(الصفحة 313)
نظراً إلى أنّ الجمع يقتضي حمل الاُولى على بيان الحدّ الأقلّ ، والثانية على بيان الحدّ الأكثر ، والاختيار بنظر الحاكم في الحدّين وما بينهما .
ولكن حيث إنّ الرواية الاُولى ضعيفة ، ولا تكون في البين شهرة جابرة ; لكون الشهرة الموجودة إنّما هى بين المتأخّرين ، فلا مجال لهذا القول ، وأمّا الرواية الثانية فالظّاهر كونها صحيحة ، وإن كان ظاهر الجواهر كونها ضعيفة أيضاً(1) ، ولعلّه لتردّد ابن سنان بين محمّد وعبدالله ، مع أنّه قد صرّح في السند كما في الوسائل بكونه هو عبدالله الذي هو ثقة .
ثانيها: ما عن الصدوق في المقنع(2) وأبي عليّ(3) من ثبوت الحدّ مائة سوط ، ويدلّ عليه روايات مستفيضة ، مثل:
صحيحة أبي عبيدة ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان عليّ (عليه السلام) إذا وجد رجلين في لحاف واحد مجرّدين جلدهما حدّ الزاني ، مائة جلدة كلّ واحد منهما ، وكذلك المرأتان إذا وجدتا في لحاف واحد مجرّدتين جلدهما كلّ واحدة منهما مائة جلدة(4) .
وصحيحة الحلبي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: حدّ الجلد أن يوجدا في لحاف واحد ، والرجلان يجلدان إذا وجدا في لحاف واحد الحدّ ، والمرأتان تجلدان إذا اُخذتا في لحاف واحد الحدّ(5) . وإضافة الحدّ إلى الجلد ليست بيانيّة; لعدم كون المراد بالحد هو الحدّ المعروف في باب الحدود ; لعدم إستقامة الكلام حينئذ وعدم
- (1) جواهر الكلام: 41/384 .
- (2) المقنع: 433 .
- (3) حكى عنه في مختلف الشيعة: 9/193 مسألة50 .
- (4) وسائل الشيعة: 18 / 366 ، أبواب حدّ الزنا ب10 ح15 .
- (5) وسائل الشيعة: 18 / 363 ، أبواب حدّ الزنا ب10 ح1 .
(الصفحة 314)
صحّة الحمل ، بل المراد به هو المنتهى ، وضمير التثنية في «يوجدا» يرجع إلى الرجل والمرأة; لوقوع الفرضين الآخرين في مقابله كما هو ظاهر .
وصحيحة عبدالله بن سنان ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال سمعته يقول: حدّ الجلد في الزنا أن يوجدا في لحاف واحد ، والرجلان يوجدان في لحاف واحد ، والمرأتان توجدان فى لحاف واحد(1) .
وصحيحة عبدالله بن مسكان ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال سمعته يقول: حدّ الجلد في الزنا أن يوجدا في لحاف واحد ، والرجلان يوجدان في لحاف واحد ، والمرأتان توجدان في لحاف واحد(2) . وقد جعلها في الوسائل روايتين مع وضوح كونها رواية واحدة .
وصحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: كان عليّ (عليه السلام)إذا وجد الرجلين في لحاف واحد ضربهما الحدّ ، فإذا أخذ المرأتين في لحاف واحد ضربهما الحدّ(3) .
وذيل صحيحة حسين بن سعيد المتقدّمة: وما حدّ رجلين وجدا نائمين في ثوب واحد؟ فكتب: مائة سوط(4) .
وفي مقابل هذه الروايات روايات تدلّ على الأقلّ من المائة ، أو على تعيين المائة إلاّ سوطاً ، مثل:
صحيحة عبدالله بن سنان المتقدّمة ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في رجلين يوجدان في لحاف واحد؟ قال: يجلدان غير سوط واحد .
- (1) وسائل الشيعة: 18 / 363 ، أبواب حدّ الزنا ب10 ح4 .
- (2) وسائل الشيعة: 18 / 368 ، أبواب حدّ الزنا ب10 ح22 ، 23 .
- (3 ، 4) وسائل الشيعة: 18 / 365 ، أبواب حدّ الزنا ب10 ح6 و5 .
(الصفحة 315)
وصحيحة معاوية بن عمّار قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): المرأتان تنامان في ثوب واحد ، فقال: تضربان ، فقلت: حدّاً؟ قال: لا ، قلت: الرجلان ينامان في ثوب واحد ، قال: يضربان ، قال: قلت: الحدّ؟ قال: لا(1) . وليس المراد بقوله: حدّاً هو السؤال عن الكيفيّة بعد الفراغ عن كون الضرب مائة ، وأنّه هل هو على سبيل التعزير أو الحدّ ، وإن كان يؤيّده الاقتصار على الضرب في مقام الجواب عن السؤال كما لا يخفى ، بل المراد هو السؤال عن الكميّة كما هو ظاهر .
وربّما يجمع بين الطائفتين بالحمل على التخيير ، كما أنّه ربّما تحمل روايات المائة على التقيّة ، استناداً إلى صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) فدخل عليه عباد البصري ومعه اُناس من أصحابه ، فقال له: حدِّثني عن الرجلين إذا اُخذا في لحاف واحد ، فقال له: كان عليّ (عليه السلام) إذا أخذ الرجلين في لحاف واحد ضربهما الحدّ ، فقال له عباد: إنّك قلت لي: غير سوط ، فأعاد عليه ذكر الحديث (الحدّ خ ل) حتّى أعاد ذلك مراراً فقال: غير سوط ، فكتب القوم الحضور عند ذلك ، الحديث(2) .
