(الصفحة 690)
لا يطلق على غير البالغ ، ثمّ عطف الكفر والشرك عليه ـ أي على ولادة الرجل على الإسلام ـ أنّ المراد هو البالغ الذي اختار الإسلام بعد بلوغه ثمّ ارتدّ وخرج عنه .
ومنها : المرفوعة المتقدّمة ، المشتملة على قوله (عليه السلام) : «أمّا من كان من المسلمين ولد على الفطرة ثمّ تزندق» فإنّ ظاهرها تأخّر التزندق عن كونه مسلماً ، وقد عرفت أنّ المراد به هو المسلم بالأصل ، وإلاّ يلزم ما ذكرنا في الموثّقة ، وعليه فلا ينبغي الإشكال فيما ذكر . هذا في المرتد الفطري .
وأمّا المرتد الملّي، فقد اعتبر في تعريفه ـ مضافاً إلى كون أبويه كافرين حال انعقاد النطفة ـ أن يختار الكفر بعد البلوغ ثمّ أسلم ثمّ ارتدّ . والوجه فيه ما في مثل صحيحة عليّ بن جعفر، عن أخيه أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته عن مسلم تنصّر؟ قال: يقتل ولا يستتاب . قلت : فنصرانيّ أسلم ثمّ ارتد ؟ قال : يستتاب ، فإن رجع ، وإلاّ قتل(1) .
فإنّ ظاهر النصرانيّ هو النصرانيّ بالأصل الذي هو عبارة عن اختياره له بالغاً ، فالحكم في الرواية قد رتّب على الكافر الأصليّ الذي اختار الإسلام ثمّ ارتدّ ورجع ، ودعوى أنّ ذلك لا ينافي ترتّبه أيضاً على غير هذا المورد ، مثل ما إذا اختار الإسلام بعد البلوغ بلا فصل ثمّ ارتدّ ، كما ربّما يستفاد من المرفوعة المتقدّمة ، فإنّ قوله (عليه السلام) : من لم يولد منهم على الفطرة عامّ يشمل الفرض المذكور ، مدفوعة بضعفها من حيث السند وعدم نهوضها لإثبات الحكم فيه أيضاً ، فتأمّل .
الثالث : لا خفاء في الحكم بإسلام الولد فيما إذا كان أبواه مسلمين ، ويدلّ عليه ـ مضافاً إلى الإجماع بل الضرورة ـ مثل موثّقة عمّار المتقدّمة ، المشتملة على قوله (عليه السلام) : كلّ مسلم بين مسلمين .
- (1) وسائل الشيعة: 18 / 545، أبواب حدّ المرتد ب1 ح5.
(الصفحة 691)
وأمّا إذا كان أحد أبويه مسلماً فربّما يستدلّ على ذلك ـ مضافاً إلى الإجماع ـ بأمرين :
أحدهما : ما دلّ على أنّ الرجل المسلم إذا مات ، وكانت زوجته أو أمته حاملا يعزل ميراثه ، فينتظر به حتّى يولد حيّاً ، فإنّه يدلّ بإطلاقه على أنّ الحمل يرث إذا ولد حيّاً ، وإن كانت الزوجة أو الأمة غير مسلمة ، وبضميمة أنّ وارث المسلم يعتبر فيه الإسلام يثبت أنّه محكوم بالإسلام من أوّل ولادته ، وكذلك إذا ماتت الأمّ المسلمة وتركت ولداً من كافر ولو لأجل الوطء بالشبهة ، أو أسلمت الأمّ بعد الحمل وقبل الولادة ، فإنّ الولد يرثها بمقتضى إطلاق الأدلّة ، فيثبت إسلامه بالملازمة المذكورة .
