(الصفحة 264)
جَلْدَة}(1) وقوله تعالى:
{السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}(2)نظراً إلى أنّ المخاطب فيه هو الحكّام الّذين بيدهم الحكم وفصل الخصومة وإجراء الحدود ، وقد علّق فيه الحكم على مثل عنوان الزاني والسارق ، فإذا كان هذا العنوان محرزاً للحاكم من طريق العلم الذي لا يشوبه ريب ، فالواجب عليه إقامة الحدّ وإجرائه ، لعدم توقّف إجرائه على شيء آخر غير تحقّق نفس هذا العنوان ، ولا إشارة في مثله إلى مدخليّة شيء آخر في الموضوع ، مثل كونه ثابتاً من طريق خصوص البيّنة ، أو الإقرار ، فملاحظة مثل الآيتين تقتضي لزوم إجراء الحدّ مع إحراز عنوان الموضوع من طريق العلم .
ولكن هذا الدليل لا يجري في جميع صور المدّعى ، لعدم جريانه في الأموال ، فلابدّ إمّا الأخذ بما في الانتصار حيث قال: وإذا ثبت ذلك في الحدود فهو ثابت في الأموال ; لأنّ من أجاز ذلك في الحدود أجازه في الأموال ، ولم يجزه أحد من الامّة في الحدود دون الأموال(3) ، وإمّا الالتزام بما في الجواهر من دعوى الأولويّة(4) .
ولكنّ الظّاهر جريان المناقشة في كليهما ، لما عرفت من نقل المسالك عن كتاب ابن الجنيد الجواز في الحدود ، أي حدود الله دون حقوق النّاس ، ولمنع الأولويّة بعد ثبوت الاتّهام في حقوق الناس كثيراً ، كما لا يخفى .
الرابع: ما ذكره في الإنتصار في جملة الأدلّة من قوله: وكيف يخفى إطباق الإماميّة على وجوب الحكم بالعلم ، وهم ينكرون توقّف أبي بكر عن الحكم لفاطمة بنت
- (1) سورة النور 24: 2 .
- (2) سورة المائدة5: 38 .
- (3) الإنتصار: 492 .
- (4) جواهر الكلام: 40/88 .
(الصفحة 265)
رسول الله (عليها السلام) بفدك ، لما أدّعت أنّه أنحلها أبوها؟ ويقولون: إذا كان عالماً بعصمتها وطهارتها وأنّها لا تدّعي إلاّ حقّاً ، فلا وجه لمطالبتها بإقامة البيّنة ; لأنّ البيّنة لا وجه لها مع العلم بالصدق(1) .
الخامس: الآيات الدالّة على وجوب الحكم بين النّاس بالحقّ ، أو بالقسط ، أو بالعدل ، كقوله تعالى:
{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الاَْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ }(2) . وقوله تعالى مخاطباً للنبيّ(صلى الله عليه وآله):
{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}(3)وقوله تعالى:
{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ }(4) فإنّ هذه العناوين أمور واقعية ، والعلم الكاشف عنها أكمل طرق الكشف وأوضحها ، ومن الواضح عدم اختصاص الحكم في الأوّلين بخصوص المخاطب فيهما .
السادس: ظهور كون الوجه في حجيّة البيّنة والإقرار ، ومثلهما هو الكشف عن الواقع من دون أن يكون لها موضوعية تعبديّة ، ومن الواضح كون العلم أقوى منها في الملاك; لكونه الكاشف التامّ دونها .
السابع: ماذكره في الجواهر من استلزام عدم القضاء على طبق العلم عدم وجوب إنكار المنكَر ، وعدم وجوب إظهار الحقّ مع إمكانه ، وذلك لأنّه إذا علم بطلان قول أحد الخصمين، فإن لم يجب عليه منعه عن الباطل لزم ما ذكر ، وإلاّ ثبت المطلوب(5).
