(الصفحة 194)
وإن شاء تركهم(1) نظراً إلى أنّ موضوع الحكم بالتخيير فيها وإن كان مورد التحاكم والتخاصم ، إلاّ أنّ المستفاد منها ثبوت التخيير في جميع الموارد ، كما لا يخفى .
ثمّ إنّ ظاهر عبارات الفقهاء أنّ أحد طرفي التخيير هو أن يدفعه الإمام إلى أهل نحلته ليقيموا الحدّ على معتقدهم ، ومرجع ذلك إلى عدم الاكتفاء بمجرّد الإعراض والترك وعدم الدخالة ، ولكنّه فسّر الدفع في محكيّ كشف اللثام بالإعراض ، قال: فإن الدفع ليقيم عليه من الحدّ ما يراه أمر بالمنكر إن خالف الواجب في شرعنا . نعم ، يجوز إذا وافقه(2) .
ويؤيّده التعبير بالإعراض في الآية الشريفة ، وبالترك في رواية أبي بصير الأخيرة .
ولكنّ الظّاهر أنّه لا مجال لرفع اليد عن مثل رواية السكوني ، الظاهرة في لزوم الدفع إلى النصارى والتسليم إليهم حتّى يقضوا فيها ما يشاؤا ، ولا مجال معه لدعوى كون الدفع أمراً بالمنكر إن خالف الواجب في شرعنا ; لعدم إحاطتنا بمصالح الأحكام ، والفقيه تابع للدليل ، فهي اجتهاد في مقابل النصّ والفتوى ، كما في الجواهر(3) . وبمثل الرواية يفسّر الإعراض في الآية ويقال بأنّه ليس المراد منها مجرّد الترك ، بل الترك والإرجاع إلى قضاتهم ، فتدبرّ .
ثمّ إنّه يظهر من المتن الترديد في أصل الحكم بالتخيير ، حيث نسب هذا الحكم
- (1) وسائل الشيعة: 18 / 218 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب27 ح1 .
- (2) كشف اللثام: 2/404 .
- (3) جواهر الكلام: 41/336 .
(الصفحة 195)
إلى الأصحاب ، واحتاط لزوماً إجراء أحكام الإسلام عليه ، ولعلّه لأجل كون الحكم على خلاف القاعدة ; لأنّ مقتضاها تعيّن إجراء أحكام الإسلام بعد ثبوتها بالإضافة إلى المسلمين والكافرين ، والحكم على خلاف القاعدة يحتاج ثبوته إلى دليل قويّ ، وليس من بين الأدلّة المذكورة ما ينطبق على قول الأصحاب ، إلاّ رواية السكوني ، وهل يمكن إثبات مثل هذا الحكم بها ؟
ولكن بعد ملاحظة ما ذكرنا يظهر أنّه لا مجال للمناقشة في أصل التخيير ; لدلالة الكتاب والسنّة مضافاً إلى الفتاوى عليه .
بقي الكلام في الفرض المذكور في الذيل ، وهو ما إذا زنى الذمّي بالمسلمة ، وقد نفى الإشكال في المتن عن إجراء الحدّ عليه ـ أي متعيّناً ـ تبعاً لصاحب الجواهر حيث قال: على الإمام قتله ، ولا يجوز الإعراض ; لأنّه هتك حرمة الإسلام وخرج عن الذمّة(1) .
أقول: إن كان مراده أنّه بذلك يخرج حقيقة من الذمّة ، ويدخل في الكافر الحربي الذى يجب قتله ليس إلاّ ، فمن الواضح عدم خروج الذمّي بذلك عن عنوان الذمّة ، بحيث صار من مصاديق الكافر الحربي .
وإن كان مراده أنّ الإسلام حكم في هذا المورد بثبوت القتل ، كما عرفت في الموارد الثلاثة التي كان الحكم فيها القتل ، فذلك لا ينافي ثبوت التخيير ; لأنّ القتل إنّما هو حكمه في الإسلام إذا اريد إجراء أحكام الإسلام عليه ، وأمّا إذا دفع إلى حكّامهم فلا .
وبالجملة : فأيّ فرق بين هذه الصورة ، وبين ما إذا زنى بذات محرم من النسب
- (1) جواهر الكلام: 41/336 .
(الصفحة 196)مسألة 8: لا يقام الحدّ رجماً ولا جلداً على الحامل ، ولو كان حمله من الزنا ، حتى تضع حملها وتخرج من نفاسها إن خيف في الجلد الضرر علىولدها ، وحتى ترضع ولدها إن لم تكن له مرضعة ، ولو كان جلداً إن خيف الإضرار برضاعها ، ولو وجد له كافل يجب عليها الحدّ مع عدم الخوف عليه1.
من جهة كون حكم الإسلام في كلتيهما هو القتل ، ومجرّد كون الموضوع للقتل في المقام هو الذمّي ـ بخلاف الزنا بذات المحرم ، الذي هو أعمّ من المسلم والكافر ـ لا يقتضي الفرق ; لأنّه بعد فرض كون دليل التخيير حاكماً على الأدلّة الأوّلية وناظراً إليها ، لا تكون هذه الجهة بفارقة ; لعدم ملاحظة النسبة في مسألة الحكومة بوجه .
ولكن التحقيق أنّ نسبة أدلّة التخيير الواردة في خصوص الذمّي إلى أدلّة الحدود ، كدليل الزنا بذات محرم ، هي نسبة التخصيص أو التقييد ; لأنّ أدلّة الحدود واردة في مورد عموم المكلّفين من المسلم والكافر ، وأدلّة التخيير بمنزلة الاستثناء الوارد عليها ، كأنّه قيل: الزنا بذات محرم يوجب القتل من أيّ شخص تحقّق إلاّ إذا كان الزاني ذمّياً ، فإنّه لا يتعيّن فيه القتل ، بل يتخيرّ الحاكم بينه وبين أن يدفعه إلى حكّامهم حتّى يقضوا فيه ما أحبّوا .
