(الصفحة 117)
أحدها : أ نّه كان يزعم أ نّ النبوّة متقوّمة بالادّعاء ، وأ نّه ليس لها حقيقة وواقعيّة ، راجعة إلى الارتباط الخاصّ بمبدإ الوحي والبعث من قبله ، وذلك لاستدعاء مسيلمة التشريك من النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وجعله دخيلاً في نبوّته سهيماً فيها ، ويدلّ عليه أيضاً خلوّ كتابه عن التحدّي الذي هو الركن في باب تحقّق المعجزة .
ثانيها : اعترافه في مكتوبه الذي أرسله إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) في العام العاشر من الهجرة ; بأ نّه أيضاً مثله نبيّ ورسول ، حيث يقول فيه: «من مسيلمة رسول الله إلى محمّد رسول الله ، أمّا بعد; فإنّي قد اُشركت إلخ»(1) مع أنّ من الواضح أنّ رسالة النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم تكن محدودة من حيث الزمان والمكان ، بل كانت رسالة مطلقة عامّة ثابتة إلى يوم القيامة ; ولذا أخبر بأنّه مع اجتماع الإنس والجنّ على الإتيان بمثل القرآن لا يكاد يتحقّق ذلك ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً(2) .
وحينئذ فإمّا أن يكون مسيلمة مصدّقاً لهذه الداعية ومعتقداً لها ، فلازمه التصديق بعدم وجود رسول آخر ، وبعجزه عن الإتيان بما يماثل القرآن ، وأ نّ ما أتى به لا ينطبق عليه هذا العنوان ، فكيف يدّعي النبوّة لنفسه أيضاً مع اعترافه بالقصور والعجز ؟
وإ مّا أن يكون مكذِّباً لتلك الداعية ، ومعتقداً بجواز الإتيان بمثله وأ نّه قد أتى به ، فلِمَ صدّق النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالرسالة ، ووصفه بأنّه أيضاً نبيّ مثله في مكتوبه الذي أرسل إليه ؟
ولعمري ، أنّ هذا أيضاً دليل واضح على أنّه كان يزعم أنّ النبوّة نوع من السلطنة الظاهريّة ، والزعامة الدنيويّة ، وليس لها حقيقة وواقعيّة .
ثالثها : أ نّ ما أتى به بعنوان الوحي ـ الذي قد اُوحي به إليه بزعمه من الله
- (1) تقدّم في ص109 .
(2) اقتباس من سورة الإسراء 17: 88 .
(الصفحة 118)
السبحان ، بواسطة ملك اسمه الرّحمن ، وقد تقدّم نقل جملة منه ـ إن كان الباحث الناظر قادراً على مقايسته مع القرآن ، وتشخيص عدم كونه في مرتبته بوجه ، كما هو الظاهر لمن له أدنى اطّلاع من فنون الأدب واللغة العربيّة ، وإلاّ فالدليل على عدم اتّصافه بوصف المماثلة والمعارضة ما يستفاد ممّا ذكرنا سابقاً ; وهو أنّه لو كانت تلك الجملات المضحكة والكلمات السخيفة قابلةً لمعارضة القرآن ; لاستند بها المعاندون ـ على كثرتهم ـ وفيهم البلغاء ، والمخالفون ـ مع عدم قلّتهم ـ ، وفيهم الفصحاء ، ولما كان وجه لبقاء المسلمين على عقيدتهم ; لوضوح عدم كونها ناشئة عن التعصّب القومي ، بل كانت مستندة إلى الدليل والبرهان ، ومن المعلوم أ نّ قوام الدليل بعدم وجود المعارض ، فمع وجوده لا يبقى له مجال .
فإذن: الدليل الواضح على نقصان مرتبة تلك الكلمات عدم اعتناء المخالف والمؤالف بها ، مع أنّ المعاندين كانوا يتشبّثون بكلّ حشيش لإطفاء نور النبوّه ، وسلب وصف الإعجاز عن المعجزة الباقية الوحيدة، وتضعيف الاُمّة الإسلاميّة بكلّ حيلة ، وترويج الملّة الباطلة بكلّ طريقة ، كما هو غير خفيّ على من له أدنى بصيرة .
