(الصفحة 442)
وليس لأحد أن يقول : إنّه يمكن أن تكون الرواية بصدد بيان أمرين : أحدهما : تنزيل العصير منزلة الخمر . والآخر : التعبّد ببقاء خمريّته ; لأنّ ذلك غير معقول بجعل واحد .
كما أنّ دعوى أنّ قوله (عليه السلام) : «خمر» يكون خبراً من العصير المغلي قبل ذهاب ثلثيه إفادة للحكم الواقعي بالتنزيل ، وقوله (عليه السلام) : «لا تشربه» يكون نهياً عن شرب المشتبه ، فالموضوع مختلف لا تستأهل للجواب . وعلى فرض كونها بصدد التنزيل فإطلاقه أيضاً لا يخلو عن مناقشة(1) .
وممّا أفاده يظهر الخلل فيما اُفيد في مقام الجواب عن الاستدلال ممّا حاصله : إنّ تنزيل شيء منزلة شيء آخر قد يكون على وجه الإطلاق ومن جميع الجهات والآثار ، ففي مثله يثبت الجميع للمنزّل ، كما إذا ورد : العصير خمر فلا تشربه ، أو قال : لا تشرب العصير لأنّه خمر ; لأنّ لفظة «فاء» في المثال الأوّل ظاهرة في التفريع ودالّة على أنّ حرمة الشرب من الأمور المتفرّعة على التنزيل ، وكذا الحال في المثال الثاني ; لأنّه كالتنصيص بأنّ النهي عن شربه مستند إلى أنّه منزَّل منزلة الخمر شرعاً ، وبذلك يحكم بنجاسته ; لأنّها من أحد الآثار المترتّبة على الخمر ، وقد يكون التنزيل بلحاظ بعض الجهات والآثار ، ولا يكون ثابتاً على وجه الإطلاق كما هو الحال في المقام ; لأنّ قوله (عليه السلام) : «خمر لا تشربه» إنّما يدلّ على أنّ العصير منزّل منزلة الخمر من حيث حرمته فقط ، ولا دلالة له على تنزيله منزلتها من جميع الجهات لعدم اشتماله على لفظة «فاء» الظاهرة في التفريع ، حيث إنّ جملة «لا تشربه» وقوله (عليه السلام) : «خمر» بمجموعهما صفة للعصير ، أو من قبيل
- (1) كتاب الطهارة للإمام الخميني: 3 / 204 ـ 205.
(الصفحة 443)
الخبر بعد الخبر أو أنّها نهي ، وعلى أيّ حال لا دلالة له على التفريع حتّى يترتّب جميع الآثار(1) .
فإنّه يرد عليه
أوّلا : أنّه لم ينزّل في الرواية العصير العنبي ـ بما أنّه عنوان من العناوين الواقعيّة ـ منزلة الخمر حتّى يبحث في إطلاق التنزيل وعدمه ويفرّق بين التعبيرين ، بل الموضوع في القضيّة الحمليّة التي يكون محمولها «خمر» هو العصير المغلي المشتبه بين كونه على الثلث أو على النصف ، ولو كان وصفه من هذه الجهة معلوماً للسائل لم يكن وجه لسؤاله ; لعلمه بحكم العصير قبل ذهاب الثلثين وبعده ، وعليه فحمل الخمر لا يمكن أن يكون على نحو الحقيقة ولا على نحو التنزيل ، بل بنحو الحكم الظاهري كما عرفت .
وثانياً : أنّه على فرض كون الموضوع هو العصير بالعنوان الواقعي ، نقول : لا فرق بين التعبيرين في الدّلالة على إطلاق التنزيل ، فإنّ الظاهر مع عدم ذكر «فاء» أيضاً أنّ النّهي عن الشرب يكون متفرّعاً على وصف الخمريّة التنزيليّة أو معلولا له ، وليس في متفاهم العرف فرق بينهما أصلا .
ثمّ لا يخفى عليك أنّ مسألة النجاسة وترتّب الحدّ على شرب العصير إنّما تكونان من واد واحد في الاستفادة من الرواية ; لابتنائها في كليهما على ثبوت إطلاق التنزيل وعدمه .
ثمّ إنّ الحكم بأولويّة منع ثبوت الحدّ فيما إذا غلى بالنار أو بالشمس ، إنّما هو لأجل وجود القول بالتفصيل في هذا المقام ، كما عن ابن حمزة في الوسيلة(2) ، حيث
- (1) التنقيح في شرح العروة الوثقى: 2 / 108 ـ 109.
- (2) الوسيلة: 365.
(الصفحة 444)
حكم بنجاسة العصير الذي غلى بنفسه وحرمته إلى أن يصير خلاًّ ، وبخصوص حرمة ما إذا غلى بالنار أو بالشمس دون النجاسة ، وقد فصّلنا الكلام في هذا التفصيل وما يتعلّق به في البحث عن النجاسات من كتاب الطهارة(1) ، فراجع ، هذا في العصير العنبي .
