(الصفحة 374)
الفرية المصرّحة يظهر منه أنّ المراد به مطلق السبّ غير البالغ مرتبة القذف .
وبملاحظة ما ذكرنا لا يبقى إشكال في ثبوت التعزير فقط في الموارد المذكورة في المتن وأمثالها ممّا يوجب استخفاف الغير من دون تحقّق القذف ، وقد قيّده في المتن بما إذا لم يكن الغير مستحقّاً للاستخفاف المذكور ، مصرّحاً بعدم ثبوت شيء في صورة الاستحقاق ، ونقول :
منشأ الاستحقاق وموجبه إن كان هو الكفر ، فسيأتي البحث فيه في الأُمور المعتبرة في القذف . وإن كان هو التظاهر والتجاهر بالفسق ، فقد وردت فيه رواية هارون بن الجهم ، عن الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام) قال : إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة(1) .
وإن كان هو البدعة والرّيبة ، فقد وردت فيه رواية داود بن سرحان ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : إذا رأيتم أهل الرّيب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم ، وأكثروا من سبّهم ، والقول فيهم ، والوقيعة ، وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ، ويحذرهم الناس ولا يتعلّمون من بدعهم ، يكتب الله لكم بذلك الحسنات ، ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة(2) .
وظاهر الرواية الوجوب لا مجرّد الجواز بل الرجحان ، والظاهر أنّه من باب وجوب النهي عن المنكر ، وعليه فربما يترتّب على تركه التعزير كما لا يخفى .
- (1) وسائل الشيعة: 8 / 604، كتاب الحجّ، أبواب أحكام العشرة ب154 ح4.
- (2) وسائل الشيعة: 11 / 508، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب39 ح1.
(الصفحة 375)
القول في القاذف والمقذوف
مسألة 1 : يعتبر في القاذف البلوغ والعقل ، فلو قذف الصبيّ لم يحدّ وإن قذف المسلم البالغ العاقل . نعم ، لو كان مميّزاً يؤثّر فيه التأديب اُدّب على حسب رأي الحاكم ، وكذا المجنون ، وكذا يعتبر فيه الإختيار ، فلو قذف مكرهاً لا شيء عليه .
والقصد ، فلو قذف ساهياً أو غافلا أو هزلا لم يحدّ 1.
1 ـ يدلّ على اعتبار البلوغ والعقل في القاذف الذي يجب أن يحدّ ـ مضافاً إلى أنّ ترتّب الحدّ وثبوته إنّما هو في مورد ثبوت الحرمة الفعليّة ، واتّصاف العمل بكونه محرّماً كذلك ، ومن الواضح عدم ثبوت التكليف الفعلي في موردهما ، لحديث رفع القلم عنهما(1) ـ رواية أبي مريم الأنصاري قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الغلام
- (1) وسائل الشيعة: 1 / 32، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات ب4 ح11، وج19 / 66، أبواب القصاص في النفس ب36 ح2.
(الصفحة 376)مسألة 2 : لو قذف العاقل أو المجنون أدواراً في دور عقله ، ثمّ جنّ العاقل وعاد دور جنون الأدواري ثبت عليه الحدّ ولم يسقط ، ويحدّ حال جنونه1.
لم يحتلم يقذف الرجل هل يجلد؟ قال : لا ، وذلك لو أنّ رجلا قذف الغلام لم يجلد(1) .
وفي السند قاسم بن سليمان ، ولم يرد فيه توثيق بالخصوص ، إلاّ أنّه من الرواة الواقعة في بعض أسانيد تفسير عليّ بن إبراهيم(2) ، الذي صرّح في مقدّمته بوثاقة جميع رواة أسانيد الأحاديث الواردة في كتابه ، وبأنّه اقتصر في نقل الرواية فيه على ما رواه الثقات ، ولعلّ هذا المقدار من التوثيق يكون كافياً .
وصحيحة فضيل بن يسار قال سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : لا حدّ لمن لا حدّ عليه ، يعني لو أنّ مجنوناً قذف رجلا لم أر عليه شيئاً ، ولو قذفه رجل فقال : يا زان ، لم يكن عليه حدّ ، ورواه إسحاق بن عمّار ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) نحوه(3) .
وأمّا اعتبار الإختيار ، فيدلّ على رفع الحكم التكليفي وكذا الحكم الوضعي مع الاستكراهوعدم الاختيار مثل حديث الرفع المعروف(4) ولا حاجة إلى دليل خاصّ، وأمّا اعتبار القصد ، فيمكن أن يكون لأجل مدخليّته في ماهيّة القذف ; لعدم كون القدف مع عدمه قذفاً عند العرف ، وعلى تقديره فلا حرمة مع عدم القصد .
1 ـ وجه عدم السقوط أنّه لا دليل عليه بعد تحقّق القذف في حال العقل أو دوره . وأمّا إجراء الحدّ عليه في حال الجنون ; فلأنّ المفروض ثبوت التمييز علىوجه يؤثّر فيه الحدّ ، فلا وجه للتأخير .
