(الصفحة 558)
الظاهر بملاحظة ما عرفت من أنّ الحرز له معنى عرفيّ ويعتبر الرجوع في معناه إليه عدم كون مثل باب الحرز حرزاً ، وإن كان مثبتاً في العمارة ; لأنّه عبارة عن الشيء المعدّ لحفظ مال آخر ولا يشمل نفسه ، إلاّ أن يكون مثل الباب الداخل الذي يكون محرزاً بالباب الخارج ، وبالجملة فالظاهر عدم كون مثل الباب الخارج عند العرف محرزاً ، فلا قطع بسرقته .
ثمّ أنّه لو شكّ في ذلك ، فربّما يقال : بأنّ الشُّبهة مفهوميّة ، والتقييد منفصل ، والمرجع هو الإطلاق بعد صدق السارق عليه حقيقة ، فلا مجال حينئذ للرجوع إلى قاعدة درء الحدود بالشّبهات ، كما يستفاد من الجواهر(1) ; لأنّه لا معنى للرجوع إليها بعد شمول إطلاق دليل القطع له ، كما لا يخفى .
هذا، ولكنّ الظاهرأنّ جواز الرجوع إلى الإطلاق إنّما يبتني على أن يكون اعتبار الحرز مستنداً إلى دليل شرعي آخر ، مثل الروايات المتقدّمة في هذا الباب ، وأمّا لو قلنا: بأنّ الحرزإنّمايكون معتبراًفي حقيقة السرقة ومعناها، نظراًإلى أنّ العرف لايطلق عنوانها على إخراج المال من غير حرز ، فلا مجال للرجوع إلى الإطلاق حينئذ .
ويمكن الاستشهاد لهذا القول ببعض الروايات المتقدّمة في مسألة اعتبار الحرز مثل :
صحيحة محمّد بن مسلم المشتملة على قوله (عليه السلام) : كلّ من سرق من مسلم شيئاً قد حواه وأحرزه فهو يقع عليه اسم السارق ، وهو عند الله سارق . . .(2) .
فإنّ ظاهرها وقوع إسم السارق عليه عرفاً ، وعليه فتدلّ على أنّ الوقوع الكذائي متوقّف على كون المسروق منه قد حواه وأحرزه ، فتدبّر .
- (1) جواهر الكلام: 41 / 515.
- (2) وسائل الشيعة: 18/ 482، أبواب حدّ السرقة ب2 ح1.
(الصفحة 559)مسألة 17 : يقطع سارق الكفن إذا نبش القبر وسرقه ولو بعض أجزائه المندوبة بشرط بلوغه حدّ النصاب ، ولو نبش ولم يسرق الكفن لم يقطع ويعزّر ، وليس القبر حرزاً لغير الكفن ، فلو جعل مع الميّت شيء في القبر فنبش وأخرجه لم يقطع به على الأحوط ، ولو تكرّر منه النبش من غير أخذ الكفن وهرب من السلطان قيل : يقتل ، وفيه تردّد 1.
1 ـ في هذه المسألة فروع :
الأوّل : ما إذا نبش القبر وسرق الكفن ولو بعض أجزائه المندوبة ، وكان المسروق بقدر النصاب ، والمشهور فيه ثبوت القطع ، بل المحكيّ عن جماعة الإجماع عليه ، كصاحبي الغنية(1) والسرائر(2) ، والمحكيّ عن الصدوق في المقنع(3)والفقيه(4) أنّه لا يقطع النبَّاش إلاّ أن يؤخذ وقد نبش مراراً ، والظاهر أنّه ليس مراده مجرّد تكرر النبش ولو لم يكن بعده سرقة الكفن ، بل النبش والسرقة بعده ، وحمله على النباش غير السارق كما في الجواهر(5) بعيد جدّاً .
وكيف كان ، فيدلّ على القطع الذي هو المشهور صحيحة حفص بن البختري قال : سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : حدّ النبّاش حدّ السارق(6) .
والظاهر أنّ المراد هو النبّاش السارق ; لكون النبش بنفسه لا يتعلّق به غرض
- (1) غنية النزوع: 434.
- (2) السرائر: 3 / 514 ـ 515.
- (3) المُقنع: 447.
- (4) من لا يحضره الفقيه: 4 / 67.
- (5) جواهر الكلام: 41 / 515.
- (6) وسائل الشيعة: 18/ 510، أبواب حدّ السرقة ب19 ح1.
(الصفحة 560)
عقلائيّ نوعاً ، والغرض المترتّب عليه كذلك إنّما هو سرقة الكفن ، وإن كان قد يتحقّق لبعض الأغراض الأخر أحياناً كالزنا مع المرأة الميّتة وغيره من الأغراض .
هذا ، مضافاً إلى عدم ملائمة ثبوت حدّ السرقة في مجرّد النبش ; لعدم المناسبة بينهما ، وإلى شهادة بعض الروايات الآتية بكون المراد من النبّاش في صورة الإطلاق هو النبّاش السارق ، مع أنّ إطلاقه وشموله لغير السارق لا يقدح فيما هو الغرض في هذا الفرع من ثبوت القطع ; لأنّ المقام من المصاديق المتيقّنة كما لا يخفى ، وإن كان قادحاً في الحكم بعدم القطع في الفرع الآتي .
وموثّقة إسحاق بن عمّار ، أنّ عليّاً (عليه السلام) قطع نبّاش القبر ، فقيل له : أتقطع في الموتى؟ فقال : إنّا نقطع لأمواتنا كما نقطع لأحيائنا(1) .