2 ـ سجاح بنت الحارث بن سويد
تنبّأت بعد موت رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالجزيرة في بني تغلب ، فاستجاب لها الهذيل ، وترك التنصّر ، وهؤلاء الرؤساء الذين أقبلوا معها لتغزو بهم أبا بكر ، فلمّا انتهت إلى الحزن راسلت مالك بن نويرة ودعته إلى الموادعة ، فأجابها ، وفثأها عن غزوها ، وحملها على أحياء من بني تميم . قالت: نعم ، فشأنك بمن رأيت ; فإنّي إنّما أنا امرأة من بني يربوع ، وإن كان ملك فالملك ملككم(1) .
- (1) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 269 ، أحداث سنة 11 هـ ، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 2 / 210 .
(الصفحة 119)
وكانت راسخة في النصرانيّة ، قد علمت من علم نصارى تغلب ، وأمرت متابعيها بالتوجّه إلى اليمامة ، والمنازعة مع مسيلمة ، فقالوا: إنّ شوكة أهل اليمامة شديدة ، وقد غلظ أمر مسيلمة ، فقالت : «عليكم باليمامة ودفّوا دفيف الحمامة ; فإنّها غزوة صرّامة ، لا يلحقكم بعدها ملامة » ، فنهدت لبني حنيفة ، وبلغ ذلك مسيلمة فهابها ، وخاف إن هو شغل بها أن يغلبه مخالفوه ، فأهدى لها ، ثمّ أرسل إليها يستأمنها على نفسه حتّى يأتيها ، فنزلت الجنود على الأمواه ، وأذنت له وآمنته ، فجاءها وافداً في أربعين من بني حنيفة(1) .
وفي رواية اُخرى: أ نّ مسيلمة لمّا نزلت به سجاح أغلق الحصن دونها ، فقالت له سجاح : انزل ، قال: فنحِّي عنك أصحابك ، ففعلت ، فقال مسيلمة : اِضربوا لها قبّة ، وجمّروها لعلّها تذكر الباه ، ففعلوا ، فلمّا دخلت القبّة نزل مسيلمة فقال: ليقف هاهنا عشرة ، وهاهنا عشرة ، ثمّ دارسها ، فقال: ما اُوحي إليك؟ فقالت: هل تكون النساء يبتدئن ، ولكن أنت قُل ما اُوحي إليك ؟ قال : «ألم تر إلى ربّك كيف فعل بالحُبلى أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشى؟» .
قالت : وماذا أيضاً؟ قال: «أوحي إليّ : أنّ الله خلق النساء أفراجاً ، وجعل الرجال لهنّ أزواجاً ، فنولج فيها قُعساً إيلاجاً ، ثمّ نخرجها إذا نشاء إخراجاً ، فيُنتَجن لنا سخالاً إنتاجاً» ، قالت: أشهد أنّك نبيّ ، قال: هل لك أن أتزوّجك فآكل بقومي وقومك العرب؟ قالت: نعم ، ـ إلى أن قال : ـ بذلك اُوحي إليّ ، فأقامت عنده ثلاثاً ثمّ انصرفت إلى قومها ، فقالوا: ما عندك؟ قالت: كان على الحقّ فاتّبعته فتزوّجته ، قالوا: فهل أصدَقَك شيئاً؟ قالت: لا ، قالوا: ارجعي إليه فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق ، فرجعت ، فلمّا رآها مسيلمة أغلق الحصن ، وقال: ما لكِ؟ قالت: اصدقني صداقاً ، قال: من مؤذِّنك؟ قالت: شبث بن ربعي الرياحي ، قال: عليَّ به ، فجاء
- (1) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 271 ـ 272 ، أحداث سنة 11 هـ ، الكامل في التأريخ: 2 / 210 .
(الصفحة 120)
فقال: ناد في أصحابك أنّ مسيلمة بن حبيب رسول الله ، قد وضع عنكم صلاتين ممّا أتاكم به محمّد: صلاة العشاء الآخرة ، وصلاة الفجر .
وعن الكلبي أ نّ مشيخة بني تميم حدّثوه: أنّ عامّة بني تميم بالرمل لايصلّونهما فانصرفت ومعها أصحابها(1) .
وفي رواية : صالحها على أن يحمل إليها النصف من غلاّت اليمامة ، وأبت إلاّ السنة المقبلة يُسلقها، فباح لها بذلك ، وقال: خلّفي على السلف من يجمعه لك ، وانصرفي أنت بنصف العام ، فرجع فحمل إليها النصف ، فاحتملته وانصرفت به إلى الجزيرة ، وخلّفت الهذيل وعُقّة وزياداً لينجز النصف الباقي (2) .