الثامن: رواية الحسين بن خالد ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال سمعته يقول: الواجب
- (1) الإنتصار: 488 .
- (2) سورة ص 38: 26 .
- (3) سورة المائدة5: 42.
- (4) سورة النساء 4: 58 .
- (5) جواهر الكلام: 40/88 .
(الصفحة 266)
على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحدّ ، ولا يحتاج إلى بيّنة مع نظره ، لأنّه أمين الله في خلقه ، وإذا نظر إلى رجل يسرق أن يزبره وينهاه ويمضي ويدعه ، قلت: وكيف ذلك؟ قال: لأنّ الحقّ إذا كان لله فالواجب على الإمام إقامته ، وإذا كان للناس فهو للناس(1) .
والظّاهر عدم كون المراد بالإمام فيها هو الإمام المعصوم ، بل الإمام أو نائبه في جميع الأعصار ، والتعليل بقوله (عليه السلام): «لأنّه أمين الله في خلقه» لا ينافيه ، وعلى تقديره فالتعبير في الذيل بقوله (عليه السلام): «لأنّ الحقّ . . .» ظاهر في عدم الاختصاص ، وسيجيء المراد من التفصيل المذكور فيها .
ثمّ إنّه ربّما يستدلّ على الجواز أيضاً ببعض الروايات ، مثل:
ما رواه الصدوق بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: جاء أعرابيّ إلى النبي(صلى الله عليه وآله) ، فادّعى عليه سبعين درهماً ثمن ناقة باعها منه ، فقال: قد أوفيتك ، فقال: إجعل بيني وبينك رجلا يحكم بيننا ، فأقبل رجل من قريش ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): احكم بيننا ، فقال للأعرابي: ما تدّعي على رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ فقال: سبعين درهماً ثمن ناقة بعتها منه ، فقال: ما تقول يا رسول الله؟ فقال: قد أوفيته ، فقال للأعرابي: ما تقول؟ فقال: لم يوفني ، فقال لرسول الله(صلى الله عليه وآله): ألك بيّنة أنّك قد أوفيته؟ قال: لا ، فقال للأعرابي أتحلف أنّك لم تستوف حقّك وتأخذه؟ قال: نعم . فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): لأتحاكمنّ مع هذا إلى رجل يحكم بيننا بحكم الله ، فأتى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)ومعه الأعرابي ، فقال عليّ (عليه السلام): ما لك يارسول الله؟ قال: يا أبا الحسن احكم بيني وبين هذا الأعرابيّ ، فقال عليّ (عليه السلام): يا أعرابي ما تدّعي على
- (1) وسائل الشيعة: 18 / 344 ، أبواب مقدّمات الحدود ب32 ح3 .
(الصفحة 267)
رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ قال: سبعين درهماً ثمن ناقة بعتها منه ، فقال: ما تقول يا رسول الله؟ قال: قد أوفيته ثمنها ، فقال: يا أعرابي أصَدَق رسول الله(صلى الله عليه وآله)فيما قال ، قال الأعرابيُّ: لا ما أوفاني شيئاً ، فأخرج عليّ (عليه السلام) سيفه فضرب عنقه . فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): لِمَ فعلت يا عليّ ذلك؟ فقال: يا رسول الله(صلى الله عليه وآله): نحن نصدّقك على أمر الله ونهيه ، وعلى أمر الجنّة والنار ، والثواب والعقاب ، ووحي الله عزّ وجل ، ولا نصدّقك على ثمن ناقة الأعرابي؟ وإنّي قتلته لأنّه كذّبك لما قلت له: أصدق رسول الله(صلى الله عليه وآله)فقال: لا ما أوفاني شيئاً ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): أصبت يا عليّ فلا تعد إلى مثلها ، ثمّ التفت إلى القرشيّ وكان قد تبعه فقال: هذا حكم الله لا ما حكمت به(1) .