وظهور ذيلها في السرقة لا ينبغي أن ينكر ، كما أنّه يستفاد منها أنّ المراد بالنبّاش هو النبّاش السارق لا مجرّد من يتحقّق منه النبش فقط .
ورواية عبدالله بن محمّد الجعفي قال : كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) وجاءه كتاب هشام ابن عبدالملك في رجل نبش امرأة فسلبها ثيابها ثمّ نكحها ، فإنّ الناس قد اختلفوا علينا ، طائفة قالوا : اقتلوه ، وطائفة قالوا : أحرقوه ، فكتب إليه أبو جعفر (عليه السلام) : إنّ حرمة الميّت كحرمة الحيّ ، تقطع يده لنبشه وسلبه الثياب ، ويقام عليه الحدّ في الزنا ، إن اُحصن رجم ، وإن لم يكن اُحصن جلد مائة(2) .
ورواية أبي الجارود ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : يقطع سارق الموتى كما يقطع سارق الأحياء(3) .
- (1) وسائل الشيعة: 18/ 513، أبواب حدّ السرقة ب19 ح12.
- (2) وسائل الشيعة: 18/ 510، أبواب حدّ السرقة ب19 ح2.
- (3) وسائل الشيعة: 18/ 511، أبواب حدّ السرقة ب19 ح4.
(الصفحة 561)
ورواية زيد الشحّام ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : اُخذ نبّاش في زمن معاوية ، فقال لأصحابه : ما ترون؟ فقالوا : نعاقبه ونخلّي سبيله ، فقال رجل من القوم : ما هكذا فعل عليّ بن أبي طالب ، قال : وما فعل؟ قال : فقال : يقطع النبّاش ، وقال : هو سارق وهتّاك للموتى(1) .
والذيل بمنزلة التعليل ، ومرجعه إلى أنّ قطع النبّاش إنّما هو لأجل السرقة وتحقّقها منه .
وربّما يستدلّ للمقنع بصحيحة الفضيل ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : النبّاش إذا كان معروفاً بذلك قطع(2) .
وبرواية عليّ بن سعيد ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سألته عن رجل أُخذ وهو ينبش ؟ قال : لا أرى عليه قطعاً ، إلاّ أن يؤخذ وقد نبش مراراً فاقطعه(3) .
وبروايته الأخرى قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن النبّاش؟ قال : إذا لم يكن النبش له بعادة لم يقطع ويعزَّر(4) .
وبمرسلة ابن بكير ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في النبّاش إذا أخذ أوّل مرّة عزِّر ، فإن عاد قطع(5) .
بناءً على أن يكون المراد هو العود مكرّراً .
ويرد على الاستدلال بالصحيحة ـ مضافاً إلى أنّ مقتضى التحقيق عدم ثبوت
- (1) وسائل الشيعة: 18/ 511، أبواب حدّ السرقة ب19 ح5.
- (2) وسائل الشيعة: 18/ 513، أبواب حدّ السرقة ب19 ح15.
- (3) وسائل الشيعة: 18/ 513، أبواب حدّ السرقة ب19 ح11.
- (4) وسائل الشيعة: 18/ 513، أبواب حدّ السرقة ب19 ح13.
- (5) وسائل الشيعة: 18/ 514، أبواب حدّ السرقة ب19 ح16.
(الصفحة 562)
المفهوم للقضيّة الشرطية كما حقّق في الأصول ، وإلى احتمال أن يكون المراد بالمعروفيّة هو ثبوت كونه نبّاشاً لا الأشتهار بذلك ـ عدم انطباق الدليل على المدّعى ; لأنّ النسبة بين التكرّر الذي هو المدّعى وبين المعروفيّة الذي هو مقتضى الرواية عموم من وجه كما لا يخفى ، وعليه فالرواية تصير غير مفتى بها حتّى للمستدلّ .
وأمّا روايتا عليّ بن سعيد ـ فمضافاً إلى أنّ الظاهر كونهما رواية واحدة لا متعدّدة وإن جعلهما في الوسائل كذلك ـ يرد على الاستدلال بهما كون الراوي مجهولا ; لأنّه لم يرد في عليّ بن سعيد توثيق ، بل ولا مدح .
وأمّا الرواية الأخيرة فمرسلة لا يمكن الاعتماد عليها ، مضافاً إلى أنّ حمل العود فيها على العود مكرّراً خلاف الظاهر .
هذا كلّه مضافاً إلى أنّه لو فرض ثبوت التعارض بين هذه الطائفة وبين الروايات الدالّة على المشهور ; لكان مقتضى قاعدة باب التعارض الأخذ بتلك الروايات ، لموافقتها للشهرة الفتوائيّة التي هي أوّل المرجّحات على ما أشرنا إليه مراراً ، فلا محيص عن الذهاب إلى ما يوافق المشهور .
تنبيه : لا يخفى أنّ صاحب الوسائل نقل في الباب التاسع عشر من أبواب حدّ السرقة رواية بهذه الكيفيّة : محمّد بن الحسن بإسناده ، عن محمّد بن عليّ بن محبوب ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسن بن محبوب ، عن أبي أيّوب ، عن الفضيل ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) عن الطرّار والنبّاش والمختلس ؟ قال : لا يقطع(1) .
- (1) التهذيب: 10 / 117 ح467، الإستبصار: 4 / 247 ح938، وسائل الشيعة: 18/ 513، أبواب حدّ السرقة ب19 ح14.