(الصفحة 638)
يُنفَوا مِنْ الاَْرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنيَا وَلَهُمْ فِى الاْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ* إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(1) .
والظاهر أنّ الأحكام الأربعة المذكورة في الآية الشريفة إنّما تترتّب على المحارب ; لأجل كونه يسعى في الأرض فساداً ، بمعنى : أنّ المحارب بما أنّه من مصاديق المفسد في الأرض ومن أفراده يترتّب عليه هذه الأحكام ، وعليه فيستفاد من الآية حكم المفسد في الأرض بما أنّه مفسد .
ودعوى أنّ ظاهر الآية ترتّب الأحكام المذكورة فيها على العنوانين وهما : عنوان المحارب وعنوان الساعي في الأرض فساداً ، مدفوعة بأنّه على هذا التقدير كان اللازم تكرار كلمة «الذين» ، لتدلّ على ثبوت فرقتين ووجود عنوانين ، كما أنّ دعوى أنّ ظاهر الآية ترتّب الأحكام على المحارب إذا كان متّصفاً بالإفساد ، بحيث كان المحارب على قسمين : قسم متّصف بعنوان الإفساد ، وقسم غير متّصف ، فلا تدلّ الآية على ترتّب الأحكام على نفس عنوان المحارب مطلقاً . مدفوعة بأنّ قوله تعالى :
{وَيَسْعَوْنَ فِى الاَْرْضِ فَسَاداً} بيان لنكتة تلك الأحكام ووجه لثبوتها ، ومرجعه إلى أنّ المحارب لأجل كونه يسعى في الأرض فساداً يكون موضوعاً لها ، والشاهد لما ذكرنا أمران :
أحدهما : تقييد الإخافة الواقعة في تعريف المحاربة بما إذا كان على وجه يتحقّق به صدق إرادة الفساد في الأرض ، كما في المتن وفي الجواهر(2) . فيظهر من ذلك أنّه لا يمكن التفكيك بين المحاربة وبين الإفساد من ناحية المحاربة دون الإفساد .
- (1) سورة المائدة 5: 33 و 34.
- (2) جواهر الكلام: 41 / 564.
(الصفحة 639)
ثانيهما : قوله تعالى قبل هذه الآية :
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْس أَوْ فَسَاد فِي الأَرْضِ فَكَأَ نَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}(1) إلى آخر الآية . لدلالته على أنّ القتل المشروع إنّما هو في مورد القصاص ، وفي مورد الفساد في الأرض ، فيدلّ على عدم كون المحارب منفكّاً عن إرادة الفساد فيها ، كما أنّه يستفاد منه أنّ العناوين الموجبة للقتل كالزنا المقرون بالإحصان والزنا بالمحارم ، واللواط مع الإيقاب ، بل العناوين التي يكون القتل فيها في المرتبة الثالثة أو الرابعة كلّها من مصاديق الفساد في الأرض ; لحكمه بانحصار القتل المشروع في غير القصاص بما إذا كان منطبقاً عليه عنوان الفساد في الأرض ، والوجه فيه واضح ، فإنّه إذا كان مجرّد تجريد السلاح لإخافة الناس إفساداً ، فلم لا يكون الزنا المذكور واللواط وأمثالهما كذلك .
وممّا ذكرنا يظهر أمران :
أحدهما : أنّ تعيّن القتل في الموارد المذكورة ، وعدم تعيّنه في مورد الإفساد بناءً على دلالة الآية على كون تلك الأحكام الأربعة ينحو التخيير دون الترتيب ـ كما سيأتي البحث عنه إن شاء الله تعالى ـ إنّما هو لأجل كون تلك الموارد من المراتب الكاملة لعنوان الإفساد ، ولا مانع من كون الحكم في المرتبة الكاملة خصوص واحد من تلك الأحكام ، وهي المرتبة الشديدة منها كما لا يخفى .
ثانيهما : أنّ عدم تعرّض الفقهاء ـ رضوان الله عليهم ـ لعنوان الإفساد في الأرض في رديف العناوين الموجبة للحدّ الذي هو القتل إنّما هو لأجل كون تلك العناوين من مصاديق الإفساد ، ولا وجه حينئذ لذكره بعنوان مستقلّ . هذا ،
(الصفحة 640)
مضافاً إلى أنّ البحث في عنوان المحارب إنّما هو في الحقيقة بحث عن عنوان الإفساد ; لما عرفت من كون إرادة الإفساد مأخوذاً في معنى المحارب ، وفي الحقيقة يكون البحث في أحكام المحارب بحثاً عن أحكام المفسد ، فتدبّر .
إذا عرفت ما ذكرنا فلنتكلّم في معنى المحارب ، فنقول :
إنّ السلاح المأخوذ في التعريف هل هو مختصّ بالحديد كالسيف ونحوه من الآلات الحديديّة المعدّة للقتل المتنوّعة في زماننا هذا ؟ بل الظاهر على هذا التقدير الشمول لمثل الرمح والسكّين كما في بعض الروايات(1) . أو أنّ المراد به كلّ ما يقاتل به وإن لم يكن من حديد كالعصا والحجر وغيرهما ؟ بل في محكيّ الروضة الاكتفاء في المحاربة بالأخذ بالقوّة وإن لم يكن عصاً أو حجراً(2) ، حكى في كشف اللثام عن الأكثر الوجه الثاني ، وعن أبي حنيفة اشتراط شهر السلاح من الحديد(3) ، وقال يظهر احتماله من التحرير (4) ،(5).
