه السلام) ، وتكذيبه من الشيعي القائل بإمامته والمعتقد بموافقة رأيه لرأي النبيّ(صلى الله عليه وآله) يرجع إلى تكذيب النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، فيتحقّق الارتداد .
ولكن استشكل في المسالك في تحقّق الارتداد باستحلال ما اُجمع على تحريمه بقوله : ويشكل بأنّ حجيّة الإجماع ظنيّة لا قطعيّة ، ومن ثَمّ اختلف فيها وفي جهتها ، ونحن لا نكفّر من ردّ أصل الإجماع فكيف نكفّر من ردّ مدلوله؟! فالأصحّ