(الصفحة 652)مسألة 5 : الأقوى في الحدّ تخيير الحاكم بين القتل والصلب والقطع مخالفاً والنفي ، ولا يبعد أن يكون الأولى أن يلاحظ الجناية ويختار ما يناسبها ، فلو قتل اختار القتل أو الصلب ، ولو أخذ المال اختار القطع ، ولو شهر السيف وأخاف فقط اختار النفي ، وقد اضطربت كلمات الفقهاء والروايات ، والأولى ما ذكرنا1.
الجواهر ، نظراً إلى أنّه ينبغي القطع به(1) .
وكيف كان ، فالظاهر في هذا الفرض أيضاً القبول بطريق أولى ، ولكن ربّما يستشعر من التعرّض لخصوص هذا الفرض في المتن والحكم بالقبول فيه عدم القبول في الفرضين السابقين ، ولعلّ الوجه فيه شمول الرواية لهما والحكم باعتبارها ، وقد مرّ الإشكال في الشمول بالإضافة إلى الفرض الثالث ، وفي الإنجبار بالنسبة إلى الفرض الثاني .
1 ـ لا إشكال ولا خلاف في ثبوت هذه الحدود الأربعة للمحارب ، ويدلّ عليه الكتاب والسنّة ، وقد وقع الخلاف في مقامين :
الأوّل : في أنّه هل ثبوت هذه الأمور بنحو التخيير أو بنحو الترتيب؟ فالمحكيّ عن المفيد(2) والصدوق(3) والديلمي(4) والحلّي(5) بل عن أكثر المتأخّرين(6) هو
- (1) جواهر الكلام: 41 / 573.
- (2) المقنعة: 804.
- (3) الهداية للصدوق: 296، المقنع: 450.
- (4) المراسم: 253.
- (5) السرائر: 3 / 505 و 507.
- (6) شرائع الإسلام: 4 / 959 ـ 960، رياض المسائل: 10 / 208 وغيرهما.
(الصفحة 653)
الأوّل . وعن الشيخ(1) والإسكافي(2) والتقي(3) وابن زهرة(4) وأتباع الشيخ(5) هو الثاني ، بل في كشف اللثام نسبته إلى أكثر الكتب(6) ، بل عن نكت الإرشاد أنّه ادّعي عليه الإجماع(7) .
ويدلّ على التخيير ظهور الآية الشريفة الواردة في المحارب فيه ; للتعبير فيها بكلمة «أو» الظاهرة في التخيير ، واستبعاد ذلك بملاحظة عدم كون هذه الأمور من جهة العقوبة واقعة في مرتبة واحدة ; لعدم اتّحاد مرتبة القتل مع القطع ، أو مع النفي ، وكذا القطع مع النفي ، وكذا بملاحظة اختلاف مراتب المحارب من جهة ارتكابه مجرّد الإخافة ، أو هي مع أخذ المال ، أو هما مع الجرح ، أو الجميع مع القتل ، وهكذا ، ممّا لا ينبغي الاتّكال عليه بعد ظهور الآية في التخيير .
ويدلّ عليه أيضاً من الروايات صحيحة جميل بن درّاج قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجل :
{إِنَّمَا جَزَاؤُاْ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاَْرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيدِيهِمْ}(8) إلى آخر الآية أيّ شيء عليه من هذه الحدود التي سمّى الله عزّ وجلّ؟ قال : ذلك إلى الإمام إن شاء قطع ، وإن شاء نفى ، وإن شاء صلب ، وإن شاء قتل ، قلت : النفي إلى أين؟ قال :
- (1) النهاية: 720، الخلاف: 5 / 458 مسألة 2، المبسوط: 8 / 47 ـ 48.
- (2) حكى عنه في مختلف الشيعة: 9 / 257 مسألة 110.
- (3) الكافي في الفقه: 252.
- (4) غنية النزوع: 201 ـ 202.
- (5) المهذّب: 2 / 553، الوسيلة: 206، الجامع للشرائع: 241 ـ 242، فقه القرآن: 2 / 387.
- (6) كشف اللثام: 2 / 431.
- (7) غاية المراد في شرح نكت الإرشاد: 353 ـ 354.
- (8) سورة المائدة 5: 33.
(الصفحة 654)
من مصر إلى مصر آخر ، وقال : إنّ عليّاً (عليه السلام)نفى رجلين من الكوفة إلى البصرة(1) .
ورواية سماعة بن مهران ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قول الله عز وجل :
{إِنَّمَا جَزَاؤُاْ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} قال : الإمام في الحكم فيهم بالخيار ، إن شاء قتل وإن شاء صلب ، وإن شاء قطع ، وإن شاء نفى من الأرض(2) . وبعض الروايات الاُخر .
وأمّا ما يدلّ على الترتيب بنحو الإجمال فهي صحيحة بريد بن معاوية قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ :
{إِنَّمَا جَزَاؤُاْ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ}؟ قال : ذلك إلى الإمام يفعل ما شاء ، قلت : فمفوّض ذلك إليه؟ قال : لا ، ولكن نحو الجناية(3) .
ورواها في الجواهر هكذا قال : «ولكن بحقّ الجناية»(4) ثمّ قال : بناءً على أنّ المراد من حقّها فيه ما تسمعه من النصوص(5) . ومراده النصوص الواردة في الترتيب .
