(الصفحة 568)
المؤمنين (عليه السلام) ، فأمر الناس أن يطؤوه حتّى مات : «فالوجه في هاتين الروايتين أن نحملهما على أنّه إذا تكرّر منهم الفعل ثلاث مرّات وأقيم عليهم الحدود ، فحينئذ يجب عليهم القتل كما يجب على السارق ، والإمام مخيرّ في كيفيّة القتل كيف شاء حسب ما يراه أردع في الحال»(1) .
والظاهر أنّ مستند الحكم بوجوب القتل في هذا الفرض كما هو ظاهر الشيخ ، أو بجوازه كما هو ظاهر مثل المفيد ، إن كان هي الروايات الحاكية لهذه القصّة ، نظراً إلى ظهور «النبّاش» فيمن تكرّر منه النبش ، فيرد عليه ـ مضافاً إلى منع الظهور ; لورود النبّاش في كثير من الروايات المتقدّمة مع أنّه لم يرد منه إلاّ من تحقّق النبش لا من تكرّر منه ، ويؤيّده عدم معهوديّة استعمال النابش الذي هو إسم الفاعل ـ أنّه ليس في شيء منها الإشعار بفوت السلطان أو الهرب منه .
وإن كان المستند هو عنوان الإفساد ، كما يظهر من تعليل المحقّق(2) الحكم بجواز القتل بالردع الظاهر في ردع الغير عن الفساد ، فيرد عليه أنّ تقييد فرض المسألة بصورة الهرب من السلطان ـ مع أنّ تحقّق عنوان الإفساد في صورة إقامة الحدّ عليه أوضح ـ لا يلائم ذلك .
ويمكن الاستدلال بما ورد من أنّ أصحاب الكبائر إذا اقيم عليهم الحدّ مرّتين قتلوا في الثالثة(3) ، بناءً على ثبوت القطع في النبش المجرّد ، أو القول بشمول الحدّ في الرواية للتعزير ، ولكنّه إنّما يتمّ فيما فرضه الشيخ ، لا فيما فرضه المفيد ، فتدبّر .
- (1) الإستبصار: 4 / 248.
- (2) شرائع الإسلام: 4 / 955.
- (3) وسائل الشيعة: 18 / 313، أبواب مقدّمات الحدود ب5 ح1.
(الصفحة 569)
القول فيما يثبت به
مسألة 1 : يثبت الحدّ بالإقرار بموجبه مرّتين وبشهادة عدلين ، ولو أقرّ مرّةً واحدةً لا يقطع ، ولكن يؤخذ المال منه ، ولا يقطع بشهادة النساء منضمّات ولا منفردات ، ولا بشاهد ويمين 1.
1 ـ لا إشكال ولا خلاف في ثبوت السرقة الموجبة للقطع بشهادة عدلين ; لعموم ما دلّ على حجيّة البيّنة ، مضافاً إلى دلالة بعض الروايات الآتية عليه . وأمّا الإقرار ، فالمعروف بين الأصحاب هو اعتبار التعدّد ، بل في كشف اللثام نسبته إلى قطعهم(1) ، بل عن الخلاف الإجماع عليه(2) .
نعم ، حكي عن المقنع الإجتزاء بالمرّة عند الإمام(3) .
- (1) كشف اللثام: 2 / 427.
- (2) الخلاف: 5 / 443 مسألة 40.
- (3) حكاه عن المقنع العلاّمة في المختلف: 9 / 224. ولكن قال في المقنع: 488: «والحرّ إذا أقرّ على نفسه لم يقطع».
(الصفحة 570)
ويدلّ على اعتبار التعدّد ـ مضافاً إلى ما ربما يقال من أنّ المتسالم عليه بين الأصحاب أنّه لا يكتفى في باب الحدود بالإقرار مرّة واحدة ، وإن كان الظاهر أنّ هذا التسالم على تقدير تحقّقه لا يكون إجماعاً كاشفاً عن رأي المعصوم (عليه السلام)وموافقته ، لابتنائه على الأدلّة الواردة في كلّ حدّ ـ الروايات المتعدّدة ، التي عمدتها صحيحة أبان بن عثمان ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّه قال : كنت عند عيسى بن موسى فاُتي بسارق وعنده رجل من آل عمر ، فأقبل يسألني ، فقلت : ما تقول في السارق إذا أقرّ على نفسه أنّه سرق؟ قال : يقطع ، قلت : فما تقول في الزنا إذا أقرّ على نفسه مرّات؟ قال : نرجمه ، قلت : وما يمنعكم من السارق إذا أقرّ على نفسه مرّتين أن تقطعوه فيكون بمنزلة الزاني(1) .
والظاهر وضوح دلالتها على اعتبار التعدّد ، والمراد من قوله (عليه السلام) : «فيكون بمنزلة الزاني» أنّه حيث يكون الإقرار بمنزلة الشهادة ; ولذا عبّر عنه بها في بعض الروايات خصوصاً ما ورد منها في باب الزنا ، فكما أنّ اعتبار أربع شهادات في باب الزنا يقتضي اعتبار تعدّد الإقرار أربعاً ، فكذلك اعتبار شهادتين في باب السرقة يقتضي اعتبار الإقرار مرّتين ، وعلى أيٍّ فدلالة الرواية في المقام ظاهرة ، ودعوى كونها لا تبلغ حدّ الدلالة ، بل فيها مجرّد الإشعار ممنوعة جدّاً .