ويرد عليه : أنّ ما دلّ على ثبوت الإرث للحمل وعزله حتّى يولد حيّاً لا إطلاق فيه من هذه الجهة ; لعدم كونه إلاّ في مقام بيان أنّ الحمل عند تحقّق موت الأب لا يمنع عن ثبوت الإرث ، ولا يشترط في ثبوته كون الوارث متولّداً في حال الموت . وأمّا ثبوت الإرث له ولو كانت اُمّه كافرة فلا دلالة له عليه أصلا ، ولا تكون هذه الأدلّة في مقام بيانه بوجه .
كما أنّ التمسّك بإطلاق الأدلّة في الفرض الثاني مع ثبوت الملازمة واشتراط كون وارث المسلم لابدّ وأن يكون مسلماً ، فيه ما لا يخفى ، مضافاً إلى أنّ المثال الثاني مناف لما ذكرنا من أنّ الملاك حال الانعقاد لا حال الولادة .
ثانيهما : رواية عبيد بن زرارة ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الصبيّ يختار الشرك وهو بين أبويه ، قال : لا يترك ، وذاك إذا كان أحد أبويه نصرانيّاً(1) .
- (1) وسائل الشيعة: 18 / 546، أبواب حدّ المرتد ب2 ح1.
(الصفحة 692)
وصحيحة أبان ـ على رواية الصدوق ـ عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الصبيّ إذا شبّ فاختار النصرانيّة وأحد أبويه نصرانيّ أو مسلمين ، قال : لا يترك ، ولكن يضرب على الإسلام(1) .
وهذه الرواية قرينة على أنّ المراد بقوله (عليه السلام) في الرواية الاُولى : «إذا كان أحد أبويه نصرانيّاً» ليس إلاّ ما يقابل كونهما نصرانيّين ، لا ما يقابل كونهما مسلمين ، وعليه فمفاد الروايتين أنّه مع إسلام الأبوين أو أحدهما حيث يكون الصبيّ محكوماً بالإسلام تبعاً ، فإذا اختار في ذلك الحال أي قبل البلوغ النصرانيّة والشرك فاللازم أن لا يترك ، بل يضرب ; لأجل كونه محكوماً بالإسلام ، وليس المراد بقوله : «إذا شبّ» البلوغ ، وإلاّ لا يجتمع مع التعبير بالصبي .
ثمّ إنّ قوله في الرواية الثانية : «أو مسلمين» لا ينطبق على قواعد العربيّة ، ويحتمل قويّاً أنّه كان في الأصل أو كانا مسلمين ، أو بين مسلمين ، ومثلهما ، وبالجملة ، فهذا الدليل الثاني تامّ صالح للحكم بالتبعيّة في الإسلام إذا كان أحد الأبوين مسلماً .
الجهة الثانية : في حكم المرتدّ الفطري إذا كان رجلا ، فالمشهور أنّه لا تقبل توبته ، بل يجب قتله ، وعن الإسكافي أنّه يستتاب ، فإن تاب وإلاّ قتل(2) . وحكي عن بعض التفصيل في قبول التوبة بين الباطن والظاهر ، فتقبل على الأوّل دون الثاني(3) ، وفي تفسير الباطن والظاهر احتمالات :
أحدها : أن يكون المراد بالباطن العقاب في الآخرة بالإضافة إلى الكفر
- (1) وسائل الشيعة: 18 / 546، أبواب حدّ المرتد ب2 ح2.
- (2) لم نعثر عليه في المختلف، نعم حكي عنه في مسالك الأفهام: 15 / 24.
- (3) الروضة البهيّة: 8 / 30 وج9 / 337.
(الصفحة 693)
والارتداد الذي صدر منه ، وبالظاهر هو كلّ ما يرتبط به في الدنيا من النجاسة وبطلان العبادة وغيرهما ، فالتوبة لا تأثير لها في رفع الحكم بالنجاسة الثابتة بسبب الارتداد والكفر ، ولا في الحكم بصحّة عباداته .