والظاهر وجود الاضطراب في هذه الرواية ; لأنّ مقتضى الجواب عن السؤال الأوّل هو ثبوت التخيير للإمام ، وأنّه يفعل ما يشاء ، وكان من الممكن اقتصار السائل على السؤال الأوّل فقط وعدم التصدّي للسؤال الثاني بوجه ، مع أنّه لم يكن في الجواب إبهام موجب للسؤال الثاني ، مضافاً إلى أنّ مقتضى الجواب الثاني عدم ثبوت التخيير للإمام ، وأنّه لابدّ له من ملاحظة مقدار الجناية ومرتبتها ، وعليه
- (1) وسائل الشيعة: 18 / 533، أبواب حدّ المحارب ب1 ح3.
- (2) وسائل الشيعة: 18 / 536، أبواب حدّ المحارب ب1 ح9.
- (3) وسائل الشيعة: 18 / 533، أبواب حدّ المحارب ب1 ح2.
- (4) وكذا في التهذيب: 10 / 133 ح529.
- (5) جواهر الكلام: 41 / 574.
(الصفحة 655)
فيتعيّن عليه اختيار ما يناسب المرتبة الواقعة من مراتب المحاربة ، وهذا لا يجتمع مع الجواب الأوّل بوجه .
نعم ، لو لا هذا الاضطراب في الرواية ; لكان مقتضى لزوم حمل الظاهر على النصّ حمل روايات التخيير ـ وكذا الآية الظاهرة فيه ـ على هذه الرواية ; لصراحتها في عدم التخيير ، ولزوم ملاحظة نحو الجناية ومقدارها ، كما لا يخفى .
الثاني : في أنّه بعد ثبوت الترتيب ما كيفيّته ، فعن النهاية(1) والمهذّب(2) وفقه الراوندي(3) والتلخيص(4) يقتل إن قتل قصاصاً ، إن كان المقتول مكافئاً له ولم يعف الوليّ ، ولو عفا وليّ الدم ، أو كان غير مكافىء قتله الإمام حدّاً ، ولو قتل وأخذ المال اُستعيد منه عيناً أو بدلا ، وقطعت يده اليمنى ورجله اليسرى ، ثمّ قتل وصلب ، وإن أخذ المال ولم يقتل قطع مخالفاً ونفي ، ولو جرح ولم يأخذ المال اُقتصّ منه أو اُخذ الدية أو الحكومة ونفي ، ولو اقتصر على شهر السلاح نفي لا غير .
وعن المبسوط(5) والخلاف(6) والتبيان(7) : إن قتل قتل ، وإن قتل وأخذ المال قتل وصلب ، وإن اقتصر على أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ، وإن اقتصر على الإخافة فإنّما عليه النفي .
وعن الوسيلة : لم يخل إمّا جنى جناية أو لم يجن ، فإذا جنى جناية لم يخل إمّا جنى
- (1) النهاية: 720.
- (2) المهذّب: 2 / 553.
- (3) فقه القرآن: 2 / 387 ـ 388.
- (4) لم يطبع «التلخيص» للعلاّمة ، لكن حكى عنه في غاية المراد في شرح نكت الإرشاد: 354.
- (5) المبسوط: 8 / 48.
- (6) الخلاف: 5 / 458 مسألة 2.
- (7) التبيان: 3 / 502.
(الصفحة 656)
في المحاربة أو في غيرها ، فإن جنى في المحاربة لم يجز العفو عنه ولا الصلح على مال ، وإن جنى في غير المحاربة جاز فيه ذلك ، وإن لم يجن وأخاف نفي عن البلد ، وعلى هذا حتّى يتوب ، وإن جنى وجرح اقتصّ منه ونفي عن البلد ، وإن أخذ المال قطع يده ورجله من خلاف ونفي ، وإن قتل وغرضه في إظهار السلاح القتل كان وليّ الدم مخيّراً بين القود والعفو والدية ، وإن كان غرضه المال كان قتله حتماً وصلب بعد القتل ، وإن قطع اليد ولم يأخذ المال قطع ونفي ، وإن جرح وقتل اُقتصَّ منه ثمّ قتل وصلب ، وإن جرح وقطع وأخذ المال جرح وقطع للقصاص أوّلا إن كان قطع اليد اليسرى ، ثمّ قطع يده اليمنى لأخذ المال ولم يوال بين القطعين ، وإن كان قطع اليمنى قطعت يمناه قصاصاً ورجله اليسرى لأخذ المال(1) .
والمحكيّ عن الرياض أنّه قال : لم أجد حجّة على شيء من هذه الكيفيّات من النصوص ، وإن دلّ أكثرها على الترتيب في الجملة ، لكن شيء منها لا يوافق شيئاً منها ، فهي شاذّة مع ضعف أسانيدها جملة(2) .
وهنا تفصيل آخر اختاره بعض المعاصرين ، وهو أنّه «من شهر السلاح لإخافة الناس نفي من البلد ، ومن شهر فعقر اقتصّ منه ثمّ نفي من البلد ، ومن شهر وأخذ المال قطعت يده ورجله ، ومن شهر وأخذ المال وضرب وعقر ولم يقتل فأمره إلى الإمام ، إن شاء قتله وصلبه ، وإن شاء قطع يده ورجله ، ومن حارب فقتل ولم يأخذ المال كان على الإمام أن يقتله ، ومن حارب وقتل وأخذ المال فعلى الإمام أن يقطع يده اليمنى بالسرقة ، ثمّ يدفعه إلى أولياء المقتول فيتبعونه بالمال ثمّ يقتلونه ،
- (1) الوسيلة: 206.
- (2) رياض المسائل: 10/ 210.