ويؤيّده مرسلة جميل بن درّاج ، عن بعض أصحابنا ، عن أحدهما (عليهما السلام) في حديث ، قال : لا يقطع السارق حتّى يقرّ بالسرقة مرّتين ، فإن رجع ضمن السرقة ، ولم يقطع إذا لم يكن شهود(2) .
- (1) وسائل الشيعة: 18 / 488، أبواب حدّ السرقة ب3 ح4.
- (2) وسائل الشيعة: 18 / 487، أبواب حدّ السرقة ب3 ح1.
(الصفحة 571)
ورواية اُخرى لجميل ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : لا يقطع السارق حتّى يقرّ بالسرقة مرّتين ، ولا يرجم الزاني حتّى يقرّ أربع مرّات(1) .
ولكن إرسال الاُولى وضعف الثانية بعليّ بن السندي يمنع عن الاستدلال بهما .
وفي مقابلهما روايتان :
إحداهما : صحيحة الفضيل ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : إن أقرّ الرجل الحرّ على نفسه مرّة واحدة عند الإمام قطع(2) .
وهل المراد بالإمام هو الإمام المعصوم (عليه السلام) ، فتكون الرواية ناظرة إلى اختصاصه (عليه السلام) بكفاية الإقرار مرّة واحدة عنده ، أو الأعمّ منه ومن الحاكم ، وعليه فيكون محطّ نظر الرواية : أنّ نفس الإقرار إذا كان عند الحاكم يكفي مرّة ، وأمّا إذا كان عند غيره وقامت البيّنة عليه عند الحاكم فلا يكفي المرّة ، ولعلّه مراد ما عن المختلف من احتمال مخالفة الإقرار عند الإمام الإقرار عند غيره ; لأنّ الإنسان يحترز عند الإمام ويتحفّظ من الإقرار بما يوجب العقوبة ، بل غالباً إنّما يقرّ عنده إذا أقرّ عند غيره ، فلهذا يقطع بالإقرار مرّة واحدة(3) .
ثمّ إنّ صاحب الجواهر(قدس سره) قد نقل الصحيحة هكذا : «إذا أقرّ على نفسه بالسرقة مرّة واحدة قطع» ولذا أورد على الإستدلال بها للمقنع تارة بأنّه لم يقع فيها التقييد بكون الإقرار عند الإمام كما هو المحكيّ عنه ، واُخرى بأنّه يحتمل أن يكون الظرف ـ أي مرّة واحدة ـ متعلّقاً بالسرقة ، وعليه فتكون الرواية مجملة من جهة عدد الإقرار ، قال : ويقربه إمكان توهّم المخاطب أو بعض الحاضرين في المجلس أنّه
- (1) وسائل الشيعة: 18 / 488، أبواب حدّ السرقة ب3 ح6.
- (2) وسائل الشيعة: 18 / 488، أبواب حدّ السرقة ب3 ح3.
- (3) مختلف الشيعة: 9 / 224.
(الصفحة 572)
لا قطع ما لم تتكرّر السرقة(1) .
وأنت خبير بثبوت كلمة «عند الإمام» في الصحيحة ، وعدم ثبوت كلمة «السرقة» حتّى يحتمل تعلّق الظرف بها ، مع أنّه على تقدير وجودها يكون هذا الحمل خلاف الظاهر ، كما أنّ احتمال أن يكون القطع في الصحيحة بمعنى القطع عن الإقرار ثانياً خلاف الظاهر جدّاً ، خصوصاً على ما نقلناه من عدم الاشتمال على كلمة «السرقة» واستفادة كونها المراد من كلمة «القطع» المذكورة فيها ، كما لا يخفى .
ثانيتهما : صحيحته الاُخرى قال : سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : من أقرّ على نفسه عند الإمام بحقّ من حدود الله مرّة واحدة ، حرّاً كان أو عبداً ، أو حرّة كانت أو أمة ، فعلى الإمام أن يقيم الحدّ عليه للذي أقرّ به على نفسه كائناً من كان إلاّ الزاني المحصن ، فإنّه لا يرجمه حتّى يشهد عليه أربعة شهداء ، فإذا شهدوا ضربه الحدّ مائة جلدة ، ثمّ يرجمه .
قال : وقال أبو عبدالله (عليه السلام) : ومن أقرّ على نفسه عند الإمام بحقّ حدّ من حدود الله في حقوق المسلمين ، فليس على الإمام أن يقيم عليه الحدّ الذي (للذي ظ) أقرّ به عنده حتّى يحضر صاحب الحقّ أو وليّه فيطالبه بحقّه ، قال : فقال له بعض أصحابنا : يا أبا عبدالله فما هذه الحدود التي إذا أقرّ بها عند الإمام مرّة واحدة على نفسه اُقيم عليه الحدّ فيها؟ فقال : إذا أقرّ على نفسه عند الإمام بسرقة قطعه ، فهذا من حقوق الله ، وإذا أقرّ على نفسه أنّه شرب خمراً حدّه ، فهذا من حقوق الله ، وإذا أقرّ على نفسه بالزنا وهو غير محصن فهذا من حقوق الله . قال : وأمّا حقوق
- (1) جواهر الكلام: 41 / 522 ـ 523.