(الصفحة 655)
فيتعيّن عليه اختيار ما يناسب المرتبة الواقعة من مراتب المحاربة ، وهذا لا يجتمع مع الجواب الأوّل بوجه .
نعم ، لو لا هذا الاضطراب في الرواية ; لكان مقتضى لزوم حمل الظاهر على النصّ حمل روايات التخيير ـ وكذا الآية الظاهرة فيه ـ على هذه الرواية ; لصراحتها في عدم التخيير ، ولزوم ملاحظة نحو الجناية ومقدارها ، كما لا يخفى .
الثاني : في أنّه بعد ثبوت الترتيب ما كيفيّته ، فعن النهاية(1) والمهذّب(2) وفقه الراوندي(3) والتلخيص(4) يقتل إن قتل قصاصاً ، إن كان المقتول مكافئاً له ولم يعف الوليّ ، ولو عفا وليّ الدم ، أو كان غير مكافىء قتله الإمام حدّاً ، ولو قتل وأخذ المال اُستعيد منه عيناً أو بدلا ، وقطعت يده اليمنى ورجله اليسرى ، ثمّ قتل وصلب ، وإن أخذ المال ولم يقتل قطع مخالفاً ونفي ، ولو جرح ولم يأخذ المال اُقتصّ منه أو اُخذ الدية أو الحكومة ونفي ، ولو اقتصر على شهر السلاح نفي لا غير .
وعن المبسوط(5) والخلاف(6) والتبيان(7) : إن قتل قتل ، وإن قتل وأخذ المال قتل وصلب ، وإن اقتصر على أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ، وإن اقتصر على الإخافة فإنّما عليه النفي .
وعن الوسيلة : لم يخل إمّا جنى جناية أو لم يجن ، فإذا جنى جناية لم يخل إمّا جنى
- (1) النهاية: 720.
- (2) المهذّب: 2 / 553.
- (3) فقه القرآن: 2 / 387 ـ 388.
- (4) لم يطبع «التلخيص» للعلاّمة ، لكن حكى عنه في غاية المراد في شرح نكت الإرشاد: 354.
- (5) المبسوط: 8 / 48.
- (6) الخلاف: 5 / 458 مسألة 2.
- (7) التبيان: 3 / 502.
(الصفحة 656)
في المحاربة أو في غيرها ، فإن جنى في المحاربة لم يجز العفو عنه ولا الصلح على مال ، وإن جنى في غير المحاربة جاز فيه ذلك ، وإن لم يجن وأخاف نفي عن البلد ، وعلى هذا حتّى يتوب ، وإن جنى وجرح اقتصّ منه ونفي عن البلد ، وإن أخذ المال قطع يده ورجله من خلاف ونفي ، وإن قتل وغرضه في إظهار السلاح القتل كان وليّ الدم مخيّراً بين القود والعفو والدية ، وإن كان غرضه المال كان قتله حتماً وصلب بعد القتل ، وإن قطع اليد ولم يأخذ المال قطع ونفي ، وإن جرح وقتل اُقتصَّ منه ثمّ قتل وصلب ، وإن جرح وقطع وأخذ المال جرح وقطع للقصاص أوّلا إن كان قطع اليد اليسرى ، ثمّ قطع يده اليمنى لأخذ المال ولم يوال بين القطعين ، وإن كان قطع اليمنى قطعت يمناه قصاصاً ورجله اليسرى لأخذ المال(1) .
والمحكيّ عن الرياض أنّه قال : لم أجد حجّة على شيء من هذه الكيفيّات من النصوص ، وإن دلّ أكثرها على الترتيب في الجملة ، لكن شيء منها لا يوافق شيئاً منها ، فهي شاذّة مع ضعف أسانيدها جملة(2) .
وهنا تفصيل آخر اختاره بعض المعاصرين ، وهو أنّه «من شهر السلاح لإخافة الناس نفي من البلد ، ومن شهر فعقر اقتصّ منه ثمّ نفي من البلد ، ومن شهر وأخذ المال قطعت يده ورجله ، ومن شهر وأخذ المال وضرب وعقر ولم يقتل فأمره إلى الإمام ، إن شاء قتله وصلبه ، وإن شاء قطع يده ورجله ، ومن حارب فقتل ولم يأخذ المال كان على الإمام أن يقتله ، ومن حارب وقتل وأخذ المال فعلى الإمام أن يقطع يده اليمنى بالسرقة ، ثمّ يدفعه إلى أولياء المقتول فيتبعونه بالمال ثمّ يقتلونه ،
- (1) الوسيلة: 206.
- (2) رياض المسائل: 10/ 210.
(الصفحة 657)
وإن عفا عنه أولياء المقتول كان على الإمام أن يقتله ، وليس لأولياء المقتول أن يأخذوا الدية منه فيتركوه»(1) .
وقد استدلّ لهذا التفصيل بأنّه مقتضى الجمع بين الصحيحتين الواردتين في كيفيّة الترتيب :
إحداهما : صحيحة محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : من شهر السلاح في مصر من الأمصار فعقر اقتصّ منه ونفي من تلك البلد ، ومن شهر السلاح في مصر من الأمصار وضرب وعقر وأخذ المال ولم يقتل فهو محارب ، فجزاؤه جزاء المحارب ، وأمره إلى الإمام إن شاء قتله وصلبه ، وإن شاء قطع يده ورجله ، قال : وإن ضرب وقتل وأخذ المال فعلى الإمام أن يقطع يده اليمنى بالسرقة ، ثمّ يدفعه إلى أولياء المقتول فيتبعونه بالمال ثمّ يقتلونه .