- (1) وسائل الشيعة: 18 / 439، أبواب حدّ القذف ب5 ح1.
- (2) تفسير القمّي: 1 / 383 في تفسير قوله تعالى في سورة النحل 16: 16: (وَعَلاَمَات وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ).
- (3) وسائل الشيعة: 18 / 332، أبواب مقدّمات الحدود ب19 ح1.
- (4) وسائل الشيعة: 11 / 295، أبواب جهاد النفس ب56.
(الصفحة 377)مسألة 3 : يشترط في المقذوف الإحصان ، وهو في المقام عبارة عن البلوغ والعقل والحريّة والإسلام والعفّة ، فمن استكملها وجب الحدّ بقذفه ، ومن فقدها أو فقد بعضها فلا حدّ على قاذفه ، وعليه التعزير ، فلو قذف صبيّاً أو صبيّة أو مملوكاً أو كافراً يعزّر ، وأمّا غير العفيف فإن كان متظاهراً بالزنا أو اللواط فلا حرمة له ، فلا حدّ على القاذف ولا تعزير ، ولو لم يكن متظاهراً بهما فقذفه يوجب الحدّ ، ولو كان متظاهراً بأحدهما ففيما يتظاهر لا حدّ ولا تعزير ، وفي غيره الحدّ على الأقوى ، ولو كان متظاهراً بغيرهما من المعاصي فقذفه يوجب الحدّ 1.
ثمّ إنّه لم يقع التعرّض في المتن للسكران ، وقد وردت فيه رواية زرارة ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : قال : إنّ عليّاً (عليه السلام) كان يقول : إنّ الرجل إذا شرب الخمر سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى إفترى ، فاجلدوه حدّ المفتري(1) .
ويستفاد منها أنّ الحدّ المترتّب على شرب المسكر إنّما هو لأجل ملازمته مع القذف والافتراء ، فيدلّ على ثبوت حدّ القذف في حال السكر كما لا يخفى . لكن سيأتي البحث في أنّ شرب المسكر هل له موضوعيّة في ثبوت الحدّ ، أو أنّه يترتّب عليه ذلك لأجل الملازمة المذكورة ؟
1 ـ قد وقع تفسير الإحصان بتحقّق الامور الخمسة المذكورة في المتن في كلام الفقهاء ، فإن كان المراد بالإحصان المذكور في آية القذف بقوله تعالى :
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ}(2) هو مجموع هذه الامور ، فالظاهر أنّه لا دليل عليه ، وأنّ
- (1) وسائل الشيعة: 18 / 467، أبواب حدّ المسكر ب3 ح4.
- (2) سورة النور 24: 4.
(الصفحة 378)
المراد بالإحصان فيه هو العفّة . وإن كان المراد أنّ الإحصان في مقام القذف له اصطلاح خاصّ فقهي فلا بأس بالالتزام به . وكيف كان ، فلابدّ من إقامة الدليل على اعتبار كلّ واحد من هذه الأمور الخمسة ، فنقول :
يدلّ على اعتبار البلوغ والعقل الروايات الثلاثة المتقدّمة في القاذف ، ورواية عاصم بن حميد ، عن أبي بصير ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الرجل يقذف الصبيّة يجلد؟ قال : لا ، حتّى تبلغ(1) .
ورواية عاصم بن حميد ، أو هو عن أبي بصير قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يقذف الجارية الصغيرة ؟ قال : لا يجلد إلاّ أن تكون أدركت أو قاربت (قارنت خ ل)(2) .
وعلى تقدير كون الراوي أبا بصير لا تكون هذه الرواية رواية مستقلّة ، بل متّحدة مع الرواية الاُولى . وكيف كان ، فربّما يفسّر الإدراك برؤية الحيض والمقاربة بإكمالها تسع سنين ، والظاهر أنّ الإدراك بمعنى البلوغ الواقع في الرواية الاُولى ، والمقاربة هي القرب منه ، غاية الأمر أنّه مخالف للفتاوى كما لا يخفى .
ويدلّ على اعتبار الحريّة صحيحة أبي بصير ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : من افترى على مملوك عزِّر لحرمة الإسلام(3) .
ويمكن المناقشة في دلالة الرواية بعدم ظهورها في كون المراد من التعزير فيها هو التعزير في مقابل الحدّ ; لأنّه يحتمل أن يكون المراد به هو الحدّ ; لأنّها في مقام دفع توهّم عدم الثبوت ، ويؤيّده التعليل المذكور فيه ، فتدبّر .
- (1) وسائل الشيعة: 18 / 440، أبواب حدّ القذف ب5 ح4.
- (2) وسائل الشيعة: 18 / 439، أبواب حدّ القذف ب5 ح3.
- (3) وسائل الشيعة: 18 / 436، أبواب حدّ القذف ب4 ح12.