وكان من جملة ما تدّعي أ نّه الوحي ، قولها: «يا أيّها المؤمنون المتّقون لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ، ولكنّ قريشاً قوم يعتدون»(3) . ولكنّها أسلمت آخر الأمر (4) ، وارتدّت عن دعواها النبوّة ، وأثبتت أنّ دعواها كانت لغرض الزواج من مسيلمة الكذّاب(5) .
والإنصاف: أ نّ اجتماع الكذّابين ، وازدواج المنحرفين فيه من الكفاءة في البين ما لا يخفى ، وحال الثمرة الحاصلة أوضح .
3 ـ عبهلة بن كعب، المعروف بالأسود، كذّاب العنسي ذو الخمار
لأ نّه كان يدّعي الوحي إليه بسبب ملك له خمار (6) ، كان كاهناً شعباذاً ، وكان
- (1) تاريخ الاُمم والملوك للطبري : 3 / 273 ـ 274 ، الكامل في التأريخ لابن الأثير: 2 / 211 .
(2) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 275 ، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 2 / 212 .
(3) وهي كلمة مسيلمة ، تاريخ الطبري: 3 / 146 .
(4) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 275 ، الكامل في التأريخ لابن الأثير: 2 / 212 .
(5) اُنظر في ترجمتها إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة ، مصطفى صادق الرافعي: 123 ـ 124 .
(6) كان يلقّب ذا الخمار ; لأ نّه كان معتمّاً متخمّراً أبداً ، هذا ما ذكره ابن الأثير في الكامل : 2 / 196 . وفيما قال مصطفى صادق الرافعي في إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة ص122: «يلقّب ذا الخمار ; لأنّه كان يقول: يأتيني ذو خمار» .
(الصفحة 121)
يريهم الأعاجيب ، ويسبي قلوب من سمع منطقه ، وهو الذي عبّر عنه النبيّ (صلى الله عليه وآله) في قصّة الرؤيا المتقدّمة بصاحب اليمن (1).
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) جمع لباذام ـ حين أسلم وأسلمت اليمن ـ عمل اليمن كلّها ، وأمّره على جميع مخالفيها ، فلم يزل عامل رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيّام حياته ، فلم يعزله عنها ولا عن شيء منها ، ولا أشرك معه فيها شريكاً حتّى مات باذام ، فلمّا مات فرّق عملها بين جماعة من أصحابه ، وكان من تلك الجماعة ابن باذام المسمّى بـ «شهر» إلى أن توجّه الأسود نحو صنعاء اليمن ، وكان معه سبعمائة فارس يوم لقي شهراً سوى الركبان . . . وقد خرج إليه شهر بن باذام الذي كان عاملاً على صنعاء ، وقاتله وقتل ابن باذام ، وغلب الأسود على صنعاء ، وتزوّج امرأة شهر، وهي ابنة عمّ فيروز الذي أسند الأسود أمر الأبناء إليه وإلى داذويه .
وفي هذا الزمان كتب إليهم النبيّ (صلى الله عليه وآله) بكتاب يأمرهم فيه بالقيام على دينهم ، والنهوض في الحرب ، والعمل في الأسود ، إمّا غيلة وإمّا مصادمة . فعزموا على قتله . . . وأخبروا بعزيمتهم امرأته ، ووافقتهم على ذلك ، وهدتهم على كيفيّة الوصول إليه بقولها : هو متحرّز متحرّس ، وليس من القصر شيء إلاّ والحرس محيطون به غير هذا البيت . . . فإذا أمسيتم فانقبوا عليه ، فإنّكم من دون الحرس ، وليس دون قتله شيء ، وقالت: إنّكم ستجدون فيه سراجاً وسلاحاً . . .
قالوا: ففعلنا مثل ما قالت . . . فنقبنا البيت من خارج ، ثمّ دخلنا وفيه سراج تحت جفنة . . . ، وإذا المرأة جالسة . . . فعاجله [ فيروز] فخالطه وهو مثل الجمل ، فأخذ برأسه فقتله فدقّ عنقه ، ووضع ركبته في ظهره فدقّه ، ثمّ قام ليخرج ،