ويدلّ على العموم رواية السكوني ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن عليّ (عليهم السلام) في رجل أقبل بنار ، فأشعلها في دار قوم فاحترقت واحترق متاعهم ، أنّه يغرم قيمة الدار وما فيها ثمّ يقتل(6) . بناءً على كون القتل إنّما هو لأجل كونه محارباً لا لعنوان آخر .
نعم ، في رواية جابر ، عن أبي جعفر (عليه السلام) ما يمكن استفادة الخلاف منه ، حيث قال (عليه السلام):من أشاربحديدة في مصر قطعت يده،ومن ضرب بها قتل(7). ولكن لا يستفاد
- (1) وسائل الشيعة: 18 / 534، أبواب حدّ المحارب ب2 ح4.
- (2) الروضة البهيّة: 9 / 292.
- (3) المغني لابن قدامة: 10 / 304.
- (4، 5) تحرير الأحكام: 2 / 234، كشف اللثام: 2 / 431.
- (6 ، 7) وسائل الشيعة: 18 / 538، أبواب حدّ المحارب ب3 ح1 و3.
(الصفحة 641)
منها الإنحصار، والظاهر هوالوجه الثاني وإن كان التعميم للأخذ بالقوّة محلّ إشكال.
ثمّ إنّ المراد من الناس الذي أضيفت إليه الإخافة [في المتن] هل هو جماعة منهم ، أو يشمل الواحد أيضاً ، فلو جرّد سلاحه وأخاف واحداً بقصد الإفساد في الأرض يكون محارباً؟ فيه وجهان ، والظاهر هو الوجه الثاني تبعاً لصاحب الجواهر(قدس سره)(1) ; لعدم الفرق بينه وبين الجماعة .
كما أنّ المراد من الناس ، هل هو خصوص المسلمين كما في محكيّ كشف اللثام(2) ، أو كلّ من تحرم إخافته في الشريعة ولو كان من أهل الذمّة؟ الظاهر هو الوجه الثاني أيضاً ; لعدم الدليل على الاختصاص بالمسلمين ، خصوصاً بعد عدم التعرّض له في كلام غيره .
وأمّا الإخافة ، فيعتبر فيها أمران :
أحدهما : كون الإخافة بمنظور الإفساد في الأرض ، وإلاّ فلو كانت الإخافة بسبب تجريد السلاح وتجهيزه لا لإرادة الإفساد في الأرض ، بل لعداوة أو لغرض من الأغراض ، كما إذا كانت بمنظور دفعهم عن الإيذاء والإهانة ، أو بمنظور آخر ولو لم يكن شرعيّاً ، فالظاهر عدم تحقّق عنوان المحارب ، وإن قال في الجواهر : لم أجد تنقيحاً لذلك في كلام الأصحاب(3) .
ثانيهما : تحقّق الخوف عقيب الإخافة ، فهي إذا كانت مجرّدة عن الخوف ـ وإن جرّد سلاحه بالقصد المزبور ـ لا يتحقّق معه عنوان المحارب . نعم ، لو كانت إخافته بحدٍّ يوجب في بعض الأحيان والأشخاص ، فالظاهر كونه داخلا فيه كما في المتن ،
- (1) جواهر الكلام: 41 / 564.
- (2) كشف اللثام: 2 / 430.
- (3) جواهر الكلام: 41 / 569.
(الصفحة 642)
وأمّا ما في الجواهر من تحقّق عنوان المحارب وإن لم يحصل معه خوف أو أخذ مال(1)فالظاهر عدم تماميّته ; لأنّ الإخافة غير المؤثّرة ولو بنحو الموجبة الجزئيّة لا تكون محرّمة ظاهراً ; لأنّ حرمة الإخافة إنّما هي لأجل الخوف الحاصل عقيبها لا لنفسها ، وإن لم يترتّب عليها أثر خارجاً أصلا .
وأمّا التعميم للمصر ، فيدلّ عليه ـ مضافاً إلى عموم الآية المتقدّمة ، وكون شأن نزولها قطَّاع الطريق كما عليه أكثر المفسّرين(2) لا يوجب اختصاص الحكم المذكور في الآية به كما هو ظاهر ـ روايات متعدّدة :
منها : صحيحة محمّد بن مسلم المفصّلة ، التي يأتي البحث فيها من جهة اُخرى في المسائل الآتية ، حيث إنّها تشتمل على قوله (عليه السلام) : ومن شهر السلاح في مصر من الأمصار، وضرب وعقر وأخذ المال ولم يقتل فهومحارب، فجزاؤه جزاء المحارب(3).
ومنها : رواية سورة بن كليب ، قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : رجل يخرج من منزله يريد المسجد أو يريد الحاجة ، فيلقاه رجل ويستعقبه فيضربه ويأخذ ثوبه؟ قال : أي شيء يقول فيه من قِبَلكم؟ قلت : يقولون : هذه دغارة معلنة ، وإنّما المحارب في قرىً مشركة ، فقال : أيّهما أعظم حرمةً؟ دار الإسلام ، أو دار الشرك؟ قال : فقلت : دار الإسلام ، فقال : هؤلاء من أهل هذه الآية :
{إنَّما جَزَاؤُا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ}(4) إلى آخر الآية(5) . ولكن ليس في مورد الرواية تجريد
- (1) جواهر الكلام: 41 / 567.
- (2) تفسير القمّي: 1 / 167، مجمع البيان: 3 / 312، الكشّاف: 1 / 628، المنتخب من تفسير القرآن: 1/223.
- (3) وسائل الشيعة: 18 / 532، أبواب حدّ المحارب ب1 ح1.
- (4) سورة المائدة 5: 33.
- (5) وسائل الشيعة: 18 / 537، أبواب حدّ المحارب ب2 ح2.