قال : فقال له أبو عبيدة : أرأيت إن عفا عنه أولياء المقتول؟ قال : فقال أبو جعفر (عليه السلام) : إن عفوا عنه كان على الإمام أن يقتله ; لأنّه قد حارب وقتل وسرق .
قال : فقال أبو عبيدة : أرأيت إن أراد أولياء المقتول أن يأخذوا منه الدية ويدعونه ألهم ذلك؟ قال : لا ، عليه القتل(2) .
ثانيتهما : صحيحة عليّ بن حسّان ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : من حارب الله وأخذ المال وقتل كان عليه أن يقتل أو يصلب ، ومن حارب فقتل ولم يأخذ المال كان عليه أن يقتل ولا يصلب ، ومن حارب وأخذ المال ولم يقتل كان عليه أن تقطع يده ورجله من خلاف ، ومن حارب ولم يأخذ المال ولم يقتل كان عليه أن ينفى ، ثمّ
- (1) مباني تكملة المنهاج: 1 / 318 مسألة 260.
- (2) وسائل الشيعة: 18 / 532، أبواب حدّ المحارب ب1 ح1.
(الصفحة 658)
استثنى عزّ وجل :
{إِلاّ الَّذِيْنَ تَابُواْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهِم}(1) يعني : يتوبوا قبل أن يأخذهم الإمام(2) .
واشتراك عليّ بن حسّان بين الواسطي الذي هو ثقة ، والهاشمي الذي هو ضعيف لا يوجب خللا في الرواية ، بعد كون الراوي لها هو عليّ بن إبراهيم في تفسيره ، الذي التزم فيه بأن لا يروي فيه إلاّ عن الثقة ، فهو قرينة على كون المراد هو الثقة(3) .
هذا ، ولكن لا يخفى وجود الاضطراب الكامل في الصحيحة الاُولى من جهات عديدة :
من جهة أنّ ظاهر الجملة الاُولى عدم كون المورد المفروض فيها من مصاديق المحارب ; لظهور الصحيحة في أنّ المفروض في الجملة الثانية محاربٌ ومن مصاديقه ، مع أنّه ينطبق على الأوّل أيضاً ; لصدق تعريفه عليه .
ومن جهة ظهور الجملة الثانية في أنّ جزاء المحارب المذكور في الآية الشريفة هو التخيير بين القتل والصلب ، وبين قطع اليد والرجل ، مع أنّ المذكور في الآية إضافة أمر رابع وهو النفي ، مضافاً إلى عدم كون هذا التخيير موافقاً للآية بوجه ، سواء كان المراد منها هو التخيير أو الترتيب ; لأنّه على التقدير الأوّل يكون التخيير بين أربعة اُمور ، وعلى التقدير الثاني وجود الترتيب بين هذه الاُمور لا التخيير بهذا النحو .
ومن جهة ظهور الجملة الثالثة في لزوم قطع اليد اليمنى بالسرقة ، مع أنّ المذكور
- (1) سورة المائدة 5: 34.
- (2) وسائل الشيعة: 18 / 536، أبواب حدّ المحارب ب1 ح11.
- (3) مباني تكملة المنهاج: 1 / 318 ـ 320 مسألة 260.
(الصفحة 659)
في الآية قطع اليد والرجل معاً مخالفاً ، مضافاً إلى أنّ ظاهرها تحقّق السرقة ، مع أنّك عرفت في تعريفها اعتبار الخفاء ، ولا يجتمع ذلك مع المحاربة ، وإلى أنّه لا يعلم الفرق بين هذا الفرض وبين الفرض الثاني مع اشتراكهما في أخذ المال وكون القطع باعتباره ، كما لا يخفى .
ومن غير هذه الجهات . ولعلّه لما ذكرنا قال المحقّق في الشرائع : وتلك الأحاديث ـ يعني الأحاديث الدالّة على كيفيّة الترتيب ـ لا تنفكّ من ضعف في إسناد ، أو اضطراب في متن ، أو قصور في دلالة(1) .
ثمّ إنّ الظاهر أنّه لا يمكن الجمع بين الصحيحتين بالنحو الذي ذكره المفصّل ; لتعارضهما في بعض الموارد ، وعدم إمكان الجمع فيه ، مثل ما إذا حارب وأخذ المال ولم يقتل ، فإنّ الثانية تدلّ على تعيّن قطع اليد والرجل عليه ، والاُولى تدلّ على أنّ أمره إلى الإمام ، إن شاء قتله وصلبه ، وإن شاء قطع يده ورجله ، ومثل ما إذا حارب وأخذ المال وقتل ، فإنّ الثانية تدلّ على ثبوت القتل أو الصلب عليه ، والاُولى تدلّ على قطع اليد اليمنى وثبوت القتل ; ولذلك لا يمكن الجمع بينهما .
ثمّ إنّ سائر الروايات الواردة في الترتيب غير معتبرة من حيث السند ، مثل :
رواية عبيد بن بشر الخثعمي ، التي هي موافقة للتفصيل الأوّل في الجملة ، قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قاطع الطريق وقلت : الناس يقولون : إنّ الإمام فيه مخيّر أيّ شيء شاء صنع؟ قال : ليس أيّ شيء شاء صنع ، ولكنّه يصنع بهم على قدر جنايتهم ، من قَطَع الطريق فقتل وأخذ المال قطعت يده ورجله وصلب ، ومن قطع الطريق فقتل ولم يأخذ المال قتل ، ومن قطع الطريق فأخذ المال ولم يقتل قطعت يده
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 959 ـ 960.