ومثل الرواية المشتملة على قصّة درع طلحة ، حيث رآها عليّ (عليه السلام) حينما كان قاعداً في مسجد الكوفة مع عبدالله بن قفل التميمي ، فقال: هذه درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة، فتراضيا بشريح القاضي ، فقال لعليّ (عليه السلام): هات على ما تقول بيّنة، فقال عليّ (عليه السلام) بعد ما أتى بالحسن شاهداً أوّلا وبقنبر ثانياً وعدم قبوله لهما ، نظراً إلى أنّ الأوّل شاهد واحد والثاني مملوك: إنّ هذا قضى بجور ثلاث مرّات ـ إلى أن قال: ـ ويلك أو ويحك إنّ إمام المسلمين يؤمن من أمورهم على ما هوأعظم من هذا(2).
ولكنّ الظّاهر عدم تماميّة الاستدلال بمثل هذه الروايات التي إمّا أن يكون موردها صورة كون الحاكم إماماً معصوماً ، وإمّا أن يكون أحد المتخاصمين كذلك ; لأنّ جواز حكم الإمام المعصوم بعلمه لا يستلزم الجواز للحكّام ، وكذا جواز الحكم للمعصوم كذلك لا يستلزمه بعد كون عدم الحكم على طبقه مستلزماً
- (1) وسائل الشيعة: 18 / 200 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ب18 ح1 .
- (2) وسائل الشيعة: 18 / 194 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ب14 ح6 .
(الصفحة 268)
لتنقيص شأنه ، وتنزيل مقامه ، وإنحطاط رتبته كما لا يخفى ، ويؤيّده نهي النبي(صلى الله عليه وآله)عن العود إلى مثل القضاء الواقع في الرواية الاُولى .
ثمّ إنّ صاحب الجواهر بعد ذكر الأدلّة المتقدّمة ، ونقل كلام الانتصار في الردّ على ابن الجنيد قال: ولكنّ الإنصاف أنّه ليس بتلك المكانة من الضعف ، ضرورة أنّ البحث في أنّ العلم من طرق الحكم والفصل بين المتخاصمين ولو من غير المعصوم في جميع الحقوق أو لا ، وليس في شيء من الأدلّة المذكورة ـ عدا الإجماع منها ـ دلالة على ذلك ، والأمر بالمعروف ووجوب إيصال الحقّ إلى مستحقّه ، بل كون العلم حجّة على من حصل له يترتّب عليه سائر التكاليف الشرعية لا يقتضي كونه من طرق الحكم ، بل أقصى ذلك ما عرفت ، وأنّه لا يجوز له الحكم بخلاف علمه ، بل لعلّ أصالة عدم ترتّب آثار الحكم عليه يقتضي عدمه(1) .
وهذا الكلام منه عجيب جدّاً ; لأنّ ملاحظة الأدلّة المتقدّمة تقتضي لزوم الحكم على طبق العلم وإحقاق الحقوق بسببه ، سواء كان لله أو للناس ، أفليس مقتضى الآيات الدالّة على لزوم الحكم بالحقّ أو بالقسط أو بالعدل ذلك ؟ وهل يمكن أن يتوهّم أنّ مقتضاها مجرّد عدم جواز الحكم بخلاف علمه ؟ إلاّ أن يقال: بأنّ صاحب الجواهر لم يتعرّض لهذا الوجه ، وهل ليس مقتضى الدليل الوارد في الزنا والسرقة والآيات الدالّة على حكمهما لزوم إجراء الحدّ بعد ثبوتهما بالعلم؟ ، كما أنّ مقتضى استفادة الملاك من اعتبار البيّنة التي يجب القضاء على طبقها لزوم ترتيب الآثار على العلم الذي هو أقوى منها ، وهكذا سائر الأدلّة المتقدّمة .
نعم ، قد عرفت المناقشة في الاستدلال بالإجماع الذي استثناه صاحب الجواهر
- (1) جواهر الكلام: 40/89 .