وربّما يستشكل في ذلك بأنّه بعد التوبة إن قلنا بثبوت التكاليف العبادية بالإضافة إليه ، فاللازم أن يكون مكلّفاً بما لا يكون قادراً عليه ، وإن قلنا بسقوطه ، فاللازم الالتزام بعدم كون البالغ العاقل مكلّفاً ، ولا مجال للالتزام به أصلا ، مضافاً إلى أنّه أفتى غير واحد في بحث القضاء من الصلاة بأنّ المرتدّ يقضي زمان ردّته وإن كان عن فطرة(1) ، بل حكي غير واحد الإجماع عليه(2) ، بل في ناصريّات المرتضى إجماع المسلمين على ذلك(3) ، وهو لا يتمّ إلاّ على قبول توبته .
وإلى أنّ قوله تعالى :
{وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(4)ظاهرٌ في أنّ من لم يمت كذلك لا يكون له الجزاء المذكور فيه ، وظاهر أنّ الارتداد في الآية مطلق يشمل الفطري أيضاً .
ولكنّه أجاب صاحب الجواهر(قدس سره) عن الإشكال بما يرجع إلى أنّه يمكن الالتزام بثبوت التكليف ، وعدم القدرة لا يقدح بعد كونه بسوء الاختيار ، خصوصاً بعد إطّلاعه عليه قبلا ، ويمكن الالتزام بسقوط التكليف باعتبار أنّ الشّارع نزّله منزلة
- (1) المبسوط: 1 / 126، السرائر: 1 / 277، المختصر النافع: 73، إصباح الشيعة: 100، اللمعة الدمشقيّة: 19، مسالك الأفهام: 1 / 301.
- (2) غنية النزوع: 99، الخلاف: 1 / 443 مسألة 190.
- (3) الناصريّات: 252.
- (4) سورة البقرة 2: 217.
(الصفحة 694)
الميّت ; ولذا حكم باعتداد زوجته عدّة الوفاة ، وبأنّه تقسّم أمواله بين ورثته .
وأجاب عن التأييد الأوّل بأنّ الإجماع على قضاء زمان الردّة ولو عن فطرة إنّما هو في مقام بيان أنّ الكفر الارتدادي لا يسقط القضاء لو تعقّبه الإسلام ، بخلاف الكفر الأصليّ ، ويكفي في المثال للفطري المرأة التي تقبل توبتها ولو كانت عن فطرة .
وذكر في أواخر كلامه : أنّ العمدة ترجيح ما جاء في خصوص الفطري من نفي التوبة في غير واحد من النصوص ، وما جاء من عموم التوبة وهو ـ أي الترجيح ـ إن لم يكن للأوّل للشهرة المحكيّة وغيرها ، فلا أقلّ من الشكّ ، والأصل يقتضي عدم القبول(1) .
ويرد عليه أنّ الالتزام بسقوط التكليف ـ مضافاً إلى أنّه بعيد عن مذاق الشرع وخارج عن طريق الفقه ـ ممّا لم يدلّ عليه دليل ، والحكم باعتداد الزوجة وتقسيم أمواله لا دلالة له على تنزيله منزلة الميّت مطلقاً ، بحيث لا يكون صالحاً للإرث بعد التوبة من الميّت المسلم ، ولجواز المعاملة معه وغيرهما ، فالظاهر ثبوت التكليف والالتزام بعدم القدرة على الإطاعة ، وإن كان منشؤه الارتداد الذي هو أمر إختياريّ له ، لا يناسب ما هو المرتكز في أذهان المتشرّعة ، كما لا يخفى .
وأمّا الحكم بقضاء زمان الردّة ، فلو كان مختصّاً بالمرأة في المرتدّ الفطري ; لكان اللازم التنبيه عليه والإشارة به ، وليس في كلامهم من هذه الجهة عين ولا أثر ، مع أنّه لم يتصدّ للجواب عن الآية الظاهرة في ترتّب الحبط المذكور فيها على الارتداد الباقي إلى الموت ولم يتعقّبه توبة .
وأمّا ما أفاده أخيراً ، فيرد عليه ظهور النصوص في كون عدم الاستتابة إنّما هو
- (1) جواهر الكلام: 41 / 606 ـ 608.