وإذا كانت النسبة كذلك ، فمن الواضح أنّه لا مجال لكون أدلّة التخيير مخصّصة لما ورد في الذمّي إذا زنى بالمسلمة ; لأنّ النسبة بينها وبينه تكون على العكس ، بمعنى أنّ ما ورد في الذمّي الزاني بالمسلمة يكون مخصّصاً لأدلّة التخيير وبمنزلة الاستثناء لها ، فتصير النتيجة تعيّن القتل في هذا المورد كما أفيد في المتن .
1 ـ أمّا عدم إقامة الحدّ على الحامل ولو كان حمله من الزنا ، فيدلّ عليه ـ مضافاً
(الصفحة 197)
إلى ما في الجواهر من قوله: بلا خلاف أجده نصّاً وفتوى ، بل ولا إشكال مع فرض خوف الضرر على ولدها لو جلدت(1) ـ ما رواه المفيد في الإرشاد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال لعمر وقد اُتي بحامل قد زنت ، فأمر برجمها ، فقال له عليّ (عليه السلام): هب لك سبيل عليها ، أيّ سبيل لك على ما في بطنها ، والله يقول:
{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}(2) فقال عمر: لا عشت لمعضلة لا يكون لها أبو الحسن ، ثمّ قال: فما أصنع بها يا أبا الحسن؟ قال: احتط عليها حتّى تلد ، فإذا ولدت ووجدت لولدها من يكفله فأقم الحدّ عليها(3) .
وموردها وإن كان هو الرجم إلاّ أنّه يستفاد منها خصوصاً بملاحظة الاستشهاد بالآية أنّه لا يجوز إقامة حدّ الجلد أيضاً إذا كان مضرّاً بالولد ، كما أنّ استناد الأصحاب إلى الرواية في الفتوى المذكورة يوجب جبر ضعفها بالإرسال ، خصوصاً بملاحظة الاستشهاد المذكور .
وأمّا عدم إقامة الحدّ عليها حتّى تخرج من نفاسها ، فالظاهر أنّه إن كان الحدّ هو الرجم وقد مات الولد حين وضعه ، أو ولد ميّتاً لا مانع من رجمها أصلا ; لكون مورد الرواية السابقة صورة وجود الولد ، وليس هنا ما يدلّ على تأخير الرجم ، بل لا وجه له . نعم ، لو كان الحدّ هو الرجم ، وكان الولد موجوداً ، لابدّ من ملاحظة الولد ، وأنّه هل يوجد له كافل أم لا؟ وأنّه هل يكون هناك خوف بالإضافة إليه أم لا؟ والمنشأ هي الرواية المتقدّمة بضميمة الاستشهاد المذكور فيها .
وأمّا لو كان الحدّ هو الجلد ، فإن كان في ذلك خوف التلف بالإضافة إليها ،
- (1) جواهر الكلام: 41/337 .
- (2) سورة فاطر35: 18 .
- (3) الإرشاد للمفيد: 1 / 204 ، وسائل الشيعة: 18 / 381 ، أبواب حدّ الزنا ب16 ح7 .
(الصفحة 198)
فالظّاهر لزوم التأخير; لقول أمير المؤمنين (عليه السلام): إنّ أمة لرسول الله(صلى الله عليه وآله) زنت فأمرني أن أجلدها فإذا هي حديث بنفاس ، فخشيت أن أجلدها فأقتلها ، فذكرت ذلك للنبيّ(صلى الله عليه وآله) فقال: دعها حتّى ينقطع دمها ، ثمّ أقم عليها الحدّ(1) . كما أنّه لو كان في ذلك خوف الضرر على ولدها يلزم التأخير ، لما يستفاد من رواية الإرشاد المتقدّمة .
وممّا ذكرنا تظهر المناقشة في عبارة المتن من جهتين: من جهة أنّ مقتضى إطلاقها لزوم تأخير الرجم حتّى تخرج من نفاسها ، ولو فرض موت الولد حين وضعه مثلا ، مع أنّه لا دليل عليه ، وإن كان مقتضى جملة من الروايات المرسلة المنقولة في المستدرك عن الجعفريات والدعائم والعوالي عدم إقامة الحدّ على النفساء مطلقاً حتّى تطهر(2) ، إلاّ أنّ الظّاهر عدم إلتزام الأصحاب به ، وإن كان مقتضى جملة من عباراتهم أيضاً ذلك ، كعبارة المحقّق في الشرائع(3) . لكن صاحب الجواهر(قدس سره) قد صرّح بأنّه لو مات الولد حين وضعه رجمت(4) ، من غير إشعار باحتمال الخلاف في المسألة .
ومن جهة تقييد الخروج من النفاس بخصوص ما إذا خيف الضرر في الجلد على الولد ، مع أنّه ربّما يخاف على نفسها أيضاً كما عرفت في الرواية المتقدّمة .
وأمّا عدم إقامة الحدّ عليها حتّى ترضع إن لم يكن له مرضعة ، فيدلّ عليه ـ مضافاً إلى رواية الإرشاد المتقدّمة ; لأنّ الاحتياج إلى المرضعة أقوى من الاحتياج إلى الكافل ـ موثقة عمّار الساباطي قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن محصنة زنت
- (1) سنن البيهقي: 8/229 ، سنن أبي داود: 4 / 400 ح4473 .
- (2) مستدرك الوسائل: 18 / 16 ، أبواب مقدّمات الحدود ب11 .
- (3) شرائع الإسلام: 4/938 .
- (4) جواهر الكلام: 41/339 .