وأمّا العصير الزبيبي والتمري ـ والمراد منهما ماء نبذ فيه أحدهما وصار ذا حلاوة لأجل المجاورة والملاصقة ـ فإن قلنا بعدم حرمته فلا تصل النوبة إلى الحدّ أصلا ، وإن قلنا بالحرمة فاللاّزم إقامة الدليل على ثبوت الحدّ فيهما ; لأنّ الحرمة أعمّ من ثبوت الحدّ ، ونقول :
المشهور كما عن الحدائق(2) وطهارة الشيخ(قدس سره) الحليّة(3) ، وذهب بعض إلى الحرمة ، ونسب ذلك إلى جملة من متأخّري المتأخّرين(4) . وعمدة ما يمكن الاستدلال به عليها ما رواه زيد النرسي في أصله : قال : سئل أبو عبدالله (عليه السلام) عن الزبيب يدقّ ويلقى في القدر ، ثمّ يصبّ عليه الماء ويوقد تحته ، فقال : لا تأكله حتّى يذهب الثلثان ويبقى الثلث ، فإنّ النار قد أصابته ، قلت : فالزبيب كما هو في القدر ، ويصبّ عليه الماء ثمّ يطبخ ويصفّى عنه الماء ، فقال : كذلك هو سواء ، إذا أدّت الحلاوة إلى الماء فصار حلواً بمنزلة العصير ثمّ نشّ من غير أن تصيبه النار فقد
- (1) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الطهارة (النجاسات وأحكامها): 154 ـ 179، المقام الثالث في نجاسة المسكرات.
- (2) الحدائق الناضرة: 5 / 125.
- (3) كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري: 316.
- (4) الدرّة النجفية (منظومة في الفقه): 53. وحكى في جواهر الكلام: 6 / 20 ـ 21 عن المصابيح للسيّد بحر العلوم.
(الصفحة 445)
حرم ، وكذلك إذا أصابته النار فأغلاه فقد فسد(1) .
ورواها العلاّمة المجلسي(قدس سره) عن نسخة عتيقة وجدها بخطّ الشيخ منصور بن الحسن الآبي(2) ، والكلام في الرواية تارة من حيث السند ، وأُخرى من جهة المتن ، وثالثة من حيث المفاد والدلالة ، فهنا جهات ثلاث :
الجهة الاولى : فيما يتعلّق بالسند من جهة وثاقة زيد النرسي ، وأنّه هل يكون له أصل أم لا ، وأنّ النسخة التي وصلت بيد الناقلين عنها كالمجلسي(قدس سره) هل تكون مطابقة لنسخة الأصل أم لا؟
أمّا وثاقة زيد النرسي ، فالظاهر أنّه لم يرد في شيء من الكتب الرجاليّة والتراجم بالإضافة إليه مدح ولا قدح ، ومن أجله ربّما يقال بعدم وثاقته ; لأنّ الموثّق عبارة عمّن كان له توثيق في شيء من تلك الكتب ، مضافاً إلى أنّ الصدوق وشيخه ابن الوليد لم ينقلا عنه أصلا ، بل ضعّفا كتابه وقالا : إنّه موضوع وضعه محمّد بن موسى الهمداني(3) .
ولكنّه قد حاول العلاّمة الطباطبائي(قدس سره) تصحيح سندها استناداً إلى أنّ الشيخ قال في حقّه : له أصل ، وقال النجاشي : له كتاب(4) . قال : إنّ تسمية كتابه أصلا ممّا يشهد بحسن حاله واعتبار كتابه ، فإنّ الأصل في إصطلاح المحدّثين من أصحابنا بمعنى الكتاب المعتمد الذي لم ينتزع من كتاب آخر ، وليس بمعنى مطلق الكتاب ; ولهذا نقل عن المفيد(قدس سره) أنّه قال : صنّفت الإماميّة من عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عهد
- (1) مستدرك الوسائل: 17 / 38، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة ب2 ح1.
- (2) بحار الأنوار: 79 / 177.
- (3) راجع الفهرست للشيخ الطوسي: 130 رقم 300.
- (4) رجال النجاشي: 174 رقم 460.
(الصفحة 446)
أبي محمّد الحسن العسكري (عليه السلام) أربعمائة كتاب تسمّى «الأصول»(1) ومعلوم أنّ مصنّفات الإماميّة فيما ذكر من المدّة تزيد على ذلك بكثير ، كما يشهد به تتبّع كتب الرجال ، فالأصل أخصّ من الكتاب ، ولا يكفي فيه مجرّد عدم انتزاعه من كتاب آخر ، بل لابدّ أن يكون معتمداً .
وقال أيضاً : إنّ «الأصل» يؤخذ في كلمات الأصحاب مدحاً لصاحبه ووجهاً للاعتماد على ما تضمنّه ، وربّما يضعّفون بعض الروايات لعدم وجدان متنها في شيء من الأصول ـ إلى أن قال :ـ إنّ سكوت ابن الغضائري عن الطعن فيه مع طعنه في جملة من المشايخ يدلّ على وثاقته ، حتّى قيل : «السالم من رجال الحديث من سلم من طعنه» ، ومع ذلك لم يطعن فيه ، بل قال : إنّ زيد النرسي وزيد الزّراد قد رويا عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال أبو جعفر بن بابويه : إنّ كتابهما موضوع وضعه محمّد بن موسى السمان ، وغلط أبو جعفر في هذا القول ، فإنّي رأيت كتبهما عُتقاً مسموعة من محمّد بن أبي عمير(2) انتهى(3) .
ويؤيّده أنّ ابن أبي عمير قد روى عنه وعن كتابه(4) وهو لا يروي ولا يرسل إلاّ عن ثقة ، مع أنّه من أصحاب الإجماع الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم(5) ، مضافاً إلى وقوعه في سند رواية كامل الزيارات(6) ، الذي ذكر في ديباجته
- (1) معالم العلماء لابن شهراشوب: 3.
- (2) حكى في مجمع الرجال: 3 / 84 عن ابن الغضائري.
- (3) رجال السيّد بحر العلوم: 2 / 362 ـ 370.
- (4) رجال النجاشي: 174 رقم 460.
- (5) اختيار معرفة الرجال، المعروف برجال الكشي: 556 رقم 1050.
- (6) كامل الزيارات: 510 ح795.