نظراً إلى دلالتها على أنّ الإمام (عليه السلام) كان ممتنعاً عن بيان أنّ الجلد أقل من المائة بسوط ، ولعلّه لأجل من كان مع عبّاد من أصحابه ، حيث إنّه كان من علماء العامّة وبعد إصراره التجأ الإمام (عليه السلام) إلى بيان الحكم الواقعي ، فهذه الصحيحة شاهدة على حمل روايات المائة على التقيّة وإن كانت مستفيضة .
ويرد على هذا الحمل ـ مضافاً إلى أنّ الظّاهر كون فتاوى العامّة التعزير ، كما
- (1) وسائل الشيعة: 18 / 367 ، أبواب حدّ الزنا ب10 ح16 .
- (2) وسائل الشيعة: 18 / 363 ، أبواب حدّ الزنا ب10 ح2 .
(الصفحة 316)
يظهر من كتاب الخلاف للشيخ الطوسي(قدس سره)(1) ـ أنّ الظاهر كون الحكم الواقعي في الرواية هو الحكم المذكور أوّلا ; لإسناده إلى فعل عليّ (عليه السلام) ، وأنّ عمله المستمرّ كان هو ضرب الحدّ ، ومن الواضح أنّه لا مجال للتقيّة بهذه الصورة بعد تحقّقها بنفس بيان الحكم من غير إسناد ، وبعد إصرار عبّاد وتكراره السؤال التجأ إلى بيان ما هو موافق لمذهبه ، ولعلّه لأجل أنّ عبّاد نقل ما سمعه منه (عليه السلام) قبلا من استثناء سوط واحد على أصحابه ، فاتّفق في المجلس الذي كان معه اُناس منهم خلاف ذلك ، ومن الواضح أنّ مثل ذلك كان ثقيلا عليه موجباً لوقوعه في معرض اتّهام الكذب في نقل الحديث والرواية ، فصار ذلك موجباً لإصراره عليه حتّى التجأ الإمام إلى بيان الحكم على طبق ما سمعه منه قبلا من الاستثناء المذكور ليخرج من هذا الاتّهام .
فالإنصاف دلالة الصحيحة بعد التأمّل فيها على كون الحكم الواقعي هو المائة دون الأقلّ .
وأمّا الحمل على التخيير فلا وجه له أصلا ، سواء كان المراد منه هو التخيير الاُصولي الذي مرجعه إلى أنّه يكون المجتهد مخيّراً في الأخذ بأحد الطرفين ، أو التخيير الفقهي الذي معناه كون الحكم هو التخيير بين المائة وبين الأقلّ ، كما في سائر الأحكام التخييريّة ، أمّا الثاني فواضح ، وأمّا الأوّل فلأنّه لا تصل النوبة إلى التخيير بعد ثبوت المرجّح من موافقة المشهور أو مخالفة العامّة ، كما هو واضح .
كما أنّه لا مجال لما حكي عن الشيخ(قدس سره) من حمل روايات المائة على ما إذا تكرّر منهما الفعل وتخلّل التعزير(2); لعدم الشاهد عليه أصلا ، بعد اتّحاد التعبير في كلتا
- (1) الخلاف: 5/374 مسألة 9 ، المجموع: 21/316 .
- (2) التهذيب: 10/44 ، الإستبصار: 4/216 .
(الصفحة 317)
الطائفتين ، كما لا يخفى .
والتحقيق أن يقال: بأنّ المشهور قد أعرضوا عن روايات المائة ، ولم يفت على طبقها سوى الصدوق(1) وأبي عليّ(2) ، وأمّا روايات المائة إلاّ سوطاً فهي موافقة للمشهور ، لاعتنائهم بها ، وجعلهم العدد بعنوان الحدّ الأكثر حتّى المفيد(3)وابن زهرة(4) القائلين بأنّ التعزير هنا من عشرة إلى تسعة وتسعين سوطاً ، بحسب ما يراه الحاكم من مثلهما في الحال ، وبحسب التهمة لهما والظنّ بهما ، فإنّه وإن قال في الجواهر: بأنّه لم أقف له ـ أي لهذا القول ـ على دليل(5) إلاّ أنّ عدم وقوفه عليه إنّما هو بلحاظ الحدّ الأقلّ ، وإلاّ فبالنسبة إلى الأكثر فهو موافق للمشهور ، ويكفي هذا المقدار من الموافقة للشهرة الفتوائيّة في لزوم الأخذ بالرواية الموافقة ، وإن كان ظهورها في تعيّن تسعة وتسعين غير مفتى به لهم ; لوجود مثل رواية سليمان بن هلال المتقدّمة ، التي يكون مقتضى الجمع بينها وبين هذه الروايات هو الحمل على بيان الحدّين .
وحيث لا تكون رواية سليمان معتبرة لضعفها وعدم الجابر كما عرفت ، فلا مانع من الأخذ بهذه الروايات ، والحكم بلزوم الحدّ غير السوط ، ومع وجود الشهرة التي هي أوّل المرجّحات لا تصل النوبة إلى مخالفة العامّة ، فالإنصاف أنّ الحكم بذلك لو لم يكن أقوى يكون مقتضى الاحتياط الوجوبي كما هو ظاهر المتن ، فتدبّر .
- (1) المقنع: 433 .
- (2) حكى عنه في مختلف الشيعة: 9/193 .
- (3) المقنعة: 785 .
- (4) غنية النزوع: 435 .
- (5) جواهر الكلام: 41/385 .